عندما دخل مسلحو “طالبان” القصر الجمهوري بالعاصمة كابل في منتصف الشهر الماضي، كانت كل الولايات قد خضعت لسيطرتهم، ما عدا واحدة في شمال شرقي البلاد.
وقد حدث هذا بالضبط قبل ربع قرن، فعندما كانت حركة “طالبان” تسوس كابل وكل ولايات أفغانستان، كانت ولاية بنجشير خارجة عن السيطرة وتخضع لرجل يتردد اسمه كثيراً على خطوط النار.
الموقع والسكان والتضاريس
وادي بنجشير، اسمه باللغة الفارسية يعني وادي الخمس أسود، ويعتبر هذا الوادي والمنطقة المجاورة من أكثر مناطق أفغانستان التي يتركز فيها الطاجيك.
وولاية بنجشير واحدة من 34 ولاية في أفغانستان، وتقع على بعد 150 كم فقط من العاصمة كابل، وتضم حوالي 173 ألف نسمة.
وتبلغ مساحة الوادي 3610 كيلومترات، وهو ما يرجع إلى سهولة الدفاع عنها بسبب تضاريسها الجغرافية، إذ تحيط بالوادي سلسلة جبال “هندو كوش”، التي تعمل كخط دفاع طبيعي ضد التوغلات الخارجية، مع وجود نقطة وصول واحدة فقط عبر ممر ضيق أنشأه نهر بنجشير.
وبسبب هذه الطبيعة الجبلية الوعرة، فإنه لم يتم الاستيلاء عليها من قبل أي قوة خارجية، فقد كانت المنطقة بمنأى عن الإمبراطورية البريطانية أثناء محاولتها غزو أفغانستان خلال القرن التاسع عشر، وفشل السوفييت في الاستيلاء عليها في الثمانينيات من القرن العشرين، كما فشلت حركة “طالبان” في السيطرة عليها خلال التسعينيات.
ومن جهة أخرى، تحتل ولاية بنجشير موقعاً إستراتيجياً مميزاً لمن يحكم قبضته عليها، إذ تقع على بُعد 150 كيلومتراً شمال كابل، ومن ثم تُعد المدخل الشمالي للعاصمة الأفغانية، كما أنها تقع بالقرب من الطريق الدولي الذي يربط كابل بشمال البلاد.
التركيبة العرقية
وبينما يهيمن العرق البشتوني على حركة “طالبان” بشكل كبير، يمثل الطاجيك 98.9% من سكان ولاية بنجشير، وهذه معادلة عرقية ألقت بظلالها كثيراً على تاريخ أفغانستان.
حيث يقطن ولاية بنجشير أغلبية من عرقية الطاجيك، المناهضة لحركة “طالبان”، لأسباب عرقية وتاريخية، ويعتقدون أن “طالبان”، الذين ينتمون في أغلبيتهم إلى إثنية الباشتون، سوف يسعون للهيمنة على كامل أفغانستان، بالإضافة إلى الانتقام منهم، بسبب دورهم في مناهضة “طالبان” على مدار سنوات، وفي ضوء ذلك، لجأت قيادات سياسية وعسكرية في الحكومة الأفغانية السابقة إلى الاحتماء بها، أمثال نائب الرئيس الأفغاني السابق، أمر الله صالح، ووزير الدفاع الجنرال بسم الله محمدي، وغيرهما.
ولاية لصد الغزاة
وطالما صمد وادي بنجشير في وجه الاحتلال الأجنبي، فقد عجز جيش الإمبراطورية البريطانية عن اختراق المنطقة أثناء محاولته السيطرة على أفغانستان في القرن الـ19.
وفي الثمانينيات، خاضت الولاية قتالاً شرساً ضد الاحتلال السوفييتي وسمع الناس كثيراً عن القائد أحمد شاه مسعود.
تحالف الشمال ضد الروس
تمكن رجال أحمد شاه مسعود من كبح جماح القوات السوفييتية، وبعد خروج السوفييت من البلاد عام 1989 انقسمت فصائل المجاهدين وسعى كل فصيل للسيطرة على البلاد.
أيضاً، لم تغب ولاية بنجشير عن الشأن الأفغاني في حقبة ما بعد السوفييت، فقد شكل مسعود “تحالف الشمال” المكون من ائتلاف القوات الأوزبكية والطاجيكية، وسيطرت قواته على كابل لبعض الوقت، لكنها اتُهمت بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.
وفي عام 1996، سيطرت حركة “طالبان” على كابل وغيرها من المدن الأفغانية، لكن التحالف الشمالي، تحت قيادة مسعود، تمكن من الحفاظ على بنجشير وأبقاها خارج سيطرة الحركة طوال فترة حكمها التي استمرت 5 سنوات.
اغتيل أحمد شاه مسعود، في 9 سبتمبر 2001، أي قبل يومين فقط من هجمات 11 سبتمبر التي قادت لاحقاً لغزو أفغانستان وطرد “طالبان” من الحكم.
