أفشلنا مخطط الغزو العراقي بإتلاف قواعد البيانات.. وتوثيق خريطة الكويت السكانية

جاء إلى الكويت مع عائلته وعمره شهر واحد عام 1962م، يبلغ من العمر 58 عاماً، تلقى تعليمه في الكويت حتى تخرج في جامعة الكويت كلية العلوم وحاسب وإحصاء، كان يعمل في الهيئة العامة للمعلومات المدنية قبل وأثناء الغزو العراقي الغاشم اختصاصي قواعد بيانات، عاش محنة الغزو ولم يغادر البلاد، أتيحت له الفرصة أن يخدم وطنه الكويت الذي عاش وترعرع فيه؛ حيث يرى أنه مدين له بالكثير من الفضل، ولم يقدم له سوى القليل من حقه عليه.

في هذا الحوار، يكشف لنا خبير قواعد البيانات إيهاب يونس (المصري الجنسية) الكثير من الأسرار والأدوار الوطنية التي شارك فيها إبان محنة الغزو العراقي الغاشم للكويت.

– يوم الغزو ذهبت للعمل كسائر الأيام، لكن لاحظت أن الوضع غير طبيعي، وكان مقر الهيئة في ذلك الوقت يقع في مجمع الرحاب بشارع تونس بمدينة حولي؛ فغادرنا مقر الهيئة في حدود الساعة العاشرة صباحاً، ولم يكن جنود الاحتلال قد وصلوا حولي ولا الأحياء السكنية، وفي عصر اليوم التالي كنت أسمع من منزلي في منطقة الجابرية دوي انفجارات فوق قصر الشعب، عرفت لاحقاً أنها قنابل صوتية.

– تقريباً بعد عصر يوم الجمعة 3 أغسطس 1990م، حيث تمركزوا في المخفر، وسيطروا عليه وعلى الجمعية، وكانت تشكيلات القوات العراقية مختلفة ما بين قوات النخبة (الحرس الجمهوري العراقي)، وقوات الجيش النظامي، ولاحقاً الجيش الشعبي، ثم بدأت تتحكم في الميادين الكبيرة، وجلسنا في البيت قرابة أسبوعين حتى يتبين لنا كيف ستسير الأمور. 

– كان المشهد يسوده الاضطراب والفوضى، وكنت أعلم أنه سيتم استدعائي عاجلاً أم آجلاً لطبيعة عملي في الهيئة؛ فقد كنت أعمل اختصاصي قواعد بيانات، واتصلت بالأخ الفاضل مهلهل المضف، وأخبرته بأنني سأذهب للعمل، وأبلغ نائب المدير العام وقتها الأخ مساعد المخيطر، وأبلغني بأن القرار لي، فقلت لهم: من الأفضل الذهاب حتى نعرف ماذا يحدث ونكون على اطلاع على مجريات الأمور، وبالفعل كان في قراري كل الخير، وكنت أتردد شبه يومي بعد الظهر على الأخ مهلهل المضف وأنقل له كل ما يحدث وكل ما يتنامى لمسامعنا من أخبار.

– في الأسبوع الأول من الغزو اتصل بي مهلهل المضف بتكليف من نائب المدير العام مساعد المخيطر، طالباً مني الحصول على نسخة كاملة من قواعد البيانات، فأخبرته أن هذا الأمر صعب لكن سنحاول، واتصلت على أحد الفنيين الهنود كان مسؤولاً عن دعم أنظمة التشغيل، وذهبنا سوياً لمبنى الهيئة في مجمع الرحاب، وكان للهيئة مبنى آخر في منطقة الضجيج بالفروانية، وكنا يومياً نقوم بعمل نسختين من قواعد البيانات نرسل واحدة لمركز الهيئة في الفروانية ونحتفظ بالأخرى كأرشيف محدث، وتم عمل نسخة نهائية بتاريخ 1/ 8/ 1990م، ولم يتم إرسالها للفروانية، وكان عدد “الشرائط الممغنطة” التي بها قواعد البيانات 24 شريطاً ممغنطاً في كرتونتين، وأثناء ذهابنا للمبنى لم يكن جنود الاحتلال العراقي وصلوا بعد، وكان موظفو الأمن فقط هم الموجودين في المبنى، وأذكر منهم فرد الأمن ناصر البلوشي، وموظفاً يدعى سعيد السناوي، من قسم الأمن والحماية الذي رفض تسليمنا النسخ الموجودة في الكراتين، فأبلغته أن هذا تكليف من  نائب المدير العام مساعد المخيطر، ولم يقتنع إلا بعد الاتصال بهم، وطلب مني التوقيع على تسلم نسختين من قواعد البيانات، وقمت بتسليم نسخة كاملة محدثة للأخ عادل العتال، اختصاصي شبكات، ليسلمها بدوره للأخ سالم الذياب، مدير إدارة السجل المدني في ذلك الوقت.

