يوم المعلم.. بين تكريم المجتمع وتقليدٍ مُتّبَع

 

إذا طلب منك ابن أو صديق لك أن تساعده في كتابة مقال عن فضل المعلم فإنك –من غير شك- لن تحتاج إلى عناء كبير، فما عليك إلا أن تكتب باللغة العربية على أحد محركات البحث: “فضل المعلم”، أو “مكانة العلم في الإسلام”، “أو منزلة المعلم”.. إلى آخر تلك المتوالية التي تكون كلمتا “العلم والمعلم” هما القاسم المشترك فيها، وستأتيك النتائج على الفور تترا بما يسعفك لا لكتابة مقالة فحسب بل لتأليف كتاب إذا أردت ذلك، وهذا ليس بالشيء المعيب على عِلّاته، وإنما المعيب حقًا أن تكون الإشادة بدور المعلم وأثره مجرد كلام ليس له ما يؤيده من حقيقة، ولا ما يدعمه من واقع معيش، وهذه معضلة كبيرة نعاني منها في عالمنا العربي على كثير من الأصعدة، في طليعتها قضية التعليم والمعلم.

التكريم الحقيقي للمعلم أن يرى احترامًا في عيون طلابه.. واعترافًا من وطنه بأنه أحد بُناة نهضته

جميلٌ أن يكون للمعلم يومٌ للاحتفاء به، وتذكير الناس بفضله بعد فضل الله عز وجل، ولكنّ الأجمل أن يكون فضله ممتدًا، وتكريمه مستمرًا على مدار أيام العام، ولا تظننّ –رحمني الله وإياك- أن تكريم المعلم يكون بشهادة تقدير، أو وسام تكريم حتى إذا انقضى ذاك اليوم انفض الناس من حوله، وعاد المعلم ودوره وأثره إلى أودية النسيان، ومسارب التجاهل والتغافل إلى أن يحين مثل هذا اليوم من العام المقبل إن أحيانا الله وأحياه! وإنما التكريم الحقيقي الذي يريده المعلم هو أن يرى احترامًا في عيون طلابه، وتقديرًا في نظرة المجتمع له، واعترافًا من وطنه بأنه أحد بُناة نهضته، هذا، على مستوى الشق المعنوي فإذا ما جئنا إلى الشق المادي –والشقان في نظري هنا توأمان- فإنني لا أجد أفضل مما ردت به المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على القضاة المحتجين الذين جاؤوا إليها مطالبين إياها بأن تساوي رواتبهم برواتب المعلمين في ألمانيا فأجابتهم بسؤال استنكاري: “كيف أُساويكم بمن علّموكم؟!”، إنه ليس انتقاصًا من دور القضاة فمكانتهم محفوظة، وإنما أرادت أن تلفت نظرهم ونظر المجتمع كله إلى أن العلم والمعلم هما مبتدأ أي نهضة ومنتهاها، ولسنا –على أية حال– بحاجة إلى مقولة ميركل، ولا ينقصنا في تراثنا العربي والإسلامي ما يفوق ما أدْلَت به المستشارة الألمانية تطبيقًا لا تنظيرًا، إذ يكفيك أن تقلب صفحات التاريخ لتجد نماذج عملية حية عن تبجيل المعلم، والاعتراف بفضله، فهذا مثلًا هارون الرشيد يرى -بأُمّ عينيه- ابنيه ” الأمينُ والمأمونُ ” وهما يتسابقان إلى نعلي شيخهما ومؤدبهما [ قيل الكسائي، وقيل الأصمعي] أيهما يحملهما أولًا ليقدمهما له إكراما وتقديرا لمكانته، فلم ينكر عليهما صنيعهما بل أعجبه ما رأى منهما، وأَكْبرَ صنيعهما، وفي اليومِ التالي، سألَ الخليفةُ مُعَلِّمَ وَلَدْيهِ: ترى مَنْ أعزُّ النّاسِ؟ أجابَ المعلم: من أعزُّ منك يا أميرَ المؤمنين؟! قالَ الرشيدُ: بلْ أعزُّ الناسِ مَنْ يَتَسابقُ ولدا أميرِ المؤمنينَ، ووليا عهده لتقديمِ الحذاءِ له وإلباسه إياه، وأردف قائلًا: ” لقد سرني ما قاما به، إن المرء لا يكبر عن ثلاث صفات: تواضعه لسلطانه، ولوالديه، ولمعلمه…”، أرأيتم كيف عرف الخليفة للمعلم قدره؟! وفي هذا الموقف دلالات؛ منها: أن ابني أمير المؤمنين قد فعلا ذلك ولم يتحرجا فيه على مسمع ومرأى من أبيهما، ولو كان تكريم الخليفة للمعلم شكلا لا مضمونا ما كان سلوك الأبناء على هذه الشاكلة، ومنها أنّ ذاك المعلم كان من العلم بمنزلة، ومن إدراك فنون التربية بمكانٍ إلى الحد الذي بلغ به تلك المهابة والمكانة والاحترام في أنظار طلابه، وهذا ما يجب أن يكون عليه معلمونا اليوم من حيث التمكن العلمي، والحس التربوي، ومن حسن التصرف وسرعة البديهة، وانظر إلى رد المعلم على الخليفة لتقف على شيء من حضور الإجابة، وسرعة البديهة، والأدب في خطاب ولي الأمر.

