خيارات جديدة لإعادة الروح إلى “العدالة والتنمية” المغربي

 

طلابي: الاستمرار بتبنّي الواقعية المهادِنة مع النظام والطبقة السياسية فيه انتحار للحزب

التليدي: من الشروط الواجبة بالقيادة الجديدة أن تكون بعيدة عن السابقة

بوخصاص: الحزب سيركز بالمرحلة المقبلة على إعادة بناء صفّه الداخلي وبلورة أطروحة جديدة وتقييم تجربته

 

 

بعد الهزيمة المدوية لحزب “العدالة والتنمية” في الانتخابات المغربية، يوم 8 سبتمبر الماضي، بات السؤال عن مصير الحزب الإسلامي الذي تولى رئاسة الحكومة لعقد من الزمن، حديث الساعة في المغرب وخارجه، سواء بين أعضائه والمتعاطفين معه الذين يأملون أن يستعيد عافيته، أو من قبل خصومه الذين يمنون أنفسهم بأفوله دون رجعة.

يُجمع المحللون والمتتبعون على أن هزيمة حزب “العدالة والتنمية” المغربي، بالرغم مما حققه من إنجازات مهمة على مستوى التسيير في المدن، كانت لها أسباب ذاتية وأخرى موضوعية؛ الأولى نتجت عن التمزق في صفوف الحزب بعد إبعاد الأمين العام السابق عبدالإله بن كيران، المعروف بجرأته وخطابه الشعبوي القوي، عن تشكيل الحكومة للمرة الثانية، وحلول الأكاديمي سعد الدين العثماني محله سواء على رأس الأمانة العامة أم الحكومة، علاوة على عدد من القرارات التي اتخذتها الحكومة، بعيداً عن هويته وطموحات المواطنين، وأفقدته رصيده الشعبي.

في هذا الاتجاه، يرى الإعلامي المغربي محمد كريم بوخصاص، في حديث لـ”المجتمع”، أن هذه الهزيمة الانتخابية لم يتوقعها أشد المتشائمين من داخله، وأشرس خصومه السياسيين، لكن عوامل ذاتية وموضوعية ساهمت في هذا السقوط الحر للحزب، أهمها الأزمة الداخلية المستفحلة منذ عام 2016م التي عجز الحوار الداخلي عن حلها وفقدانه ثقة كتلته الصلبة، فضلاً عن اتخاذه عدداً من القرارات غير الشعبية والمؤلمة التي ساهمت في ارتفاع السخط الشعبي عليه.

ويشير المفكر المغربي إمحمد طلابي، في تصريحات لـ”المجتمع”، إلى أن حزب العدالة والتنمية اختار مبدأ السياسة الواقعية المهادِنة، كما يصفها، التي تقتضي العمل وفق مبدأ التدافع وفق موازين القوى، بتبني أسلوب التوافقات في التغيير بدون ضغوطات جماهيرية في الغالب، في الوقت الذي كان بإمكانه تبني السياسة الواقعية المناضلة، بعد إقالة ابن كيران، والاصطفاف في المعارضة التي تعتمد على الضغط الجماهيري في التغيير، وكان بإمكان ذلك أن يعطي نتائج سياسية هائلة لأنها معارضة من موقع القوة السياسية الهائلة.

ويؤكد بوخصاص أن الحزب قضى ولايتين حكوميتين كاملتين لم يسبق أن حظي بهما أي حزب في التاريخ السياسي للمغرب، متوقعاً أن الحزب سيركز في المرحلة المقبلة على إعادة بناء صفه الداخلي وبلورة أطروحة جديدة وتقييم تجربته السياسية، ولن يعطي أي أولوية لتمثيليته الضعيفة في البرلمان، وسيبقى رهانه الوصول إلى محطة عام 2026م موحد الصفوف وبرؤى وبرامج جديدة من أجل البحث عن تموقع وصعود جديد سيكلفه سنوات أخرى من البناء والعمل ما لم ينقسم الحزب على نفسه.

قيادة جديدة

وعن المأمول والممكن عمله في المستقبل، يبرز المحلل السياسي بلال التليدي، في تصريح لـ”المجتمع”، أنه في كل الأزمات التي يمر منها، كان حزب العدالة والتنمية يختار الجواب التنظيمي للخروج من المأزق، والمقصود من هذا الجواب هو المؤتمر الذي يفرز قيادة جديدة (قرر تنظيمه عاجلاً في أواخر أكتوبر الجاري)، ذلك أن هذه الأزمة كبيرة جداً وصلت إلى درجة التساؤل عن جدوى هذا المشروع، وهل الأمر يتعلق بانهيار الأداء الانتخابي، أم انهيار المشروع السياسي، أم ربما المشروع الإصلاحي والرسالي بكل مستوياته الدعوية والتربوية والسياسية والثقافية.

ويبرز الأكاديمي المغربي ذاته أن أول شيء سيفكر فيه الحزب في المرحلة الجديدة هو إفراز قيادة غير متلبسة بمرحلة التدبير السابق التي أدت إلى الإخفاق، مشيراً إلى أن هناك قيادات تدبيرية يمكن أن تستمر في تحمل المسؤولية في المرحلة القادمة، لكن من الشروط الواجبة في القيادة الجديدة الموكول لها مهمة الإنقاذ أن تكون بعيدة عن القيادة السابقة، مع أن ذلك لا يعني بالضرورة أن الأزمة ستحل بعصا سحرية، بل لا بد من اتخاذ الفرصة الكاملة والكافية للانكباب على إصلاح الآلة الحزبية، وبث الروح المبدئية، وإعادة التركيز على الخيارات المرجعية والتخليقية التي كانت تبرر وجود هذا الحزب ومشروعه الإصلاحي، ثم إنتاج المواقف بشكل تدريجي التي يمكن أن تعيد الصورة المنسجمة مع الاختيارات المبدئية للحزب.

