عقدت في سبتمبر الماضي الدورة الـ(76) الدورية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وكانت مجريات الدورة هذه المرة وجاهية، على عكس السابقة التي نظمت في ظل ذروة جائحة “كورونا” وكانت افتراضية في معظمها.
كالعادة، ألقى رؤساء وزعماء الدول المختلفة كلماتهم التي ركزوا فيها على القضايا العالمية والإقليمية، وجائحة “كورونا”، والاقتصاد العالمي، وغيرها من المواضيع، وكما كان متوقعاً، كانت رسالة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” استمراراً لكلمته في الدورة السابقة التي ركز فيها على المشكلات التي تواجه الأمم المتحدة وضرورة إصلاحها، كما شملت كلمته وزيارته في العموم عدة رسائل بأكثر من اتجاه.
أولى الرسائل كانت افتتاح “البيت التركي” مقابل مبنى الأمم المتحدة مباشرة بحضور الرئيس التركي، وهو مبنى ضخم عبارة عن ناطحة سحاب مكونة من 35 طابقاً، ويضم في بنيته القنصلية التركية في مدينة نيويورك والممثلية الدائمة لتركيا في الأمم المتحدة، وكان “أردوغان” نفسه قد وضع حجر أساسه قبل 4 أعوام، وقد تحدث “أردوغان” عن دلالات افتتاح البيت التركي قائلاً: ضمن المسار المؤدي إلى عام 2023م، الذكرى المئوية لتأسيس جمهوريتنا، فإن مبنى البيت التركي سيكون انعكاساً لمكانتنا في المجتمع الدولي.
وسيكون البيت التركي مركزاً لأنشطة عديدة؛ سياسية واقتصادية وثقافية، وأكد الرئيس التركي أنه لن يكون لتركيا فحسب، بل سيخدم الجميع؛ المواطنين الأتراك، والمجتمعات التركية (أي من العرق التركي من دول أخرى) والقريبة والصديقة.
إصلاح الأمم المتحدة
ولعل الرسالة الأهم في كلمة “أردوغان” أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت تأكيد خطابه في الدورة السابقة أن الأمم المتحدة ببنيتها الحالية لم تعد قادرة على الإيفاء بالتزاماتها، وأنها -وخصوصاً مجلس الأمن- بحاجة لإصلاح وإعادة هيكلة لتكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات الحالية.
هذا المعنى، كان “أردوغان” قد ركز عليه في كلمته السنة الماضية مردداً شعاره “العالم أكبر من خمسة”، ثم سطّره في كتاب من تأليفه بعنوان “نحو عالم أكثر عدلاً”، أشار فيه للأسباب التي تدفع نحو ضرورة إصلاح الأمم المتحدة، وفي مقدمة هذه الأسباب أنها كانت أسِّسَتْ بعد الحرب العالمية الثانية في ظروف مختلفة كلياً، لتخدم مصالح عدد محدود جداً من الدول؛ وهي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التي تملك حق النقض (الفيتو)، ومن ضمن الأسباب كذلك العدد الكبير من المشكلات والقضايا المزمنة والمستجدة التي فشلت المنظومة الأممية في منعها أو إدارتها فضلاً عن حلها، وعلى رأسها فلسطين وسورية وأفغانستان وميانمار، كما أشار الرئيس التركي إلى مشكلات الاقتصاد العالمي، التي عمّقتها بشكل ملحوظ جائحة “كورونا”.
كما تطرّق “أردوغان” لظواهر خطيرة عالمياً لم تستطع الأمم المتحدة أن تواجهها بما يجب، ومنها الإرهاب وموجات اللجوء والهجرة غير النظامية وكذلك العداء للإسلام والعنصرية، ليقدم مقترحه ومقترح بلاده لإصلاح الأمم المتحدة بزيادة صلاحيات الجمعية العامة وتقليل سلطات مجلس الأمن، وإلغاء حق النقض، وجعل عضوية مجلس الأمن بالانتخاب بشكل دوري وبما يشمل تمثيل الكل العالمي عرقياً ودينياً وجغرافياً ومن كل الزوايا، وبالتالي ما يجعل الأمم المتحدة أكثر حيوية وقدرة وفعالية، والعالم “أكثر عدلاً”، كما يقول عنوان الكتاب ومضمونه.