إن مكانة المعلم في الإسلام لا ينكرها منصف، ولا تخطئها عين، يقول سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (الجمعة: 2)، والأميون هم العرب، قال قتادة: “كان هذا الحيّ من العرب أمة أمِّيَّة، ليس فيها كتاب يقرؤونه، فبعث الله نبيه محمدًا رحمة وهُدى يهديهم به”، “وتخصيص الأميين بالذِّكْر لا ينفي من عداهم، ولكن المنة عليهم أبلغ وآكد” (انظر: تفسير ابن كثير).

وقد وضّح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: “إن الله لم يبعثني معنِّتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلماً مُيسِّراً” (رواه مسلم)، ولعلك تلاحظ تنكير كلمة “معلمًا” في الحديث النبوي للدلالة على أنها تعم كل أنواع التعليم، وتشمل جميع أجناسه، فالإسلام دين ودولة، شريعة وحياة، ومن هنا يتأتى دور المعلم، ويظهر أثره الفاعل في طلابه؛ أن ينشّئهم على الفضيلة، ويربيهم على محاسن الأخلاق، ويغرس فيهم قيم النبل والسماحة، والعزة والكرامة، ويفتح آفاق عقولهم إلى متغيرات الحياة من حولهم ليسلحهم بعلوم الدين والدنيا معًا، فكم نحن مدينون لهذا المعلم في تربية أبنائنا! إنه شريك للأبوين في تربية أغلى ما يرجونه في حياتهم، وبعد مماتهم، ألا يستحق مَن هذا دوره كل تكريم وتبجيل، وإعزاز وتقدير؟!

المعلم شريك للأبوين في تربية أغلى ما يرجونه في حياتهم وبعد مماتهم

وتأمّل قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لم يبعثني معنِّتًا ولا متعنتًا”، جاء في لسان العرب: العَنَتُ: دُخُولُ المَشَقَّةِ على الإِنسان، ولقاءُ الشدَّةِ؛ يقال: أَعْنَتَ فلانٌ فلاناً إِعناتاً إِذا أَدْخَل عليه عَنَتاً أَي مَشَقَّةً.

