سنن تاريخية في ضياع بيت المقدس

 

من السنن التاريخية الثابتة أن القدس كانت تضيع حينما تضعف القاهرة ودمشق وإسطنبول

الصليبيون أدركوا أنه لن يمكن الاستيلاء على بيت المقدس دون السيطرة على مصر

العادل عرض على الصليبيين أن يرحلوا عن مصر مقابل أن يسلم لهم كل ما حرره صلاح الدين!

فريدريك استلم بيت المقدس بـ600 فارس فقط لم يحاربوا ولم يخسر منهم أحداً!

ابن واصل: دخلت بيت المقدس ورأيت الرهبان على الصخرة المقدسة وعليها قناني الخمر برسم القربان

القدس لم تضع بالتاريخ المعاصر إلا عندما ضعفت إسطنبول وضربها الفساد والوهن

احتلال بيت المقدس جرى بعد 35 عاماً من احتلال القاهرة واستعمل الإنجليز في احتلالها كل موارد مصر

 

ذكرنا في المقال الماضي أنه من خلال مطالعة تاريخ بيت المقدس ستظهر لنا سنة مطردة خلاصتها أن بيت المقدس بمثابة القلب من الضلوع، والتاج من المدن، وأنه لا يُوصل إليه إلا من خلال العواصم المحيطة به، وتناولنا في المقال الماضي محطات الفتح العمري والتحرير الصلاحي، وقد ظهر لنا منها أنه لم يمكن فتح بيت المقدس إلا بعد فتح دمشق، ولم يمكن تحرير بيت المقدس إلا بعد تطهير دمشق والقاهرة من الأمراء الفاسدين، وباتحاد مصر والشام صار تحرير بيت المقدس مسألة وقت.

في هذا المقال، نتوقف عند محطات ضياع بيت المقدس، وهي ثلاث محطات كبرى: ضياعه في الحملة الصليبية الأولى، وفي الحملة الصليبية السادسة، ثم ضياعه قبل نيف ومائة عام في الاحتلال الإنجليزي.

في محطات الهزيمة سنرى أنه لم يتمكن الأعداء من الوصول إلى بيت المقدس إلا بعد أن ضرب الفساد والخيانةُ أو الاحتلال العاصمتيْن المهمتيْن حوله؛ القاهرة ودمشق، وفي مرحلة لاحقة إسطنبول!

عشية الحملة الصليبية الأولى انقسمت مصر والشام، فكانت مصر تحت حكم العبيديين (الفاطميين) وهم شيعة إسماعيلية، وكانت الشام تحت حكم السلاجقة وهم من أهل السُّنة، وقد انقسمت بلاد الشام ودخلت في النزاع بين السلاجقة والعبيديين، وقد كانت كلتا الدولتين قد فقدت أمراءهما الأقوياء، فقد تفكك السلاجقة في الشام بعد السلطان القوي ملك شاه (ت 485هـ/ 1092م)، ودخل العبيديون فيما يسمى بعصر الوزراء بعد ضعف الخلفاء، ثم زاد الوضع سوءاً حين تحالف العبيديون مع الفرنجة الصليبيين ضد السلاجقة، وهو التحالف الذي استفاد منه الصليبيون في الاستيلاء على شمال الشام، ثم سرعان ما غدروا بهم وانتزعوا بيت المقدس الذي كان في حوزة العبيديين آنذاك!

وهكذا ضاعت القدس حيث كانت العواصم القوية حولها في حال مزرية، فالخليفة الضعيف في بغداد، والأمراء السلاجقة الضعاف المتنازعين في الشام، والخليفة العبيدي الضعيف في القاهرة! وستظل بعدها نحو مائة عام في ظل الاحتلال الصليبي والأقصى حظيرة خنازير!

