دون جناحين وبحنجرة ذهبية.. طائر التحدي يستقر على قمة “إذاعة القرآن الكريم” المصرية!

 

تولى كبير مذيعي “إذاعة القرآن الكريم” بمصر رضا عبدالسلام رئاسة الإذاعة قبل أيام باعتباره أول رئيس لإذاعة من ذوي الهمم، وكان مصدر الاهتمام الإعلامي به كونه دون ذراعين، وهو ما كان سبباً في منعه من الالتحاق بالإذاعة قبل 30 عاماً.

“هذه حياتي، آية لمن ظن ألا تحيا، فعاشت تنقش النقوش على أحجار الحياة، هذه حياتي روحاً ونفساً سكنت في مهدها أمي وأبي قلباً وعطفاً وصدراً وثيراً وحدباً ودفئاً، هذه حياتي طفلاً بلا جناحين مجهول الطالع، يطرق على أبواب قدر الله الذي يفتح للسالكين إليه الدرب، فيحبو ويقف ويسند الظهر المتعب على جناب فضل الله، فتستحيل الوهدة سلماً للصعود والترقي”.

كانت تلك خاتمة كتاب نقوش على الحجر، الذي يسرد فيه رئيس “إذاعة القرآن الكريم” الجديد رضا عبدالسلام قصة حياته، والكتاب أحد مؤلفات أربعة لأول إذاعي ورئيس إذاعة مصري من ذوي الهمم.

https://www.youtube.com/watch?v=WD8CWoGvFOk

حينما تقدم عبدالسلام للعمل بـ”إذاعة القرآن الكريم”، قبل 30 عاماً، لم يواجه أي سؤال أصلاً من لجنة الامتحان، التي كان أعضاؤها يرفضونه بمجرد رؤيته، ولم تكن تعلم تلك اللجنة أن ذاك الشاب المرفوض سيكون رئيساً لهذه الإذاعة ذات يوم.

مرأى الشاب المترع بالحماس والحب للعمل الإذاعي، وهو دون ذراعين، كان كفيلاً بتولي لجنة التحكيم عنه، ما دفعه لتكرار التقديم أكثر من مرة دون يأس.

عزيمة النجاح

في المرة التي كان المذيع الراحل حلمي البلك رئيساً للجنة، دخل عليه عبدالسلام ورجاه ألا يسأله قبل أن يرى كيف يفتح الباب ويغلقه ويكتب ويخلع سترته بنفسه دون مساعدة من أحد، ولم ينتظر رد البلك، فقام بالتنفيذ ليؤكد أن إعاقته لا تعيقه.

قرر البلك اختباره، وبالفعل نجح عبدالسلام في الاختبار من بين 40 متقدماً، وصار من أبرز الأصوات التي التصقت بأسماع مستمعي القناة.

يروي عبدالسلام هذه الواقعة في كل لقاءاته الصحفية التي احتفت بتوليه رئاسة الإذاعة العريقة قبل أيام، باعتباره أول شخص من ذوي الهمم يتولى منصباً رفيعاً في سلم الوظائف القيادية بالإذاعة المصرية.

يؤكد عبدالسلام، في أحاديثه، أن إصراره وعزيمته لا بد وأن تنبه الدولة لفئة ذوي الاحتياجات الخاصة وضرورة حصولهم على مكانة مستحقة.

عراقيل ومنغصات

ولم تخل قفزة عبدالسلام نحو قمة الإذاعة -التي عشقها- من منغصات دفعته لتحدٍّ جديد، إذ استدعى متابعوه على وسائل التواصل الاجتماعي تغريدات له قبل سنوات كان ينتقد فيها سياسات النظام مطالباً بضمانات للحرية والديمقراطية، وتساءل هؤلاء: كيف تسمح الدولة لعدو النظام أن يتبوأ مركزاً قيادياً؟

رد رئيس الإذاعة الجديد على منتقديه بمنشور طويل يتبرأ فيه من الانتماء لأي جماعة “إرهابية”، ويعلن ولاءه للدولة، ويوضح أن لكل رأي سياقه الزمني الذي يمكن التحول عنه لاحقاً لو تبين للمرء خطأه.

وخلاف منتقديه الذين رجعوا 10 سنوات لاصطياد “سقطات له”، رجع معجبوه لسنواته الأولى بالإذاعة لاستخراج “درر” للرجل صدح بها صوته العذب المميز.

 https://twitter.com/7adasBelfe3l/status/1431388988569538560

“سيرة ومسيرة” كان اسم برنامجه الأشهر، وكان عبدالسلام يستضيف فيه من برعوا في مجالاتهم، بينما تبدو الدهشة على وجوه ضيوفه حالما يرون مضيفهم وهو يستقبلهم في الأستوديو دون ذراعين، ليكتب ملاحظاته على إجاباتهم بفمه، فيدفع ذلك بعضهم لتقصي سيرة ومسيرة الرجل.

بعد تخرجه في كلية الحقوق، عمل عبدالسلام مدة في مكتب محام مستغلاً كونه بليغاً ضليعاً باللغة العربية، فلم تمنحه مهنته سعة في إبراز موهبته كما تمنى، فسعى للعمل بالإذاعة، والتقى رئيس الإذاعة المصرية وقتها فهمي عمر، وأعرب له عن أمنيته بأن يعمل بـ”إذاعة القرآن الكريم” تحديداً.