تم إنشاء وحدة مؤقتة بديلة عن “المعلومات المدنية” بالجهاز المركزي للإحصاء في البحرين بتكلفة عدة ملايين من الدولارات

– عندما سيطر جنود الاحتلال العراقي على مبنى الهيئة حصلوا على كشوف الموظفين الذين يعملون في هيئة المعلومات المدنية، وطلبوا حضورنا كما توقعت؛ حيث تم استدعاؤنا لوزارة التخطيط، وخصصوا لنا مدرجاً في الوزارة، وكان عددنا خمسة أشخاص (منهم ثلاثة فنيين؛ أنا وفلسطينيان مشغلا حاسب رئيس)، وكنا محاطين بعدد كبير من الجنود العراقيين، وذهبنا إلى مبنى الهيئة، وكان معنا رئيس الوفد العراقي الذي زار الهيئة  قبل الغزو بعدة أشهر، ودخلنا إلى قاعة الحاسب الرئيس وكانت مظلمة إلا من أنوار الأجهزة الحمراء، وطلبوا منا تشغيل الأجهزة، وكنا قد عقدنا العزم جميعاً على تخريب الأجهزة، وتعطيل أجهزة التحكم المركزية في النظام.

– لم نتلق تكليفاً من أحد، كان الأمر بدافع وطني بحت ومن منطلق حبنا للكويت، ولأننا كنا نعلم وندرك جيداً ماذا يعني السيطرة على جميع بيانات الدولة والمواطنين، وخطورة ذلك على الشخصيات العسكرية والقيادية في الكويت؛ حيث كان العراقيون يريدون الحصول على كل ما يتوفر من معلومات عنهم على قاعدة البيانات للقبض عليهم.

– قام معي زميلاي الفلسطينيان (أحدهما يدعى حسن، والآخر جمال)، ودخلنا الغرفة الرئيسة وفي دقائق معدودة وبحضور العراقيين تم تخريب الديسك الرئيس المشغل للأجهزة ونظام التشغيل، وعندما سألوا: لماذا لم تعمل الأجهزة؟ قلنا لهم: هناك عطل فني خارج عن إرادتنا، ويحتاج فنيين من شركة “IBM”، وبفضل الله لم يتم تشغيل الأنظمة، ولم يتمكن العراقيون من الدخول على قواعد البيانات أو الاطلاع عليها.  

أحبطنا مخطط الاحتلال لمحو هوية الشعب بتوثيق خريطة الكويت السكانية واستعادة تشغيل قواعد البيانات بعد الغزو

– بشكل مباشر لم يكن لي اتصال، لكن اتصل بي زميلي بالهيئة مهلهل المضف لمقابلة شخصيات مهمة في العديلية عند الأخ سالم دياب، مدير إدارة السجل المدني، وكان يسكن العديلية، وكان الدخول لها صعباً بسبب سيطرة العراقيين، لكن بفضل الله تجاوزنا ذلك وحضرت اجتماعاً بحضور 7 شخصيات عسكرية من المقاومة يترأسهم شخصية عسكرية كبيرة، وكان الهدف من الاجتماع إحراق مبنى الهيئة العامة للمعلومات المدنية بالكامل، وإتلاف كافة الأجهزة التي تضم قواعد البيانات حتى لا تقع في أيدي جنود الاحتلال العراقي.