ستبدو هذه السنة التاريخية واضحة في مسيرة الحملات الصليبية التالية، فلئن كانت الحملة الأولى قد نجحت في احتلال بيت المقدس، فقد جاءت الحملة الثانية بعد تحرير الرها على يد عماد الدين زنكي، لكنها لما وصلت كان عماد الدين قد رحل وتولى الأمر من بعده ابنه نور الدين محمود الذي استطاع أن ينشئ تحالفاً مع حاكم دمشق، ومع أن دمشق كانت في هدنة مع الصليبيين، إلا أنهم هاجموها أولاً ناقضين للعهد بينهما، وهو ما أجبر دمشق على الدخول في مواجهة الصليبيين، وأدى ذلك –مع أسباب أخرى- لإخفاق الحملة الثانية.

وأما الحملة الثالثة، فقد جاءت بعد تحرير صلاح الدين لبيت المقدس، وكانت أضخم الحملات الصليبية وأشرسها، ولكنها جاءت وقد توحدت مصر والشام، وكانتا تحت السلطان صلاح الدين، فانتهت الحملة الكبرى إلى الإخفاق ولم تستطع أن تحتل بيت المقدس، وعاد ملوكها يجرون أذيال الخيبة!

وأما الحملة الرابعة فقد انحرفت –لظروف تخص الخلافات الأوروبية الداخلية- فبدلاً من أن تأتي إلى المشرق توجهت إلى القسطنطينية واستولت عليها.

وأما الحملة الخامسة، فهي الحملة التي تثبت بوضوح هذه السُّنة التاريخية التي نتحدث عنها، لقد جاءت تلك الحملة بفكرة جديدة بعد قراءتها لأخبار الحملات السابقة، تلك هي السيطرة على مصر أولاً، لقد كان الدرس واضحاً: لن يمكن الاستيلاء على بيت المقدس ولا الاستقرار فيه دون السيطرة على مصر والاستيلاء على القاهرة، وقد نقل ابن واصل خبر تشاورهم فقال: “اجتمعوا للمشورة في ماذا يبدؤون بقصده، فأشار عقلاؤهم بقصد الديار المصرية أولاً، وقالوا: إن الملك الناصر صلاح الدين إنما استولى على الممالك، وأخرج القدس والساحل من أيدي الفرنج بملكه ديار مصر، وتقويته برجالها، فالمصلحة أن نقصد أولاً مصر ونملكها، وحينئذ فلا يبقى لنا مانع عن أخذ القدس وغيرها من البلاد”(1).

من المؤسف أن صلاح الدين كان قد توفي، بل إن أخاه العادل سيف الدين توفي في أثناء الهجوم الذي شنته الحملة الصليبية على دمياط، وصار الشام إلى عيسى بن العادل، وصارت مصر إلى محمد بن العادل الملقب بالملك الكامل.

واقعة ذات دلالة

وفي واقعة لها دلالاتها الكثيرة والقوية، عرض العادل على الصليبيين أن يرحلوا عن مصر في مقابل أن يسلم لهم كل ما حرره صلاح الدين من المدن بما في ذلك بيت المقدس، ما عدا الكرك والشوبك، وانقسم الصليبيون أمام هذا العرض، فمنهم من وافق ورآها فرصة لا تقدر بثمن، ومنهم من رفض ورأى أنه لا يمكن الاحتفاظ ببيت المقدس دون الاستيلاء على مصر، وانتصر الرأي الأخير!

لم يجد الكامل إلا أن يقاوم، وبعد فصول طويلة استطاع جيشه وجيشا أخويْه اللذيْن قدما لنجدته أن يهزموا الحملة الصليبية الخامسة! ولقد كان بإمكان الكامل أن يبيد جيش هذه الحملة، إلا أنه لنفسيته المشبعة بالجبن والخور رفض أن يفعلها، وسمح لهم بالانسحاب سالمين.