أنهى عبدالسلام فترة التدريب ثم تقدم للاختبار ليجد نفسه غير مقبول، لم يستسلم، وعمل مؤقتاً بإذاعة “وسط الدلتا”، وعيناه لا تزالان معلقتين بأثير “إذاعة القرآن الكريم”، حتى قرأ إعلاناً يطلب مذيعين لها فتقدم مكرراً المحاولة، وهذه المرة نجح.

ازداد شعور عبدالسلام بالرضا، وبدأ في مسيرة من البرامج المؤثرة، بداية ببرنامج “مساجد لها تاريخ” أو “قطوف من السيرة”، أو “مع الصحابة”، أو “وبشر الصابرين”، تلك البرامج التي كان يمكن للمستمع بسهولة أن يميز صوته فيها بمجرد سماعه، إذ ظل يشدو على مدى 14 ألف ساعة من البث.

وإلى جانب التقديم، مضى إلى تأليف المؤلفات الإسلامية، ثم استقر كبيراً لمذيعي “إذاعة القرآن الكريم”، حتى تلقى اتصالاً قبل أيام من رئيس الإذاعة المصرية محمد نوار يبشره باختياره رئيساً لـ”إذاعة القرآن الكريم”، كأول مذيع من ذوي الهمم للإذاعة التي تأسست عام 1964، ولا تزال تحتل المرتبة الأولى في ترتيب الإذاعات المسموعة.

الرضا لمن رضي

مع توالي الوسائط التي يمحو بعضها بعضها ويقتنص بعضها من جمهور بعض، ظلت “إذاعة القرآن الكريم” مؤنسة البيوت والمتاجر والسيارات، تصدح أصوات قرائها ومذيعيها منطلقة من الراديو دون انقطاع.

وكان الراديو هو رفاهية المصريين البسطاء منذ انطلاق “الإذاعة المصرية” أوائل القرن الماضي، ومنهم عبدالسلام والد رضا الذي طالع في لهفة -يوم ولادة ابنه- وجه الداية، وهي المرأة التي تساعد الأم على الولادة، ليجدها تخرج إليه برأس منكسر، محاولة تجنب إخباره بما رأته، فدخل مهرولاً ليطمئن على زوجته وليفاجأ بمرأى الطفل الوليد المنتظر -على أحر من الجمر- دون ذراعين.

حوقل الرجل وتصبّر وصلى ثم رفع يديه للسماء داعياً: “يا ربِ أنت الذي خلقته وأنت الذي تهديه”.

يتذكر رضا هذه الواقعة التي لا تنسى التي رواها له أفراد أسرته حينما كبر ويقول: “هذا الدعاء هو سر نجاحي”.

قرر الأب أن يتسمى ابنه بالصفة التي وجد أنها الأنسب إزاء قدر الله، فسمى الابن “رضا”.

تقبلت الأسرة حالة الطفل رضا برضا، رغم ما يشاع في الأرياف عادة من خرافات بشأن مثل حالات الأطفال المولودين ناقصي بعض الأعضاء، إذ يتشاءم أهله منه في أفضل الأحوال، وتصل الخرافة مداها بالاعتقاد بأنه طفل ممسوس من جن تسبب في نقصانه عن أقرانه.

سعى والد رضا لإلحاقه بالتعليم، فرفضت إدارة المدرسة في بادئ الأمر نظراً لحالته التي لا تؤهله لتلقي الدروس والاستذكار، لكن الأب كرر المحاولة في العام التالي مصراً على إلحاقه بالمدرسة ونجح بعد لقائه بوكيل الوزارة الذي ذهل لمرأى طفل يكتب بأصابع قدميه بسهولة.

في المدرسة، لم يعدم الطفل وسيلة للكتابة كأقرانه، فكتب بأسنانه، ونجح في تجاوز اختبارات المراحل التعليمية باقتدار، ثم التحق بكلية الحقوق، وبعدها التحق بكلية الدعوة الإسلامية في جامعة الأزهر.

عزيمة التطوير

لدى رضا عبدالسلام حماس لتطوير الإذاعة، لا يقل عن حماسه القديم للالتحاق بها، إذا يخطط لإثراء قراءات القرآن بقراء قدامى ومحدثين، وتحديث علوم القرآن والحديث الشريف، وتنويع البرامج التفاعلية وبرامج الأسرة والمجتمع.

يصفه مهندس الصوت في “إذاعة القرآن الكريم” محمد لطفي بالقول، في تصريحات صحفية: “همته الملهمة من فولاذ، صدّت كل محاولات عرقلته، فارتقى دون أن يرد بالانتقام، لطيب نفسه، ودماثة خلقه وعفويته”.

ومثلما تمكن عبدالسلام من الإمساك بالقلم بفمه وقدمه للكتابة، استطاع كذلك تجاوز عقبات التعامل مع التقنيات، فكتب إعداد برامجه وسطور كتبه على الكمبيوتر، واستطاع التحكم بالميكرفون بقدمه.

يختتم عبدالسلام كتاب سيرته وحياته “نقوش على الحجر”: هذه حياتي تلميذاً مطروداً من رحمة البشر الناقمين عليه نعمة الحياة، يمسك بين فكيه القلم ليكتب درساً لمن عجزوا عن رؤية العدل الإلهي في خلقته، هذه حياتي مذيعاً يسبح صوته فوق موجات الهواء، يعلن أن صاحبه خاصم العجز وصادق في الطريق وجه السلامة وبث للمستحيل لحن التوافق والقبول، هذه حياتي زوجاً يحمل طوقاً من الفضل لمن سهرت عمراً على بابه تنتظر النداء”.

Exit mobile version