– لمعرفتي الكاملة بالمبنى والأجهزة التي تحمل قواعد البيانات والمداخل والمخارج المؤدية لغرفة الحاسب الرئيسة، قمت برسم كروكي واضح للمكان والأجهزة الواجب إتلافها لتعطيل جميع أنظمة التشغيل، وأعطيت للمقاومة كافة المعلومات عن مبنى الهيئة في مجمع الرحاب، وغادرت الاجتماع ولم أحضر أي اجتماعات بعد ذلك، ولم أعرف هل نفذت المهمة أم لا.

– لم يكن لي شخصياً علاقة بذلك، لكن كان هناك زميل مصري يعمل معنا في الهيئة العامة للمعلومات المدنية، كان قد أخذ ماكينة طباعة المدنية إلى مكان مجهول في الأيام الأولى للغزو، وكان يقوم بطباعة هويات ومدنيات بأسماء وهمية لرجال المقاومة والشخصيات المهمة حتى لا يتم القبض عليهم من قبل القوات العراقية أثناء خروجهم برياً إلى السعودية، ونجا بفضل ذلك الكثير منهم من قبضة القوات العراقية الغاشمة.

ما قمتُ به ليس تفضلاً ولا منَّة على الكويت بل جزء من واجبي تجاه وطني الذي عشت فيه

– لم ينتهِ دورنا عند ذلك، فقد اتصل بي الأخ سالم الذياب مجدداً لمقابلته في منطقة العديلية، وأعطاني راتب شهر سبتمبر، وقال لي: هذا الراتب من فلوس الكاش الخاصة بالهيئة، كنا قد قمنا بسحبها في الأيام الأولى من الغزو، وطلب مني مغادرة الكويت لمقابلة مدير الهيئة الأخ فيصل عبدالرحمن الشايجي في السعودية لمهمة خاصة وعاجلة ولا تحتمل التأخير، وطلبت منه تعديل ومكان المقابلة لأقوم بتسفير زوجتي وابني الصغير عن طريق الأردن، فوافق، وبالفعل خرجنا إلى الأردن، وودعت زوجتي وابني مع بعض الأقارب ليعودوا إلى مصر، وركبت طائرة إلى عمَّان، واتصلت بالأخ فيصل عبدالرحمن الشايجي ليتم تعديل مكان المقابلة في البحرين لأصل إليها في 30/ 10/ 1990م، وكان في استقبالي الأخ فيصل مع الشيخ أحمد عطية الله آل خليفة لتبدأ مهمتي الجديدة.

– نزلنا من الطائرة وذهبنا مباشرة إلى الجهاز المركزي للإحصاء في البحرين، حيث دخلنا غرفة خصصت لي بها أجهزة حاسب آلي وكمبيوترات حديثة وجاهزة للتشغيل لاستعادة وتشغيل قواعد البيانات التي قمنا بتهريبها خارج الكويت، وعلمت فيما بعد أن هذه الأجهزة اشتراها الأخ فيصل عبدالرحمن الشايجي من ميزانية رصدتها الحكومة الكويتية في الطائف لهذه المهمة قيمتها حسب ما أذكر قرابة عدة ملايين من الدولارات، وكانت المهمة الأولى التي كلفت بها طباعة نسختين من جميع كشوف قواعد البيانات الخاصة بأهل الكويت على وجه السرعة لتسلم لقوات الحدود السعودية الكويتية خاصة مع سماح العراقيين بخروج كل من يريد مغادرة الكويت عن الطريق البري إلى السعودية، وكانت المخابرات العراقية قد زرعت الكثير من عناصرها وسط العائلات الكويتية على أنهم من أهل الكويت؛ فكانت هذه الكشوف بما فيها من بيانات ومعلومات دقيقة هي السبيل الوحيد لكشف عناصر المخابرات العراقية، ومنعهم من الدخول للسعودية أو انتحال شخصيات كويتية، خاصة أن العراقيين كانوا يسلبون كل من يغادر الكويت جميع أوراقه الثبوتية وجوازات السفر.

