شبهات وردود.. تأخر تدوين السُّنَّة (1)

 

– يتكئ منكرو السنة على شبهة تأخر التدوين لتحقيق أغراضهم الخبيثة

– لم تخل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من تدين السنة

– كانت السنة القولية والفعلية محفوظة في صدور الرعيل الأول من الصحابة

– من الخطأ الفاحش ادعاء منكري السنة أن التدوين بدأ في القرن الثالث الهجري

– بدأ تدوين السنة مع بداية القرن الثاني الهجري في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

– استجابة لدعوة عمر؛ شمر العلماء عن ساعد الجد ونشطوا في جمع الأحاديث مع التثبت والنقد والتمحيص

– في القرن الثالث الهجري بدأت مرحلة تدوين الأسانيد حسب الموضوعات

 

هذه الشبهة يتكئ عليها منكرو السُّنَّة كثيراً في تحقيق أهدافهم الخبيثة ضد السُّنَّة، ويبالغون في توظيفها للتقليل من منزلة السُّنَّة النبوية الشريفة؛ لأنها كما يزعمون   دخيلة على الإسلام، وزيادة في الدين ما أذن الله بها؟!

يقول هؤلاء المتربصون: لو كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون للسُّنَّة أهمية في الدين، لعجلوا بجمعها وكتابتها كما صنعوا بالقرآن، ولكن الصحابة تركوها طيلة حياتهم، وماتوا ولم تدون السُّنَّة في عهدهم، وإنما تولى تدوينها التابعون بعد مائتي سنة من بدء التقويم الهجري بل إن تدوينها تم في القرن الثالث الهجري، عصر البخاري ومسلم وابن حنبل وغيرهم.

تفنيد هذه الشبهة ونقضها

هذه الشبهة مهما غالى المعاندون في دلالتها على مرادهم منها، فإنها أشبه ما تكون بسحابة صيف في سماء صافية، سرعان ما تنقشع.

ولنا في تفنيد ونقد مرادهم منها عدة مسالك:

الأول:

ليس صحيحاً أن عصر صدر الإسلام خلا تماماً من تدوين السُّنَّة، إذ من المعلوم أن أجزاء من السُّنَّة تم تدوينها في حياة الرسول نفسه، وبتوجيه مباشر منه.

من ذلك كتبه ورسائله لرؤساء الشعوب وزعماء العشائر والاتفاقات والمعاهدات والتصالحات، التي جرت في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي مجموعة الآن في وثيقة قيمة، وبعضها مختوم بخاتمه صلى الله عليه وسلم. ([2])

وكذلك دون الصحابة الصحف الخاصة بهم، كصحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، وصحيفة الإمام علي، وما كتب عام فتح مكة بأمر من النبي لأبي شاه اليمني، فالقول بأن عصر النبوة خلا تماماً من تدوين السُّنَّة قول فيه بعد عن الحقيقة.

وممن عرفوا بكتابة الحديث في صدر الإسلام الأول عبد الله بن عباس، وسعيد بن جبير، وابن هشام وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. ([3])

الثاني:

أسباب قلة التدوين في العصر النبوي:

إن قلة التدوين للحديث النبوي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وما تلاه حتى نهاية القرن الأول الهجري، لها أسباب وجيهة تُعزى إليها.

ذلك أن رجال القرن الأول كانوا إما من الصحابة، وإما من كبار التابعين (الرعيل الأول) وكان هذا القرن يتميز بميزتين:

الأولى: أن سُّنَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القولية كانت محفوظة في صدور الرجال، حاضرة ماثلة في ذاكرة الأمة، فلم تدع ضرورة إلى كتابتها وتدوينها.

الثانية: أن التابعين الذين عاصروا صحابة الرعيل الأول كانوا محيطين إحاطة كاملة بالسُّنَّة العملية، يهتدون بها وبالسُّنَّة القولية دون الحاجة إلى الرجوع إلى كتاب مكتوب، وكان الصحابة وكبار التابعين يتذاكرون هذه السنن فيما بينهم أو يسأل من جهل شيئاً من السنن من هو عالم بها، وكل هذا قام مقام التدوين فلم يُحتج إليه.

