أزمة صديق!

 

المكان: في مكان ما!

الزمان: في زمن زادت فيه الحاجة للعلم النافع والمعرفة الصحيحة.

أما هي: فقد وقفت جامدة أمام هذا المشهد المريع وهي لا تصدق عينيها، فقد كان ما تراه أمراً مفزعاً للغاية أثار في نفسها تساؤلات كثيرة، وأصابها بإعصار من الإحباط الذي هزَّ كيانها، أتراها تحلم أم أنها تعيش هذه الحقيقة المُرة المؤلمة.

كانت تنظر إلى كل ما حولها وهي تحوقل وتستغفر الله تعالى وتدعوه، وتطلب منه العفو والسماح، وتسأله أن يهدي القلوب ويثبتها على دينه.

أخذت تتنقل ببصرها هنا وهناك، فتجد نفسها في حديقة كبيرة غنّاء تمتلئ بالأشجار المثمرة وتزدان بالورود الملونة وتمتاز بالفواكه والثمار الناضجة مختلفاً أكلها وألوانها، لكنها للأسف ذابلة، بل إن بعضها قد تمزق من شدة العطش، وذبل من قسوة الوحدة التي يعاصرها، ومرض من لوعة الفراق الذي يلازمه، ومات من هجر الأحباب له، مدت يدها بلهفة إلى ثمرة منها كانت قد وقعت على الأرض وانزوت في ركن من أركان الحديقة، والتقطتها لتمسح عنها الغبار وهي تتأسف لها وتعتذر.

وعندما أمسكت بها وعاينتها أيقنت أنها أمام كارثة كبيرة ومصيبة عظيمة، فقد علمت أن هذه الثروة الكبيرة في طريقها للإبادة الجماعية رغم الحاجة إليها في أماكن شتى، وأن تلك الأشجار في طريقها للبتر والحرق نظراً لضيق المكان الذي يحويها وكثرة الزحام من حولها وقلة المعوزين لها في ذلك المكان، وتفرُّقِ الأتباعِ والمريدين عنها، بل وزُهدِ الكثيرين منهم في الانتفاع بها، فلا أحد يستظل بظلها أو يقضي جزءاً من وقته بينها مع انتشار المقاهي العديدة التي تنازعها وتنافسها، وقلّ مَن يقطف ثمارها الطيبة بعد انتشار الوجبات السريعة؛ فأطرقت حزينة وصرخت قائلة: إنها مذبحة!

جولات وجولات

وفي وسط هذه الحديقة، رأته بين إخوانه يئنّ ويشتكي، وهالها منظره، فصرخت من أعماقها وهي تهرول إليه مسرعة: يا له من مسكين! إنه الآن سيذبح وسط كومة من الأوراق وسَيُباد مع تلك الزهرات والثمرات.. نظرت إليه.. رأته كالزهرة الذابلة التي تتدلى في أيدي العابثين بها في طريقها إلى الموت ومن ثم إلى الفناء.. مدت يدها بلهفة إليه تريد أن تنقذه.. أمسكته بشفقة ورحمة وأخذته بعطف وحنان.. ربتت على ظهره وهي تواسيه.. ضمته إلى صدرها لتدفئه وتهدّئ من روعه، وأيقنت أن لو كان له لسان كألسنتنا لدافع عن نفسه، ولو كان له أرجل مثلنا لولّى هارباً.

رأته بقلبها كأنه يبكي ويشتكي إليها وهي مَن وقفت لتواسيه، إنها الآن لسانه الذي يدافع عنه، فلطالما كان هو لسانها الذي دافع عنها، فكم صدّ عنها من عدوّ حين بصّرها به، وكم علّمها فأزاح عنها بعض ما ألمّ بها من جهل، وكم دعاها إلى مكارم الأخلاق وحثها عليها، ونهاها عن سوء وحذرها منه! وقد زادها الله معه علماً وفهماً، وفكراً ووعياً.

حرَّكته بأصابعها ونظرت إليه ملياً وقالت له مداعبة: يا لك من صديق وفيّ وأنيس مخلص! أمسكت به وهي تسترجع بصحبته عهدها معه، تشبثت به أكثر وأكثر، ونظرت إليه نظرات لها معنى لتجلو به بصرها الذي ضعف وتستعيد سالف ذكرياتها ومغامراتها معه وحبها له وتعلقها به، ثم ضمته إلى صدرها ثانية وهي تبكيه!

مَن رآها على تلك الحال علم أن لها معه جولات وجولات، وأيقن أن بينها وبينه صلات وصلات، وظن أنه أحد أفراد عائلتها الغوالي الذين لا تستطيع فراقهم أو البعد عنهم، ولا عجب من ذلك فإنه صديقها الوفي الذي نسميه جميعاً «الكتاب»، هو بالنسبة لها الصديق المخلص البار بها، والجار الصالح الملاصق لها، لم تمَلّه يوماً ولم يملها، ولم تشْكُه لأحد ولم يَشْكُها، وقد أحبته وأحبها، وهو على خلاف البشر إذ يعجبه منها أن تفشي سِرّه علناً، وتنشر خبره جهراً، وأن تديم صحبته حباً، وتحصي حروفه فهماً، وتدعو لما بين يديه من علم يُحيي به، وخير يدعو إليه، وشر يحذر منه، وثقافة ينشرها.

