المثلية الجنسية.. نظرة فقهية

المثلية الجنسية توجُّه جنسي يتسم بالانجذاب الشعوري، أو الجنسي بين أشخاص من نفس الجنس، وقد تُعتبر المثلية هويّة يشعر بها الإنسان بناءً على هذه الميول والتصرفات المصاحبة لها، بالإضافة إلى الشعور بأنه جزء من جماعة تشاركه هذه الميول، الذكر ذو الميول المثلية يلقب «مثلياً» أو «مثلي الجنس»، بينما الأنثى ذات الميول الجنسية المثلية تُلقب «مثلية الجنس» أو «سحاقية».

تاريخ المثلية في العالم الغربي:

مصطلح المثلية الجنسية حديث صاغه في أواخر القرن التاسع عشر العالم المجري «كارولاي بنكريت»، وهو يستخدم للدلالة على الممارسة الحميمية بين فردين من نفس الجنس (رجل – رجل، امرأة – امرأة)، وقد انتشر المصطلح ووظف في مجالات معرفية عديدة كعلم النفس والطب والأنثروبولوجي، واستبعد تدريجياً المصطلح القديم الذي استقر قروناً طويلة في الحضارتين الشرقية والغربية، وهو «اللواط»(1).

ونظرت المسيحية بقلق إلى الجنس بصفة عامة وحظرته على الرهبان؛ إلا أنها أباحت نوعاً واحداً هو «الجنس الإنجابي» أو الجنس في إطار الزواج، وفي المقابل نددت بأي علاقة تقع خارج هذا الإطار أو بين أفراد الجنس الواحد، وحمل بولس الرسول في رسائله على هذه الممارسة الشاذة ووصف أصحابها بأنهم «الظالمون الذين لا يرثون ملكوت الله»(2).

الطب صنف «اللواط» بأنه ميل كامن لدى الإنسان قد يمارسه أو يكبحه وأنه يعبر عن حالة عقلية مرضية

ولقد هيمن الخطاب اللاهوتي على المجال العام طيلة قرون، وانعكس ذلك على القوانين التي تحظر عمل قوم لوط وتعاقب مرتكبيه بقسوة، إلا أن عصر النهضة الصناعية شهد تراجعاً في هيمنة الكنيسة وخطابها، وأخذت التفسيرات والحجج العلمانية تحل محلها، وكان الطب وما يرتبط به من مجالات فرعية كعلم النفس هو المجال الذي جرت خلاله إعادة مناقشة «اللواط» وتقييمه.

وجاء ذلك في ظل الزيادة الكبيرة في معدلات الالتحاق بالمدارس ومكوث الطلاب بها لفترات زمنية طويلة بعيداً عن أسرهم، وهو ما حفز العلاقات الجنسية بين المراهقين، ومن ثَمَّ استدعت الدولة الأطباء النفسيين لفحص المتهمين بجريمة «اللواط»، وقام هؤلاء بفحوصاتهم التي توصلت إلى أن «اللواط» توجه وميل كامن لدى الإنسان قد يمارسه أو يكبحه، وأنه يعبر عن حالة عقلية مرضية، ورغم تصنيف عمل قوم لوط كمرض نفسي، فإنه تصنيف أقل حدة من تصنيف المسيحية له كإثم، فالمرض لا دخل للإنسان فيه ولا يمكن وصفه بالقبح أو الحسن، ولا يجوز معاقبة المريض، وهكذا انفتح باب الاعتراف والقبول المجتمعي له.

رأي الفقهاء في المثلية:  

أجمع الفقهاء على أن عمل قوم لوط محرَّم مغلَّظ التحريم، وأنه من الكبائر، فقال الماوردي: «اللواط» أغلظ الفواحش تحريماً، وجريمة «اللواط» لم يعملها أحد من العالمين قبل قوم لوط؛ كما قال عز وجل: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 80)(3).

ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن عمل قوم لوط فرع من فروع الكبائر، ويقول: إن الله تعالى جعل أكبر الكبائر ثلاثاً: الكفر ثم القتل ثم الزنى، وهذا الترتيب معقول لأن قوى الإنسان ثلاث: العقل، والغضب والشهوة؛ «فالكفر فساد المقصود الذي له خُلِقوا، وقتل النفس فساد النفوس الموجودة، والزنى فساد في المنتظر من النوع، فذاك إفساد الموجود وذاك إفساد لما لم يوجد بمنزلة من أفسد مالاً موجوداً أو منع المنعقد أن يوجد، وإعدام الموجود أعظم فساداً؛ فلهذا كان الترتيب كذلك»(4).

الفقهاء أجمعوا على أن «اللواط» محرَّم مغلَّظ التحريم وأنه من الكبائر

وقال الشوكاني: «وما أحق مرتكب هذه الجريمة، ومقارفي هذه الرذيلة الذميمة بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين، ويعذب تعذيباً يكسر شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين، أن يصلى من العقوبة بما يكون من الشدة والشناعة مشابهاً لعقوبتهم، وقد خسف الله تعالى بهم، واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيبهم»، وإنما شدد الإسلام في عقوبة هذه الجريمة لآثارها السيئة وأضرارها في الفرد والجماعة.

ويرى د. يوسف القرضاوي في المثلية الجنسية «انتكاساً في الفطرة ومفسدة للرجولة وظلماً للمرأة»، ويؤكد أن «شدة العقوبات إنما هي لتطهير المجتمع الإسلامي»(5).