ويضاف إلى هاتين الميزتين ميزة ثالثة، لا تقل عنهما قدراً وإجلالاً:

وهي أن السُّنَّة خلال القرن الأول كانت صافية نقية محفوظة في الصدور على الصورة التي سُمعت بها من فم النبي صلى الله عليه وسلم، بعيدة عن كل علة أو كذب.  

 هذه هي الأسباب في قلة تدوين السُّنَّة في القرن الهجري الأول تدويناً واسعاً، وليست أسبابها ما يروجه منكرو السُّنَّة زوراً وبهتاناً، أن السُّنَّة ليست من الدين، فلم يهتم بتدوينها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا الخلفاء، ولا جمهور الصحابة؟!

الثالث:

تدوين السُّنَّة في أول القرن الثاني:

من التهويل الممقوت أن منكري السُّنَّة يدَّعون أن السُّنَّة دونت في القرن الثالث الهجري، وقصدهم التأكيد على طول المدة التي أهمل فيها تدوين السُّنَّة توصلاً للتشكيك في صحة الرواية، لبعد ما بين التدوين وبين حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، التي قيلت أو حدثت فيها السُّنَّة القولية والعملية.

وهذا خطأ فاحش؛ لأن تدوين السُّنَّة بدأ مع بداية القرن الثاني الهجري (عام 101هـ) في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقد رأى المسارعة إلى جمع السُّنَّة وكتابتها وتدوينها، خشية أن يضيع منها شيء، أو يلتبس الحق منها بالباطل.

فكتب إلى بعض الراسخين من العلماء، في نهاية القرن الأول الهجري، وبداية القرن الثاني، حسب مواقعهم من الأمصار الإسلامية.

روى الإمام مالك في الموطأ أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن حزم: أن أنظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سننه، أو حديث عمر، أو نحو هذا فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء.([4])

وروى الإمام البخاري نحو ما رواه الإمام مالك رضي الله عنهما، بعد توجيهات الخليفة الراشد الخامس، عمر بن عبد العزيز بجمع الحديث النبوي، بدأت حركة التدوين في الاتساع وزال الأثر الذي كان عالقاً في النفوس من النهي عن كتابة الحديث، والإقلال من الرواية فيه، والتحدث به، واستقر الأمر على جواز الكتابة، بل والحث عليها، بل ووجوب كتابته إذا خيف عليه النسيان والضياع.([5])

وشمر العلماء عن ساعد الجد، ونشطوا في جمع الحديث والسنن مع التثبت والنقد والتمحيص، وبدأت ثمرة التشدد في الرواية، التي كانت في عصر الخلفاء، تظهر بكل وضوح بيد أن حركة التدوين في هذه المرحلة كانت تجمع إلى الحديث النبوي أقوال الصحابة وفتاويهم، وبعض أقوال كبار التابعين.

وفي القرن الثالث أضيفت دراسات وجهود جديدة في التدوين، فدونت الأحاديث والسنن النبوية في أسفار خاصة بها، مع الترتيب الدقيق، واتسعت حركة النقد لأسانيد الحديث ومتونه، والجرح والتعديل والتهذيب والاستدراك والاستخراج.