يجب القول أيضاً: إن سياسة الكامل والرفض الصليبي لعرضه يثبت ما نقول من أن القاهرة مفتاح بيت المقدس، وأنها –من المنظور السياسي والعسكري- أهم من بيت المقدس، وليست الأهمية هنا دينية وقدسية، فالقدس أعظم لا شك، لكن ميزان القوة يُحسب من جهة الموارد والنفوذ؛ المال والرجال!

ثم ما لبث أن دبت الفرقة والخلاف بين الإخوة الثلاثة؛ الملك الكامل محمد في مصر، وأخيه المعظم عيسى في الشام، والأشرف موسى في شمال العراق وديار الجزيرة، فتحالف المعظم عيسى صاحب الشام مع جلال الدين الخوارزمي، وتحالف الكامل مع فريدريك الثاني صاحب الإمبراطورية الرومانية المقدسة الذي نشأ يتيماً في صقلية، وعرض عليه التنازل عن بيت المقدس وما حرره صلاح الدين!

أغرب قصص الخيانة!

مع أن المعظم عيسى مات عام 624هـ، واستولى الكامل على مملكته بالفعل، ومع أن فريدريك كان محروماً من قبل البابا، وكان الصليبيون في الشام ضده وعرضوا على الكامل أن يحاربوه معه، ومع قلة عدده (600 فارس)، إلا أن الكامل أعطاه القدس! أعطاه إياها لمجرد الوفاء بالوعد ولمجرد التحالف والصداقة!

وهكذا استلم فريدريك بيت المقدس بستمائة فارس فقط، لم يحاربوا ولم يخسر منهم أحداً، وبمجرد التفاوض، ودون أي مكاسب تعود على الكامل، في واحدة من أغرب قصص الخيانة في التاريخ!

ومجاملة لفريدريك، منع الكاملُ مؤذن بيت المقدس من الأذان حرصاً على عدم إزعاج صديقه وحليفه الملك فريدريك! وأخبر الكامل صديقه فريدريك بأنه سَجَن أعظم علماء المسلمين الذين عارضوه في هذا التسليم! وقد وجد الكامل من يفتيه بجواز تسليم بيت المقدس للصليبيين!

وسجن الكامل كذلك واحداً من قادة جيشه، سيف الدين بن أبي زكري، الذي قال له: اتحد مع أخيك وابن أخيك على هذا العدو، ولا يُقال أعطى السلطان الفرنج القدس(2)! ثم إن الكامل فضّ اعتصاماً أقامه أهل القدس عند خيمته وقد حملوا معهم قناديل الأقصى وستائره!

وبعد وفاة الكامل، وفي خضم اشتداد المنازعات بين أبناء الإخوة الذين ورثوا عداوات أبيهم وتنقلت بينهم المعسكرات وتبدلت أحوالهم بصورة درامية بائسة ومثيرة للاشمئزاز، استطاع الناصر داود بن المعظم (عيسى بن العادل سيف الدين بن نجم الدين أيوب) أن يهاجم بيت المقدس فيحررها (637هـ)، ولكنه نكاية في ابن عمه الصالح أيوب (ابن الكامل محمد بن العادل سيف الدين بن نجم الدين أيوب) سلطان مصر، وتحالفاً مع عمه الصالح إسماعيل (ابن العادل سيف الدين بن نجم الدين أيوب)، سلمها للصليبيين مرة أخرى في عام 641هـ، بل وتعهد الصالح إسماعيل –قائد التحالف- للصليبيين بجزء من ديار مصر إذا انتصروا على سلطانها الصالح نجم الدين أيوب.

ومع أن المعاهدات بين هؤلاء الأمراء مع الصليبيين حين سلموا لهم بيت المقدس أن يحتفظ المسلمون بالسيادة على المسجد الأقصى وأن تقام الشعائر، إلا أن الصليبيين لم يؤبهوا بهذا، حتى إن ابن واصل المؤرخ حين كان في سفارة ببيت المقدس نقل صورة الوضع هناك، فقال: “دخلت بيت المقدس ورأيت الرهبان والقسوس على الصخرة المقدسة، وعليها قناني الخمر برسم القربان، ودخلت الجامع الأقصى وفيه جرس معلق، وأبطل بالحرم الأذان والإقامة وأعلن فيه بالكفر”(3)!