وقفت ذاهلة وهي لا تصدق أنه الآن في طريقه لأن يُذبح، انقبض قلبها حينما فكرت في هذه الكارثة التي ستلحق بتلك الحديقة الطيبة التي تمتلئ به وبإخوانه، وكيف أنها ستخلو منهم جميعاً عما قريب، ليحل محلهم زائر جديد، هو حتماً لا يداني صديقها الكتاب بأي حال، ولا يساويه في قيمته ومنزلته وقد ملك عليها عقلها فكراً، وامتلأ به قلبها حباً.

نظرت إلى إخوانه الذين وقعوا على الأرض أو استلقوا على أسِرّتهم في حضن أمّهم المكتبة، وقد أحزنها حالهم، لقد جُمعتْ كل هذه الكتب وهي التي كانت تتصدر تلك المكتبة في يوم من الأيام، جمعت للتخلص منها والاستغناء عنها، إنها ستُباد كلها أو تُحرق أو يُعاد تصنيعها مع الأوراق القديمة، وقد ينجو منها بعض الكتب التي ينقذها أصحاب القلوب الرحيمة فيأخذونها وينتشلونها قبل أن يصل إليها حدّ السكين، وفكرت قليلاً في نفسها، تمنت أن يصدر عفو عام عن كل كتاب طيب، أو أن يخفف الحكم عليه من الإعدام إلى النفي لمكان آخر يقبله أو الحبس في مكتبة أخرى تضمه، لكن ما يحدث لهذه الكتب أشبه بالحرب المستعرة التي لا تفرّق بين صغير وكبير، وصالح وطالح، فهي لا تدَع أحداً منها ولا تذر.

ازدادت حسرتها وحيرتها وهي تنقب في تلك الأكوام الورقية التي اختلطت فلم تستطع لها تمييزاً لتنتقي منها كل ما يقع في يديها من هذه الثروة الورقية الغالية المتنوعة؛ زمناً وشكلاً ومضموناً، التي تعبر عن إرث الآباء وكنز الأجداد، وحاضر الأبناء ومستقبل الأحفاد، وتنهدت في حسرة وهي تقول لنفسها: ألا ما أشبه المكتبة بالأرض الطيبة التي تضم أسباب الحياة بين جدرانها! وما أشبه الكتاب الطيب بماء الحياة حين ترتوي منه العقول والقلوب فتحيا! وما أشبههما معاً بالشجرة المثمرة التي يكون من ثمرتها لنا ولمن بعدنا غذاء، ومن أريج عبيرها وعطرها للهواء نقاء، وبها تزدان الأرض وتبتهج الحياة، ويجذب رحيقها أسراب النحل فيخرج من بطونه شراب (فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ) (النحل: 69)

صنع المذبحة

تساءلت في نفسها: ليت شعري، هل نشارك نحن أيضاً في صنع المذبحة لهذه الكتب أم نحن منها براء؟! وما أن وقع بصرها على الكتاب بين يديها والكتب من حولها إلا وجاءها الجواب واضحاً، فكثير منا يحب الكتاب ويقتنيه، إلا أن بعضنا للأسف يشارك في ذبحه وهو لا يدري! نعم، فلقد ذبحه حين اتخذه مهجوراً فأغلقه ولم يفتحه، يوم أن حرص على أن يقتني من أثاث البيت أحسنه وأجمله دون أن يفكر في اقتناء الكتاب والمكتبة، يوم أن صارت القراءة بالنسبة له لا تمثل أي قيمة أو أهمية، يوم أن أهمل تربية ولده على حب القراءة واقتناء الكتاب وزيارة المكتبة واختيار الكتاب المناسب، ذبحه يوم أن تعلل بكثرة أشغاله عن تصفح أوراقه والنظر في سطوره، يوم أن وجد في ساعات يومه مكاناً لكل شيء إلا الكتاب، فحرم نفسه من متعة القراءة وأغلق سمعه عن حديث الكتاب إليه، وضعفت صلته بالمعرفة والثقافة في فروعها المختلفة وإن أقنع نفسه توهماً بحصوله عليها من شاشات الفضائيات أو الشاشة الإلكترونية، أو ببضع دقائق يستمع فيها لعالم أو معلم من حين لآخر، يوم أن حرص على تجديد هاتفه المحمول بينما يتخلص من الكتاب والمكتبة!

ووصلتْ في النهاية إلى أن حبيبتها المكتبة مظلومة، وأن ساكنيها اليوم من الكتب مستضعفون وسط هذا الكمّ الهائل من الغزو الفكري بمختلف توجهاته، وانتشار الثقافات المغلوطة من خلال الشبكة العنكبوتية التي فشتْ بيننا وغزتْ معظم بيوتنا، واختلط فيها الطيب بالخبيث، ومع الكتب الإلكترونية والثورة المعلوماتية التي تحتاج منا إلى وعي كبير وتنقيح مستمر، وقد حلت محل كثير من كتبنا الطيبة المسالمة، وشعرتْ أن كتاب اليوم محروم رغم طيب معدنه وعراقة أصله إذ يمر بأزمة شديدة وضائقة كبيرة في التداول بين الناس إلا القليل منهم، وأنه يئن ويشتكي الهجر والإهمال، فهل من عودة إلى احتضانه والقراءة فيه؟ وقد كان أول أمر من الله، وأول آية أنزلت دعوة للقراءة؛ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق: 1).

ألا وإن هذه فرصة طيبة ووقت مناسب للتصالح مع صديقنا «الكتاب» ولا سيما مع حلول إجازة الصيف في المدارس والجامعات، فلنعقد الصلح معه ولنتآلف مع صفحاته، ولنصلح من حال مكتبة البيت ونرفع من شأنها، ولنحسن اختيار كتبنا ونقرأ، فإن للقراءة من الكتاب مذاقاً خاصاً!

Exit mobile version