الانتخابات العراقية.. قراءة في ضوء السياسة الشرعية

 

إنّ التغيير السياسي الإيجابي نحو الأقرب إلى الصلاح والأبعد عن الفساد مطلب شرعي، ومقصد معتبر لحفظ الضروريات العامة والخاصة، يقول الله تعالى على لسان أحد أنبيائه: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (هود: 88)، وقد شرع الإسلام وسائل عدة لحفظ الحقوق السياسية أو التداول السلمي للسلطة، ووظف الفقه الإسلامي إجراءات سياسية عملية متجددة ومتطورة لا تخالف أصول الشريعة أو مقاصدها الكلية؛ لتحقيق التغيير وتصحيح المسار السياسي، والاعتداد بهذه الوسيلة أو تلك الأداة أو ذلك الإجراء، يتأثر بحالة المسلمين تمكيناً واستضعافاً، ونوع الحكم وطبيعة القوى الدولية، وإمكانية تحقيق المصالح كلها أو جلّها، ودرء المفاسد أو تقليلها، ولعل من أهم الوسائل النافعة والإجراءات المحققة للتغيير ما يكون منطلقها من الداخل على مستوى النفس أو المجتمع، يقول الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11).

يجب مراعاة أهلية من يتصدر للتغيير بأن يكون جامعاً لمعاني الشخصية القيادية من الأمانة والعدالة والخبرة

ومع تنوع وسائل التغيير السياسي وأساليب تداول السلطة وتأثرها بتطور الأنظمة وحركة المجتمعات، فالشريعة الإسلامية أكدت الالتزام بالمبادئ العامة التي قررتها لبناء منظومة السياسة الشرعية، ولم تغفل مطلقاً عن وجوب مراعاة ثلاثة أمور عظيمة، تتعلق بعناصر التغيير السياسي الإيجابي والتداول السلمي، وهي:

1- أهلية من يتصدر للتغيير: بأن يكون جامعاً لمعاني الشخصية القيادية المتمثلة بقوة الشخصية والأمانة والعدالة والخبرة العلمية والعملية، والتمكن فلا يخضع لضغوط تؤثر على ثباته على مواقفه وتصرفاته المشروعة والمنضبطة، فتحقق الأهلية فيمن يتصدر يغني عن طبيعة آلية الاختيار.

2- مشروعية المقصد من التغيير أو إيجابيته: ويتجلى ذلك في تحقيق مصالح العباد بجلب المنافع أو تكميلها، ودفع المفاسد أو تقليلها، وأن تكون حقيقية غير متوهمة، عامة غير خاصة، كلية وليست جزئية ضيقة، أو حزبية قاصرة.

3- انضباط وسيلة التغيير وأداة تصحيح المسار السياسي: فلا يكون شرّها في غالب الظن أكبر، وفساد استخدامها أشدّ، ومآلها إلى حال أسوأ، وأن تكون متاحة، لا يتعسر استعمالها ولا يصعب تطبيقها ولا يتعذر ضبطها؛ لأنه إذا أردت أن تطاع فاطلب بما يستطاع.

بلد مستضعف

وبناء على قاعدة “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”، فإن توصيف الحال السياسية للعراق: أنه بلد مستضعف تكالبت عليه قوى الاستكبار والشر وأجندات التطرف والتبعية، فقوضت سيادته، وتنتهك القوانين المدنية التي تحكمه وينخر فيه الفساد، وأنهكه تفرق أبنائه وتشرذم مكوناته، وأوهنه تقويض هويته ونهب ثرواته، وأثخن جراحاته أنّ أكثر من تولى زمام أمره وتصدر مشهده السياسي الإمعة النفعيون الذين يستمدون من سياسة الإقصاء أو الخضوع قوة نفوذهم أو ديمومة بقائهم بعيداً عن سيادة العراق واستقراره وازدهاره أو الحرص على مصالح العراقيين.

وقد برزت خلال الحقبة السابقة مشاريع إصلاح ووسائل تغيير متنوعة الأساليب، ولكنها نجحت مرحلياً وفشلت في التمكن أو الوصول إلى مرحلة الاستقرار والازدهار والبناء والتعايش السلمي، أو تحقيق المشروع الوطني المدني الجامع المتكامل.

عملية الانتخاب لأجل اختيار الأنسب معهودة في الشرع لتحقيق التمثيل الأمثل والتداول السلمي

كما أنّ عملية الانتخاب لأجل اختيار الأنسب معهودة في الشرع، بقصد تحقيق التمثيل الأمثل لمكونهم أو لأجل التداول السلمي للسلطة، وتنظيم إدارة الحكم في البلاد، واحترام إرادة الشعب في التغيير عبر عملية سياسية قائمة عليها، وهي وإن لم تستكمل أدوات استقلالها وإتقانها التام، تمثل إحدى أدوات التغيير المعاصرة، ووسائله السلمية المتاحة، وخياراً واقعياً ممكناً ومتدرجاً في تحقيق المصالح العليا لأبناء الشعب العراقي كافة وممهداً للحكم الرشيد.