فكأن النبي الكريم –بأبي هو وأمي- يلفت نظر المعلم إلى الرفق بالمتعلم، والأخذ بيده في حِلم وأناة من أجل الوصول للهدف المراد، ومن ثم نجده يستدرك فيقول صلى الله عليه وسلم: “ولكن بعثني معلماً مُيسِّراً”، ولم يعطف النبي الكريم كلمة “ميسرًا” على كلمة “معلمًا” فيقول: “معلماً وميسراً”، وإنما أتى بكلمة “ميسرًا” نعتًا لكلمة “معلمًا” للفت النظر إلى أن التيسير هو مذهب المعلم وديدنه، وأسلوبه وطريقته، فمن لم يأخذ بالتيسير والرفق في تعامله مع المتعلم فأنى له أن يكون معلّمًا؟!

إنّ أسرة ربّت في أبنائها حب المعلم وتقديره وتوقيره لهي الرابحة قبل أن يربح المعلم نفسه؛ لأنها تضمن لأبنائها السلوك القويم، وترسم أمامهم طريق الفلاح والصلاح، فمن تجرّأ على مُعلِّمِه لا يُستبعد منه الجرأة على والديه أحدهما أو كليهما، فالمبادئ كما يقال: لا تتجزأ، ومن ثم كان توقير المعلم من توقير الوالدين بل إن من العلماء من عظّم حق المعلم على حقوق الوالدين، يقول الإمام الغزالي: ” حق المعلم أعظم من حق الوالدين، فإن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية، والمعلم سبب الحياة الباقية  ” بمثل هذه المعاني تُربى الأجيال، وتنهض الأمم، وتعود هذه الأمة لسابق عهدها، فإذا أرادت هذه الأمة نهضة بعد كبوة، وإفاقة بعد طول سبات فلتكن بدايتها من هذه النقطة فهي الطريق المستقيم المؤدية إلى الهدف من أقصر سبيل، فمن هنا نبدأ.

وفي الختام أقول: إنّ للتربية جناحين لا يمكنها الطيران بأحدهما دون الآخر؛ الأسرة في بيتها، والمعلم في مدرسته ومعهده وجامعته، فإن تخلف أحدهما عن الآخر، أو أصابه العَطَب فلا تنتظر لها قيامًا ناهيك عن أن يكون تحليقًا أو طيرانًا، لذا وجب أن يسير الدَّوْرَان في اتجاه واحد، وأن يكمل أحدهما الآخر حتى ترسو السفينة إلى مرفأ الأمان، وشاطئ السلامة، وإلا لاطمتها الأمواج في هُوة بحر ثائر.

إن تكريمًا للمعلم ومعرفة لفضله ودوره لهي أولى الخطوات على الطريق الصحيح، ومن ثم وجب توفير كل ما من شأنه أن يعينه على أداء رسالته على النحو الذي نريد إذا كنا بالفعل نريد.

وإلى المعلم في يومه أهدي قصيدتي: “رسالة إلى معلمي”:

دعوتُ اللهَ من قلبي                 بأنْ يرعاك بالودِّ

وأن يحْبوك بالنِّعَم                    تحوزُ أعاليَ المجدِ

فقد أخلصتَ في عملٍ             وفاؤك صادقُ الوعدِ

وطَيفُك في مُخَيِّلَتي               يبدّدُ هاجسَ البُعدِ

طوالَ اليوم في نَصَبٍ              وما تشكو من الجَهدِ

كلامك قرَّ في صدري               فأحصيه كما العدِّ

بأنَّ الفضلَ في خُلُقٍ               قِطافُ شمائلِ السَّعدِ

وأنَّ العلمَ مَكرُمةٌ                    غِراسٌ فائقُ الحدِّ

فيبني الناسُ أبنيةً                  بناءَ النِّد للنِّدِ

وتبني أنت أفئدةً                     تفوقُ ذوائب المجدِ

أراك اليوم مبتسمًا                  ودهرَك دائمُ الكدِّ

رآك خياليَ الرائي                  بأعلى جَنَّةِ الخُلدِ

تطوف ربوعَها الخضرا             فتقرُبُ منك بالحمدِ

مكانُك فوق منزلتي               فأنت البحر في المَدِّ

Exit mobile version