ذكريات الغزو العراقي كثيرة، لكن أشهر ما حدث معي أنني كنت أعمل مؤذناً في وزارة الأوقاف عندما حدث الغزو، وكان إمام المسجد فلسطيني الجنسية، وقبل صلاة الجمعة، جاءنا شرذمة من المخابرات العراقية، وطلبت من الشيخ الإمام أن يدعو لصدام حسين على المنبر في أثناء الخطبة، ويرحب بالغزو العراقي للكويت، وسيتم نقل الخطبة عبر الإذاعات وأجهزة التلفاز، لكن الشيخ رفض هذا الطلب.
وعندما حان الوقت للصلاة، قمتُ بالأذان استعداداً لصعود الإمام إلى المنبر لإلقاء الخطبة، لكن فوجئت أن الشيخ إمام المسجد ليس موجوداً بعدما رفض طلب المخابرات العراقية، فقمت أنا بالصعود إلى المنبر لإلقاء الخطبة، وبعد الحمد لله بما هو أهله، والصلاة والسلام على رسول الله، ذكرت أحاديث الظلم ومصير الظالمين في الدنيا والآخرة، وذكرت قصة مؤثرة عن الظلم وعاقبة الظالمين.
وبعد سرد القصة قلت: “يا رب، إن صداماً قدر علينا؛ فأرنا قدرتك عليه”، وكان المسجد يعج بالبكاء والنحيب، وكان المشهد عظيماً، لدرجة أن جنود السيطرة وكانوا من الأكراد، عندما سمعوا الخطبة بكوا من شدة التأثر.
بعد الخطبة مباشرة، ذهبت إلى بيتي في منطقة مشرف، وكان الجنود العراقيون منتشرين فيها، وكانوا يذهبون إلى الجمعية لأخذ الأغراض والمستلزمات التي يحتاجونها منها بقوة السلاح.
حكموا على مؤذن آخر بالإعدام بسبب وجود آلة تصوير بالمسجد لكن الله نجاه قبل تنفيذ الحكم
وبعد الغداء ذهبت إلى النوم، فرأيت رؤيا في المنام؛ وهي أن أبي وأمي -رحمهما الله- يطالبانني بالعودة السريعة إلى مصر، وأن هناك سيارة “ميكروباص” تنتظرني وطلبا مني الركوب فيها، وقد تكررت هذه الرؤيا معي.
فلما تكررت هذه الرؤيا كثيراً، حدثت بها إمام المسجد الفلسطيني بعد صلاة الفجر، فطلب مني الخروج من الكويت فوراً، وألا أنتظر لحظة واحدة، وقال لي: “الآن اركب سيارتك واخرج فوراً من الكويت، حتى ولو كان السفر عن طريق العراق”.
بالفعل، استمعت إلى نصيحته، وقمت بتجهيز السيارة بما يحتاجه المسافر، وركبت أنا وزوجتي وأولادي وانطلقنا خارجين من الكويت متوكلين على الله، وفي الطريق طاردنا قطّاع الطريق محاولين الاستيلاء على ما معنا من أموال وطعام وأغراض، واستمرت المطاردة لنا حتى وصلنا إلى بغداد، وكان هؤلاء -قطاع الطريق- يطلقون النار في السماء لإرهابنا، وكان لطلقات الرصاص صوت مرعب خصوصاً في المساء والظلام دامس، والحمد لله أن الزوجة والأولاد كانوا نائمين في السيارة ولم يسمعوا طلقات الرصاص، استمر هذا الخوف والرعب حتى وصلنا إلى الحدود الأردنية، وبعد دخولي لمصر حمدت الله على السلامة لي ولأهل بيتي.
ولما رجعت مصر، رأيت في أحد الأيام -قدراً- شخصاً كويتياً قام باحتضاني، وقالي لي: الحمد لله على سلامتك، الحمد لله أنك ما زلت بخير، فقلت له: الحمد لله، خيراً إن شاء الله، ما الذي دفعك لقول هذا الكلام؟ فقال لي: كان العراقيون يعذبونني في مخفر بيان، وفي أثناء التحقيق معي سمعتهم يقولون: إن هناك إمام مسجد مصرياً في مشرف دعا على صدام حسين، وأنه قد صدر قرار بإعدامه، وذكروا اسمك أنت.
أنا شخصياً لم أعرف بقرار إعدامي، والحمد لله أنني خرجت من الكويت سريعاً قبل تنفيذ حكم الإعدام، وبعد خروجي من الكويت واستقراري في مصر، بلغني أن الجنود العراقيين اقتحموا شقتي، فلما اكتشفوا أنني خرجت من الكويت هارباً، احتلوا شقتي وعاشوا فيها فترة طويلة، وجعلوا منها مركزاً قيادياً؛ لأنها كانت في الدور الأول علوي، وتستطيع من خلالها رؤية صباح السالم وبيان، وعندما تم تحرير الكويت، ورجعت إليها مرة أخرى، شاهدت ما أحدثوه من تلف وأضرار لمقتنياتي في الشقة.
المؤذن وآلة التصوير
وكان لي صديق مؤذن، ودخلوا عليه في السرة، ووجدوا عنده آلة تصوير، ومن الطبيعي أن تكون هناك آلة تصوير في المسجد، ولكنهم حققوا معه، وسألوه عمن يقوم بالتصوير، فلما رفض الإجابة وأصر على ذلك، قبضوا عليه، واصطحبوه إلى المخفر، وظلوا يعذبونه ويضربونه أياماً، ثم أصدروا حكماً بإعدامه، وأنه سيتم تنفيذه في البصرة، وكانت زوجته وبناته في منطقة السرة، فما كان من هذا المؤذن إلا أن يسلّم أمره إلى الله تعالى، فجاءه الفرج من الله سبحانه، بعد أن قام المسؤول العراقي الكبير في الكويت وهو علي المجيد بتغيير القيادات، فاستدعى القائد الجديد صديقي المؤذن، وقال له: يا مصري، ما تهمتك؟ فقال له: والله لم أعمل شيئاً، فجيء بماكينة التصوير وقال الجنود العراقيون: إن هذه الماكينة تخصه، فقال المسؤول: هل هذه الماكينة تخصك؟ قال: لا، هذه الماكينة موجودة في المسجد من قبل الغزو.
فقال له: وتقول كلمة غزو.
قال: نعم، فكلمة غزوة لا عيب فيها ولا تطاول، فالرسول صلى الله عليه وسلم قام بغزوة بدر، وغزوة أحد، وغيرهما من الغزوات.
ضحك القائد العراقي من هذا الكلام، وعفا عنه، وأخلوا سبيله.