كل هذا كان يهدف إلى تنقية السُّنَّة من الدخيل والعليل والمكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتوقف جهد العلماء في خدمة السُّنَّة على القرن الثالث، بل أخذ جهدهم ينمو وينمو حتى القرن السابع الهجري، وفيه بلغت الجهود الحديثية درجة الكمال، واستجابة لدعوة الخليفة عمر بن عبد العزيز هب العلماء في كل الأمصار الإسلامية على جمع السُّنَّة وتدوينها:

فكان الإمام مالك بالمدينة، وابن جريج بمكة، والأوزاعي بالشام، ومعمر بن راشد باليمن، وابن عروبة، وحماد بن سلمة بالبصرة، وسفيان الثوري في الكوفة، وعبد الله بن المبارك بخراسان، وهشيم بن بشير بواسط، وجرير بن عبد الحميد بالري، وغيرهم، وغيرهم.([6])

تلت هذه المرحلة مرحلة أخرى أحكم وأدق، خلال القرن الثالث الهجري، حيث قصرت كتب الحديث على رواية الحديث النبوي وحده، وبرز خلال هذه المرحلة منهجان في التدوين:

 أولهما: منهج المسانيد، وهو جمع أحاديث كل راوٍ في مكان واحد مهما كان موضوع الحديث ومعناه، والمسند هو معجم صغير أو كبير يسرد مرويات الصحابي الواحد من أولها إلى آخرها، ومن أشهرها مسند الإمام أحمد، ومسند عثمان بن شيبة ومسند إسحاق بن راهوية.

والمنهج الثاني: فعُني بتدوين الحديث على حسب موضوع الحديث كأحاديث الصلاة، وأحاديث الزكاة، وأحاديث الجهاد، وهكذا، ومن أشهرها صحيحا البخاري ومسلم وغيرهما، وهما قصرا عملهما على جمع الحديث الصحيح دون غيره.

ونقول لهؤلاء المغرضين: إن القرآن الكريم نفسه، وهو أصل أصول الإسلام، لم يدون في صحف في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما تم جمعه وتدوينه في مصاحف في خلافة أبي بكر، بإشارة من عمر رضي الله عنهما، وكان أبو بكر أولاً يمانع في جمعه ويقول لعمر: كيف نفعل شيئاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟، فما زال عمر بأبي بكر حتى أقنعه بجمع القرآن؛ خشية ضياع شيء منه بسبب استشهاد الحفاظ في الحروب، ولما أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت، وكان من كتبة الوحي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، قال زيد لأبي بكر ما قاله أبو بكر لعمر من قبل:

“كيف تفعلون شيئاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما زال أبو بكر بزيد حتى أقنعه بجمع القرآن. ثم قال زيد: “والله لو كلفني – يعني أبا بكر – نقل جبل أحد، أو نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن؟ ([7])

وحركة التدوين – عموماً – بدأت لمحات خاطفة في كل المعارف والعلوم، ثم استوت على سوقها بمرور الأيام والليالي، حتى صارت صروحاً شامخة، أصلها ثابت وفرعها في السماء.

هذه خلاصة الرد على هذه الشبهة، والقارئ الكريم يدرك أنني لم أحد عن الصواب في الرد عليهم، فوجه الحق في هذه المسألة ظاهر ظهور الشمس، ثابتٌ ثبات الجبال الرواسي، أما منكرو السُّنَّة فإن مطيتهم العناد والمكابرة، وهلا سأل هؤلاء أنفسهم: لماذا تأخر تدوين كتب التفسير، والفقه وأصوله، وعلوم اللغة، والسيرة والتاريخ.. إلخ؟! إن هؤلاء يجهلون سنن الحياة، وتطور المعارف والعلوم، الذي لم يخل منه عصر من العصور، حتى يومنا هذا.

 

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – بتصرف من كتاب (هذا بيان للناس – الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية) – المؤلف: الدكتور عبد العظيم المطعني – صـ38: صـ44.

[2] – انظر: الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة. لمحمد حميد الله – دار النفائس.

[3] – انظر: دفاع عن السُّنَّة – د/ محمد أبو شهبة رحمه الله – صـ22.

[4] – شرح الزرقاني على موطأ الامام مالك جـ1 – صـ15

[5] – فتح الباري: جـ1 – صـ165.

[6] – فتح الباري شرح صحيح البخاري – ابن حجر العسقلاني –  جـ1 – صـ195

[7] – انظر صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن

Exit mobile version