رأي الفقهاء في عقوبة عمل قوم لوط:

وهذه الجريمة النكراء غاية في القبح والشناعة، تعافها حتى الحيوانات، فلا نكاد نجد حيواناً من الذكور ينزو على ذكر، وإنما يظهر هذا الشذوذ بين البشر، ومن أجل ذلك نستطيع أن نقول: إنَّ هذا النوع من الشذوذ «لوثة أخلاقية»، ومرض نفسي خطير وهو انحراف بالفطرة تستوجب أخذ مقترفها بالشدة.

وقد اختلف الفقهاء في تقدير العقوبة اللازمة لها على ثلاثة مذاهب:

أولاً: مذهب القائلين بالقتل مطلقاً:

أما المذهب الأول فهو مذهب مالك وأحمد وقول للشافعي؛ فقد ذهبوا إلى أنّ حدّه القتل، سواء كان بكراً أم ثيباً، فاعلاً أم مفعولاً به، وهذا القول مروي عن أبي بكر، وعمر، وابن عباس، رضي الله عنهم، وإليه ذهبت طائفة من العلماء، ونقل بعض الحنابلة إجماع الصحابة على أن الحد في «اللواط» القتل.

تحريم المثلية ثبت بالقرآن والسُّنة وإجماع الصحابة والعلماء

واستدلوا بما يأتي:

أ- حديث «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (رواه أحمد).

ب- ما روي عن علي رضي الله عنه أنه رجم مَنْ عمل هذا العمل، وقال الشافعي: وبهذا نأخذ برجم من يعمل هذا العمل محصناً كان أو غير محصن.

جـ- واستدلوا أيضاً بما روي عن أبي بكر أنه جمع أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فسألهم عن رجل يُنْكح كما تنكح النساء، فكان أشدهم يومئذ قولاً علي بن أبي طالب قال: «هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم، إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن تحرقه بالنار»، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار.

ثانياً: مذهب القائلين بأن حده كحد الزنى:

وذهب الشافعية إلى أن «اللواط» حده كحد الزنى، يجلد البكر، ويرجم المحصن، وهذا المذهب مروي عن بعض التابعين كعطاء، وقتادة، والنخعي، وسعيد بن المسيب وغيرهم، وقد استدلوا على مذهبهم بالنص، والمعقول، والقياس.

أ- أما النص فما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان»، فقد دل الحديث على أن حكمه كحكم الزنى.

ب- وأما المعقول فقد قالوا: إن الزنى عبارة عن إيلاج فرج في فرج، مشتهى طبعاً محرم شرعاً، والدبر أيضاً فرج لأن القبل إنما سمي فرجاً لما فيه من الانفراج وهذا المعنى حاصل في الدّبر فيكون مثله في الحكم.

جـ- وأما القياس فقد قالوا: إن الأدلة الواردة في «الزانيين» وإن لم تشملهما أيضاً لكنهما لاحقان بالزنى بطريق القياس، فقضاءُ الشهوة كما يكون في القبل يكون في الدبر بجامع الاشتهاء فيهما، وهو قبيح فيناسبه الزجر والحد يصلح زاجراً له.

الفقهاء اختلفوا في عقوبة «اللواط» بين القول بالقتل مطلقاً وبأنها كحد الزنى والتعزير

ثالثاً: مذهب القائلين بالتعزير:

وذهب الأئمة الأحناف إلى أن «اللواط» جريمة عظيمة وشنيعة ولكنه ليس كالزنى، فلا يكون حدُّه حدّ الزنى، وإنما فيه التعزير، واستدلوا بما يأتي:

أ- قالوا: الزنى غير «اللواط» من حيث اللغة، فإن «الزنى» اسم لوطء الرجل المرأة في القبل، و«اللواطُ»: اسم لوطء الرجل الرجل، ألا ترى أن القرآن فرَّق بينهما حيث قال عن قوم لوط: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (النمل: 55)

ب– قالوا: والعرف أيضاً يعارض هذا وينقضه، فالذي يأتي الفاحشة بالنساء يسمى «زانياً»، والذي يأتي الفاحشة بالذكور يسمى «لوطياً»، وقد تعارف الناس هذا منذ القديم. 

جـ– وقالوا: أيضاً كيف يكون «اللواط» زنى وقد اختلف الصحابة في حكمه وهم أعلم باللغة وموارد اللسان ولو كان زنى لأغناهم نص الكتاب عن الاختلاف والاجتهاد.

وقد رجَّح العلامة الشوكاني المذهب الأول القاضي بالقتل وضعَّف ما سواه من مذهب الشافعية والأحناف ولعله في صواب فيما رجح، فإن عظم هذه الجريمة (عمل قوم لوط) تستدعي عقاباً شديداً صارماً يستأصلها من جذورها، ويكسر شهوة الفسقة المتمردين ويقضي على الفساد والمفسدين، وليس هناك من طريق أجدى ولا أنفع من تنفيذ الإعدام حرقاً أو هدماً أو رجماً أو إلقاء من شاهق جبل ليكون عبرة للمعتبرين، وفي ذلك تطبيق لهدي النبوة: «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به»(6).

 

 

 

 

_________________________________

(1) موسوعة ستانفورد الفلسفية، المثلية الجنسية.

(2) المثلية الجنسية الرضائية بين التحريم والإباحة، جامعة الإمارات العربية المتحدة– كلية القانون، مجلة الشريعة والقانون، ع 37، ص258.

(3) الموسوعة الفقهية، 44/31.

(4) مجموع الفتاوى، 15/628.

(5) الحلال والحرام في الإسلام، ص151.   

(6) روائع البيان في تفسير آيات الأحكام، 2/41.

Exit mobile version