وبالتوازي مع ذلك، فقد تضمنت كلمة أردوغان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حديثاً حول الأزمة السورية ومسؤولية الأمم المتحدة في تأخر الحل وعدم محاسبة النظام على ما ارتكبه من جرائم بحق شعبه، كما تحدث عن الأوضاع المستجدة في أفغانستان وعن مسؤولية المجتمع الدولي في مساعدتها إغاثياً وإنسانياً وصحياً في مواجهة جائحة “كورونا”، وكذلك لاحقاً فيما يتعلق بإعادة الإعمار وتنمية الاقتصاد وما إلى ذلك.
رسالة اللاجئين
ولعل إحدى أهم الرسائل كذلك تلك المتعلقة بملف اللاجئين، إذ كرر “أردوغان” أمام دول العالم أن بلاده تستضيف ما يربو على 4 ملايين سوري على أراضيها، فضلاً عن المساعدات التي تقدمها لملايين آخرين داخل الأراضي السورية، قريباً من الحدود التركية أو في إدلب وعموم أراضي الشمال السوري الذي تديره فصائل مقربة منها.
وإلى ذلك، وصل إلى تركيا مؤخراً عبر الحدود مع إيران ما يقرب من 300 ألف أفغاني هرباً من الأوضاع المستجدة في بلادهم بعد الانسحاب الأمريكي وسيطرة “طالبان” على مقاليد الأمور، وهو أمر زاد من حساسية المعارضة وبعض الشرائح المجتمعية التركية تجاه ملف اللاجئين.
وكانت الرسالة الأوضح من “أردوغان” في هذا الصدد أن بلاده غير قادرة على قبول موجات جديدة من اللجوء في ظل التجاهل العالمي، ولعلها كانت رسالة مزدوجة، أولاً باتجاه روسيا التي ما زالت تدعم خطط النظام السوري الذي يهدد بعملية عسكرية كبيرة للسيطرة على إدلب التي يقطنها ملايين السوريين بما يهدد بموجة كبيرة من النزوح والهجرة، وثانياً باتجاه الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي تريد من تركيا إيواء اللاجئين الأفغان وإبقاءهم على أراضيها لمنعهم من التوجه للقارة العجوز.
وأخيراً، فقد حفلت زيارة “أردوغان” وكلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وتصريحاته الأخرى بانتقادات مباشرة للولايات المتحدة وإدارة “بايدن”، بعد فترة وجيزة من التهدئة بين البلدين مؤخراً، فقد انتقد “أردوغان” تواجد الولايات المتحدة في أفغانستان قائلاً: “لماذا ذهبوا إلى هناك أصلاً؟”، محملاً واشنطن مسؤولية الكثير من الأحداث التي حصلت في البلاد خلال العشرين عاماً الماضية ومؤخراً، كما انتقد تعامل الولايات المتحدة مع بلاده فيما يتعلق بملف التسليح، فهي ترفض بيع أنقرة منظومات دفاعية بينما تصر على معاقبتها بسبب شرائها منظومة “S400” الروسية الدفاعية، وعلى إخراجها من مشروع مقاتلات “F35” التي كانت شريكة به وليس مجرد زبون يريد شراءها.
وقد تضمنت تصريحات “أردوغان”، بما فيها لقاءاته مع وسائل إعلام أمريكية، إشارات إلى أن بلاده قد يئست من إمكانية حل الأمر مع الإدارة الأمريكية، بما قد يعني توجهها لروسيا مجدداً أو غيرها من الدول لشراء منظومات دفاعية إضافية بل وربما مقاتلات هجومية كبديل عن “F35”.
وفي العموم، فإن هذه الزيارة للأمم المتحدة في نيويورك، التي لم تشمل لقاء مع الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، حملت رسائل مكثفة فيما يتعلق بالعلاقات التركية – الأمريكية، ويبدو أن الخطاب التركي الحاد هنا يرتبط من جهة بانزعاج أنقرة من تعامل واشنطن معها ولا سيما فيما يتعلق بموضوع السلاح، لكنه أيضاً يرتبط فيما يبدو من زاوية ثانية بالقمة التي كانت ستجمع بين “أردوغان” و”بوتين” في روسيا بعد أيام فقط من اجتماعات الأمم المتحدة، خصوصاً وأن العلاقات التركية – الروسية شهدت بعض التوترات الضمنية وغير المعلنة مؤخراً وكان لها بعض الارتدادات على الملف السوري.
وبالتالي، يبدو أن الأسابيع المقبلة قد تشهد متغيرات جديدة على صعيد علاقات تركيا مع كل من روسيا والولايات المتحدة، كما هي الحال في السنوات القليلة الأخيرة التي تتأرجح فيها علاقات أنقرة بين حلفائها المتجاهلين لها في الغرب وخصمها المتودد لها في الشرق، مع تقاطع مصالحها بشكل مركّب مع الطرفين.