بعد 20 عامًا
وبعد 20 عاماً من طرها من السلطة على يد تحالف دولي بقيادة أمريكا، عادت “طالبان” عنوة في وضح النهار إلى العاصمة كابل وخضعت لها البلاد من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.
لكن ولاية بنجشير كانت استثناء هذه المرة أيضاً، ففي الوقت الذي فرّ فيه الرئيس الأفغاني وعائلته إلى الإمارات واختفى كل وزرائه عن الأنظار، أعلن نجل شاه مسعود أنه يحشد قواته ضد حركة “طالبان”.
قدرات عسكرية
تشير التقديرات إلى أن بنجشير تمتلك 20 قاعدة عسكرية، كما أنها استقبلت قرابة 10 آلاف مقاتل أفغاني، من الذين فروا من العاصمة كابل، ومدينتي مزار شريف وقندوز الشماليتين، وبالتالي، فإن تمركز مقاتلي الولاية مع القوات الأفغانية التي لم تستسلم لـ”طالبان” ربما يؤهلها لتحقيق انتصار عسكري في مواجهة “طالبان”.
على خُطى والدي
وقد كتب مسعود الابن: “أنا على استعداد لاتباع خطى والدي، مع المجاهدين المقاتلين المستعدين لمواجهة “طالبان” مرة أخرى، لدينا مخازن الذخيرة والأسلحة التي جمعناها بصبر منذ عهد والدي، لأننا علمنا أن هذا اليوم قد يأتي”.
وأضاف: “لدينا أيضاً الأسلحة التي يحملها الأفغان الذين استجابوا خلال 72 ساعة الماضية لندائي للانضمام إلى المقاومة في بنجشير، ولدينا جنود من الجيش النظامي الذين اشمأزوا من استسلام قادتهم، وهم يشقون طريقهم الآن إلى تلال بنجشير بمعداتهم، كما انضم أعضاء سابقون في القوات الخاصة إلى نضالنا”.
سياسة الكر والفر
وكان نجل أحمد شاه مسعود قال سابقاً: إنه يأمل إجراء محادثات سلام مع الحركة التي سيطرت على كابل، لكنه أكد أن قواته مستعدة للقتال، ويرى الكثير أن مسعود الشاب يتبع سياسة الكر والفر ويغازل الدول التي ترغب في تقويض حكم “طالبان”، فيعلن استعداده للسلام وفي الوقت نفسه يبحث عن داعم لمقاومته لـ”طالبان”.
وأكد مسعود أن مؤيديه مستعدون للقتال إذا حاولت “طالبان” غزو إقليمهم، وأضاف: “يريدون أن يدافعوا، ويقاتلوا، يريدون أن يقاوموا أي نظام شمولي”.
وانضم إلى أحمد مسعود، نائب الرئيس الأفغاني السابق أمر الله صالح، الذي يعتبر نفسه الرئيس الشرعي لأفغانستان بعد استقالة الرئيس أشرف غني وخروجه من البلد.
وانضم إلى تحالف مسعود آلاف الجنود من الجيش الأفغاني الذي انهار بعد انسحاب القوات الأمريكية وسقوط كابل في يد “طالبان”.
“طالبان” تسيطر ومسعود يشترط
وأمس الأحد، قال المتحدث الرسمي باسم “طالبان” ذبيح الله مجاهد: إن مسلحي الحركة يحاصرون ولاية بنجشير بعد رفض عدد من القيادات العسكرية المناوئة لـ”طالبان” تسليمها، وأوضح أن الحركة تحاول حل الوضع في الولاية عبر التفاوض.
وتداول ناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو يظهر فيها مقاتلو “طالبان” وهم على مشارف وادي بنجشير، بعد يوم من إعلان الحركة إرسال قوات لإخضاع الولاية الواقعة شمال شرقي البلاد.
وقال المتحدث باسم المكتب السياسي لحركة “طالبان” محمد نعيم: إن الحركة لا يمكنها القبول ببقاء منطقة بنجشير خارج سيطرتها، لأنها أرض أفغانية، وفق قوله.
وفي لقاء سابق مع الجزيرة، أكد نعيم أن الحركة رغم إرسالها مقاتلين إلى بنجشير لا تريد القتال، وتسعى لتسوية المشكلات في أفغانستان بالطرق السلمية.
_____________________
مصادر ذات صلة:
1- القتال يتواصل في ولاية بنجشير التي ترفض مبايعة “طالبان”،
2- تعرف على ولاية بنجشير التي ترفض بيعة طالبان،
3- أفغانستان.. قتلى من مسلحي طالبان خلال اشتباك في بنجشير،
4- وادي بنجشير،
5- طالبان تعلن شن عملية عسكرية واسعة على ولاية بنجشير،
6- هل المقاومة المحتملة لطالبان من وادي بنجشير بقيادة أحمد مسعود تعتبر ذات جدوى؟