الفضل بعد الله يعود في عدم تمكين المحتل من تشغيل أنظمة المعلومات المدنية لفلسطينيين فنيين بالهيئة

– بفضل الله تعالى على مدار ثلاثة أيام من العمل المتواصل التي تخللها سويعات قليلة من الراحة دون الاستغراق في النوم تم طباعة جميع الكشوف التي وضعت في 24 كرتونة كبيرة تم تسليمها لقوات الحدود السعودية الكويتية.

– كانت المهمة التالية أن أقوم بتشغيل النظام بالكامل كما كان في الكويت، مع العلم بأن هناك الكثير من النقاط الفنية والتقنيات التي لم تكن من اختصاصي في تصميم البرمجة ونظام التشغيل، فبدأت بعمل اتصالات بالفنيين الذين كانوا معنا وسافروا إلى مصر، وعلى مدار شهر كامل من العمل المتواصل والاستعانة بالخبراء والفنيين تم تحديث قاعدة البيانات ليعمل النظام بالكامل كما كان في الكويت، وكان تعاملنا مباشرة مع الحكومة الكويتية في المنفى عن طريق الشيخ خالد مبارك الصباح الذي كان يشغل مدير إدارة المعلومات في الهيئة العامة للمعلومات المدنية، وأصبحنا وحدة الدعم الرئيسة للسفارات الكويتية في الخارج لاستخراج وثائق سفر الكويتيين في الخارج، ونجحنا في هذه المهمة التي ذللت الكثير من الصعوبات التي قابلها الكويتيون أثناء محنة الغزو بعد أن جردهم الغزو العراقي الغاشم من كل ما يثبت هويتهم وجنسيتهم.

ولاحقاً بعد التحرير تم توفير خدمات الهيئة للكويت من مركزنا بالبحرين عن طريق الاتصالات اللاسلكية.

– نعم، أستطيع أن أقول: إن من أهم الأدوار التي أعتز بالقيام بها توثيق خريطة الكويت السكانية التي سلمت للأم المتحدة؛ حيث طلب مني الأخ مساعد المخيطر، نائب مدير الهيئة، نسخة دقيقة ومحدثة من قاعدة بيانات الكويت التي تم نسخها في 1/ 8/ 1990م؛ أي قبل الغزو بيوم واحد، وقمت بتجهيزها ومراجعتها وسافر بها للسعودية وسلمها لأمير الكويت الراحل المغفور له بإذن الله الشيخ صباح الأحمد الجابر الذي كان يشغل وقتها منصب وزير خارجية الكويت؛ حيث سلمها للأم المتحدة لاعتمادها كخريطة سكانية للكويت؛ لأن الغزو العراقي الغاشم كان قد عمل على تغيير التركيبة السكانية لأهل الكويت ومحو هويات الكثير من المواطنين، والعبث بالجنسيات وإعادة تشكيل المحافظات ومسمياتها، وبالتالي يكون كل من دخل الكويت بعد 1/ 8/ 1990م خارج هذه الكشوف ليس من أهل الكويت.

وبعد ذلك كلفنا بعمل كروت التموين والمساعدات لأهل الكويت عبر السفارات الكويتية حول العالم؛ حيث كنا نزودهم بكافة البيانات الدقيقة الخاصة بأهل الكويت، وأوقفنا الكثير من عمليات التحايل وانتحال الشخصيات الكويتية في الخارج.

– أحب أن أقول: إن ما قمت به من جهود ليس تفضلاً ولا منَّة على الكويت، بل أحمد الله أن قدر لي أن أخدم هذا الوطن الحبيب، وهذا جزء من واجبي تجاه وطني الذي نشأت وتعلمت وعشت فيه طيلة حياتي منذ أن كان عمري شهراً واحداً حتى الآن وقد بلغت الـ58 من عمري، ولقد كان من أصدقائي الكثير من الشباب الفلسطيني ولم يكن منهم شخص واحد راض عن الغزو العراقي للكويت، بل كانوا ناقمين على صدام حسين وما فعله في الكويت، ومن له الفضل بعد الله تعالى في عدم تمكين المحتل من تشغيل أنظمة المعلومات المدنية هما الفلسطينيان حسن، وجمال، مشغلا الحاسب الرئيس بالهيئة، وهذه شهادة لله وللتاريخ.

Exit mobile version