فيما يرى الإعلامي والكاتب كريم بوخصاص أنه منذ تشكيل حكومة العثماني بعد إعفاء ابن كيران لم يمتلك الحزب أي أطروحة أو رؤية سياسية، وكل ما كان يتم ترويجه لا يعدو أن يكون آليات فقط، لذلك افتقد الحزب إلى أفق نظر لاستيعاب تطورات الأحداث، لذلك فبعد هذه الهزيمة المدوية يلزم الحزب بناء أطروحة جديدة فيها زاوية نظر لكل القضايا المجتمعية والفكرية والسياسية إن أراد تجاوز الهزة التي يعيشها حالياً، والعودة إلى المنافسة السياسية من جديد.

وعن حاجة الحزب إلى قيادة جديدة بعيداً عن جيل التأسي، كما يرى ذلك التليدي، يبرز بوخصاص أن الحزب اليوم يبدو كما لو أكمل دورة “حضارية” في مساره، ويلزمه فعلاً قيادة جديدة تواكب تحديات الحاضر وتُنتج خطاباً وأفكاراً تلائم الجيل الجديد، وبطبيعة الحال، فإن التخلي عن جيل التأسيس الذي أسس للفكرة والمشروع لا يعني أي انعطافة عن هوية أو مذهب الحزب ما دام الأصل في التنظيمات الحية هو التجديد لضمان الاستمرارية وامتلاك مقومات البقاء.

ويبرز المفكر طلابي أن من ملامح الواقعية المناضلة اليوم السالفة الذكر، الاستثمار السياسي المبصر والمقدام في ظاهرة صعود المجتمع المدني، على المستوى العالمي، مشدداً على انسحاب الجيل الأول بالتدرج وبمقدار وسلاسة أمدها عشرية كاملة، لتصبح قيادة الحزب الوطنية والجهوية والمحلية في هذه العشرية جيلاً جديداً أشرب في قلبه الواقعية المناضلة، مع تبني مشروع سياسي واقعي لعقد من الزمن عنوانه الرئيس إعادة توزيع السلطة وإعادة توزيع الثروة توزيعاً عادلاً.

إعادة التماسك

ويؤكد التليدي أن المهمة الثانية هي إصلاح العلاقات الداخلية وإعادة التماسك التنظيمي؛ ذلك أن جزءاً من هذه النكسة سببها دخول الحزب إلى الانتخابات بنفس منكسرة وجاهزية ضعيفة، وهناك الآن فرص كثيرة بعد أن تخلص الحزب من الإكراه الحكومي وعاد إلى موقع المعارضة؛ ما سيجعله في حِل من النخب الانتهازية التي التحقت بالحزب بدوافع المصلحة والانتفاع والامتيازات، وهذا مكسب كبير ومعطى ضروري لأن الحزب سيعود إلى نواته الصلبة التي يمكنها أن تتفرغ للجواب على أسئلة الإصلاح.

ويبرز الأكاديمي ذاته أن هناك أسئلة أخرى أيضاً ترتبط بالمشروع في علاقته بالإستراتيجية والعلاقة مع الدولة ومع المجتمع، وهي تحتاج إلى إعادة الصياغة بما في ذلك العلاقة بين الحزب وجناحه الدعوي حركة التوحيد والإصلاح في المهمة التكوينية والتأطيرية، وبما تحتاج من أجوبة واضحة.

ويشير إلى أن الأزمة ليست انتخابية فقط أو سياسية، بل دعوية أيضاً، وإن كانت لم تظهر إلى السطح لعدم وجود رهان انتخابي، ويمكن قياس نسبتها على أرض الواقع، ولكن ما يظهر اليوم أن هذا المشروع كله في حاجة إلى مراجعة وهي لن تتم إلا بنقد ذاتي معلن يأخذ مداه في الزمن الحاضر والمستقبلي، وقد تحتاج إلى سنوات، ولا تحتاج فقط إلى قيادة بل إلى إعادة الروح في الحزب التي تتداخل فيها أبعاد سياسية وفكرية ومرجعية.

ويشير طلابي إلى أنه للخروج من الأزمة يجب بناء المحرك الذاتي لمركب الحزب اليوم لإخراجه من غرفة الإنعاش؛ لأن ريح الديمقراطية وريح الإسلام كوجدان جمعي في كل المنطقة العربية كانت هي قوة الدفع للحزب حتى عام 2016م، وهذا العكاز انكسر اليوم بعد توقف هبوب هذه الريح بعد انكسار الربيع الديمقراطي.

ويرى طلابي أن الاستمرار في تبني الواقعية المهادِنة القائم على أسلوب التوافقات مع النظام والطبقة السياسية شبه مستحيل، والاستمرار فيه انتحار للحزب، مشدداً على أن دخول الحزب بعد الانكسار الكبير موقع المعارضة حتمي، فالحزب مرغم على تبني الواقعية المناضلة التي تعتمد أساليب الضغط الجماهيري حسب ما تسمح به القوانين، وهذا هو الطريق لإخراج الحزب من غرفة الإنعاش خلال العشرية المقبلة.

كما يلح طلابي على ضرورة مراعاة قضايا عميقة في الوجدان المغربي مثل التطبيع والتراجع عن التعريب والمس بالقيم الدينية العميقة، كما حدث مع مسألة القنب الهندي، أضف إلى ذلك الحذر من المس بالمصالح المشروعة للطبقة الوسطى، باعتبارها المخزون الإستراتيجي للحزب، أو التصادم المجاني معها، علاوة على تجنب نهج سياسة الصمت تجاه قضايا الشعب الحيوية في العيش الكريم والكرامة.

Exit mobile version