أولاً: إن الأمة أو الشعوب تختار أصلح الطرق وأنفع الوسائل المحققة لمصالحها المعتبرة بما لا يخالف الشرع، وإنّ عملية الانتخابات في العراق في ظل الظروف الراهنة، وسيلة معتبرة ومتاحة وممكنة لتحقيق المصالح العامة وتصحيح المسار السياسي ولو تدريجياً، وأصل المشاركة فيها مسألة اجتهادية، وقد تكون من باب الأخذ بالرخصة لأجل دفع ضرر أو جلب منفعة، أو إباحة ممارسة الحق السياسي مع مراعاة ضوابط اعتبارها.

ثانياً: إنّ التصويت مثلما أنّه حقّ شرعي ودستوري يندرج ضمن الحقوق السياسية المباحة للمواطن، إلا أن على صاحبه واجبات تتجلى في استشعار المسؤولية الشرعية والوطنية عند ممارسة هذا الحق لأنه يمثل أمانة وشهادة لمن يصوت له، والتفريط في هذا الحق سيوسع دائرة التزوير، ومآله إلى مصادرة إرادة الناخبين الراغبين بحق في تصحيح المسار السياسي والتغيير الإيجابي.

ثالثاً: من الواجبات المتعلقة بحق التصويت أن يمنح صوته لمن له أهلية سياسية وشخصية قيادية تجمع القوة والأمانة والعدالة والاستقامة، والعلم والخبرة والتخطيط الواعي وحسن السياسة والتدبير، وامتلاك إرادة الإصلاح والعزم على التغيير نحو الأفضل، وقد يتعذر أن تجتمع كل الصفات القيادية في مرشح فيقدم الأقدر على أداء المهام وتحمل المسؤولية، وقد نبه كثير من الفقهاء في مسألة اختيار الولاة والحكام إلى مراعاة ما يوجبه حكم الوقت والأنفع للأمة، فإن كانت الحاجة إلى فضل شجاعة كان الأشجع أحق، وإن كانت الحاجة إلى فضل علم فالأعلم أحق، وإن كانت الحاجة إلى فضل خبرة، فالأكثر خبرة أحق.

ليس كل جديد يتمتع بأهلية سياسية قادرة على التغيير فيجب التحري عمن يغلب على الظن قدرته على التغيير

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسية الشرعية: “اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يقول: اللهم أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها؛ فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع -وإن كان فيه فجور- على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أميناً؛ كما سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؛ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه؛ وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيُغزى مع القوي الفاجر”.

رابعاً: لا ينبغي التصويت لمن ثبت فساده وضعفه وخضوعه لأجندات فئوية ضيقة، أو خارجية أسهمت في تدمير البلد ونهب ثرواته، أو ثبت طغيانه واستبداده مما أدى إلى تقويض سيادته وتعطيل ازدهاره وتقدمه وتعزيز تبعيته، وتمزيق نسيجه الاجتماعي وتهديد سلمه الأهلي، والتفريط بحقوق من يمثلهم والمتاجرة بها.

خامساً: ليس كل جديد يتمتع بأهلية سياسية قادرة على التغيير الإيجابي، ولذا ينبغي عدم الانسياق وراء توصيفات لا تثبت أمام المعايير الحقيقية لهذه الأهلية، ولا بدّ من التحري عمن يغلب على الظن قدرته السياسية على التغيير الإيجابي.

سادساً: إنّ اعتماد نظام الدوائر المتعددة يعطي فرصة في اختيار المرشح الذي يملك الأهلية السياسية، كما سيؤدي إلى التحجيم التدريجي لنفوذ الكتل المسيطرة، وهيمنة القوائم الانتخابية التي يختلط فيها الصالح بالطالح، وكانت الأصوات فيها تذهب إلى المفسد، الذي استغل نفوذه أو المال السياسي ورضا الآخر؛ ليضمن الفوز والتصدر في القائمة أو التحكم بتدوير الأصوات.

مع التأكيد والتحذير من كثرة المرشحين في الدائرة الواحدة لأنه سيؤدي إلى تشتت الأصوات ومن ثم ضياعها.

إذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة قدم أنفعهما لتلك الولاية وأقلهما ضرراً فيها

سابعاً: إن حيازة بطاقة الناخب تضمن عدم استغلالها وتحفظ حق صاحبها مهما كان موقفه من العملية السياسية (معها أو ضدها)، ولذا ينبغي الحرص على حيازتها، ولا يجوز بيع بطاقات الناخب، سداً للذريعة؛ ولأنه طريق لاستحواذ المرشح الفاسد المفسد في تعزيز رصيده كما فيه تهاون في الشهادة وإضاعة للأمانة وتفريط بالمسؤولية، ويفتح باباً للرشوة والغش والتزوير، وهو إعانة على الإثم وزيادة في الفساد وتقوية للمفسدين، وتمكيناً للمشاريع الهدامة.

ثامناً: ضرورة الأخذ بكل الإجراءات الاحترازية المهنية المعتمدة دولياً التي تضمن نزاهة عملية الانتخابات في مراحلها كافة أو على الأقل تقلل التلاعب بنتائجها، وعلى الجهات المعنية مراعاة ذلك، وهذا يشجع المتخوف ويعزز نسبة مشاركة الراغبين بالتغيير فيها.

 

 

 

________________________________________________

(*) عضو الهيئة العليا للمجمع الفقهي العراقي.

Exit mobile version