وفي النهاية، استطاع الصالح أيوب، سلطان مصر، أن يقضي على خصومه من أبناء عمه، وأن يعيد توحيد مصر والشام، وتحالف مع الخوارزميين، ثم استطاع تحرير بيت المقدس (642هـ)، وذلك في أعقاب انتصاره في معركة غزة على التحالف الذي ضم الأيوبيين الشوام مع الصليبيين، وقد وصفهم سبط ابن الجوزي بقوله: “ساروا تحت أعلام الفرنج وعلى رؤوسهم الصلبان المسلمين والأقساء فِي الأطلاب يصلِّبون ويقسقسون عليهم، وبأيديهم كاساتُ الخمر والهنابات يسقونهم”(4).

ضياع القدس المعاصر

ظلت مدينة بيت المقدس في يد المسلمين حتى الاحتلال الإنجليزي المعاصر، أي لمدة سبعة قرون، وفي هذه القرون السبعة كانت مصر والشام دولة واحدة، إما تحت السيادة المملوكية، أو العثمانية؛ فكانت مسؤولية بيت المقدس –ومعها الحرمان الشريفان أيضاً- تقع على عاتق القاهرة ودمشق في العصر المملوكي، وعلى عاتق إسطنبول في العصر العثماني، واستطاعت الدولتان أن تقوما بالمهمة خير قيام، فظلت مدينة بيت المقدس والحرمان الشريفان في حصن منيع!

ولم تضع مدينة بيت المقدس في التاريخ المعاصر إلا عندما ضعفت إسطنبول وضربها الفساد والوهن، وهي اللحظة التي استطاع فيها الاحتلال الإنجليزي أن يستولي منها على القاهرة –المدينة الثانية في الإمبراطورية العثمانية بعد العاصمة- ومن القاهرة تحرك الجيش الإنجليزي الذي احتل بيت المقدس! لقد كان جيش مصر الذي أسسه الإنجليز هو الذي قاتل العثمانيين في الشام وفتح الطريق لاحتلال بيت المقدس.

وقبل الإنجليز كانت نفس المحاولة قد جرت على يد نابليون؛ احتل القاهرة أولاً، ومنها خرج بجيشه إلى الشام يريد بيت المقدس، لكن الظروف السياسية لم تساعده على إنجاز مهمته.

لقد جرى احتلال بيت المقدس بعد خمس وثلاثين سنة من احتلال القاهرة، واستعمل الإنجليز في احتلالها كل موارد مصر من مال ورجال بل حتى الخيول والحمير انتزعوها من المصريين ليخوضوا بها الحرب العالمية الأولى التي أسفرت عن غروب الدولة العثمانية وغروب بيت المقدس معها.

وأدنى نظر في مذكرات هرتزل، مؤسس المشروع الصهيوني، سيخبرنا بذات السُّنة التاريخية التي نتحدث عنها، التي يبدو أن هرتزل فقهها جيداً، لقد كان هرتزل حريصاً للغاية على أن يؤسس دولة للصهاينة في بيت المقدس من خلال التأثير على قرار العواصم المهمة المتحكمة في مصيره من خلال نفوذها المباشر عليه مثل إسطنبول، أو من خلال نفوذها على إسطنبول مثل لندن وبرلين والفاتيكان وموسكو.. ولكن هذا حديث طويل ومهم، ولعلنا أن نفرده في مقال قادم إن شاء الله تعالى.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) ابن واصل، مفروج الكروب، 3/258.

(2) ابن شداد، الأعلاق الخطيرة، (تاريخ لبنان والأردن وفلسطين)، ص224.

(3) ابن واصل، مفرج الكروب (مرجع سابق)، 5/333.

(4) سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، 22/381.

Exit mobile version