عن الفكر النسوي وعلاقته بالمثلية

تبدو إستراتيجية الحركة للنسويات في بلادنا معتمدة على مبدأ التعتيم؛ فعلى الرغم من أن الحركة النسوية في بلادنا تدين بالولاء والانتماء للحركة النسوية العالمية (بل لعلها تمثل ما يشبه الصدى لكل ما تنادي به هذه الحركة العالمية، على اختلاف مدارسها)، فإنه لا يمكن للنسويات في بلادنا مواجهة الرأي العام بكامل الأجندة والأطروحات الفكرية التي تتبناها الحركة النسوية العالمية؛ لذلك فهي تعتمد مبدأ التعتيم، فلا تبرز إلا مساحة محدودة من الأهداف التي يمكن قبولها أو التي يمكن الجدال عنها، مهما كانت مساحة تقبّلها بالغة الضيق.

تفكيك المجتمع بأبنيته المختلفة، وهو الهدف النهائي للفكر النسوي، لا يمكن أن يتم إلا عبر إحداث موجات متتابعة من الخلخلة تزيد كل موجة فكرة صغيرة، لكنها أكثر حدة؛ فبينما كانت البدايات مشروعة للمطالبة بحق المرأة في التعليم أو الحقوق السياسية والمدنية، بدت الخطوات التي تلت ذلك أكثر حدة، حتى وصل الأمر لشيطنة الرجل باعتباره ممثل النظام الأبوي، وتجاوزت الحركة النسوية العربية المطالبة بالحقوق، وتحولت لحركة احتجاجية تسعى للتفكيك والهدم، مستعينة بذلك بنشر الأدبيات المترجمة وبالإنتاج الإبداعي الذي يستخدم لغة فنية مرنة لا يمكن محاكمتها بدقة، مروراً باستغلال الفضاء الإلكتروني، وما «مشروع الألف» في لبنان إلا نموذج فج لنشر الفكر المثلي بين النساء عبر هذا الفضاء وعبر الخط الساخن ومجموعات الدعم.

الحركة النسوية العربية تجاوزت المطالبة بالحقوق وتحولت لحركة احتجاجية تسعى لتفكيك المجتمع

استهداف الأسرة

 في هذه الموجة الراهنة من تلك الحرب النسوية توجه السهام نحو مؤسسة الأسرة بدءاً من الهجوم على الأمومة، ونزع ثوب الفطرية عنها، وتحميلها المظالم التي تقع على النساء (للمزيد راجع عن الحفاظات والأمومة وشغل الخدامين لكاتبة هذه السطور)، وما الدعوة لتأخير سن الزواج والأمومة وتحديد النسل إلا بعض تجليات الحرب ضد الأمومة.

أما الدعوة للإجهاض وامتلاك النساء لأجسادهن ومن ثم الحرية المطلقة في التعامل معه؛ فهو لم يعرف طريقه للرأي العام بهذا الوضوح، بل ظل حبيس المؤتمرات والكتابات ومواقع النخبة النسوية بحيث يطل فقط بين الحين والآخر ربما كوسيلة لجس نبض الشارع أو إحداث معركة محدودة توسع من حدود المشروع النسوي، تقول نوال السعداوي: «إن الأم وحدها هي صاحبة الحق الأول والأخير في تقرير بقاء الجنين في جسدها أم إسقاطه، وهذا شيء طبيعي؛ لأن الجنين قبل أن يُولَد ليس إلا جُزءاً من جسد الأم، وليس هناك من هو أحق من الأم بامتلاك هذا الحق، والمفروض أن كل إنسان يَمتلك جسده، والمفروض أن تمتلك المرأة جسدها لأنها إنسان؛ فهذا أول حقوق الإنسان» (الوجه العاري للمرأة العربية، نوال السعداوي).

على أن أحد أهم تجليات المشروع النسوي لهدم وتخريب بنية الأسرة هو تبنيه للمثلية كأحد الأعمدة الرئيسة والجوهرية لهذا المشروع أو لهذا الصراع النكد؛ لأن كثيرات من النسويات يعتقدن أن العلاقة الطبيعية بين المرأة والرجل تعد أحد تجليات النظام الأبوي في إخضاع المرأة، عندما تقرر الأنثى أن تدير ظهرها للآخر الذكر لتنصرف عنه تماماً، فهي وحدها مرجعية ذاتها، معلنة استقلالها الكامل عنه على الأصعدة جميعها، وحينئذٍ يُصبح السحاق هو التعبير النهائي عن الواحدية الصلبة، وهو الأمر الطبيعي الوحيد المتاح للمرأة التي ترفض أن تؤكد إنسانيتها المشتركة، التي لا يمكن أن تتحقق إلا داخل إطار اجتماعي وسياق تاريخي، وكما قالت إحدى دعاة التمركز حول الأنثى المساحقات: «إذا كانت الفيمينزم هي النظرية؛ فالسحاق هو التطبيق» (قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى، د. عبدالوهاب المسيري).

الدعوة للإجهاض وامتلاك النساء لأجسادهن ومن ثم الحرية المطلقة في التعامل معه من أمضى السهام الموجهة للأسرة

هذا الهجوم النسوي الشرس على المجتمع الأبوي الذي يسعى لتفكيك كل شيء حتى اللغة، الذي يسعي لجعل الشاذ طبيعياً والطبيعي ليس كذلك، والمثال الواضح على ذلك الموقف من المثلية، فهي ليست مجرد خيار للنساء، بل هي حل تطبيقي ربما يكون الوحيد الممكن للتخلص من هيمنة الذكور، هذه الهيمنة التي يتم المبالغة في تضخيمها تماماً كالمبالغة في المظلومية الواقعة على النساء، حتى أصبح لفظ «أنثى» مرادفاً للانتقاص والإهانة والخدمة بكل صورها، كما تعبر إحداهن: «لكننا جميعنا في علاقة الخادم بمخدوم هو عالم الذكور بأكمله، هذا هو السبب في أن مسمى أنثى فيه انتقاص وإهانة واحتقار، تشوهت وجوهنا من كثرة الابتسام، فقدنا مشاعرنا من كثرة الحب، وقد تركتنا تلك المبالغة في جنسانياتنا معدمات من أي نشاط أو دافع جنسي.

نحن خادمات، بغايا، ممرضات، طبيبات نفسانيات، هذا هو جوهر الزوجة البطلة الذي يُحتفل به في «عيد الأم»، لكن نقول: توقفوا عن الاحتفال باستغلالنا ببطولاتنا المفترضة، نحن نريد، ويتوجب علينا أن نقر بأننا جميعاً ربات بيوت، نحن جميعاً بغايا ونحن جميعاً مثليات؛ لأنه ما لم نعترف بعبوديتنا لا يمكننا الاعتراف بكفاحنا ضدها.

وماذا عن الأطفال؟ هل سنأسف في يوم من الأيام لأننا اخترنا عدم الإنجاب، أو حتى التفكير جدياً بطرح هذا السؤال؟ وهل بإمكاننا أن نتحمل علاقات مثلية؟ هل نحن على استعداد لتحمل أثمان العزلة والاستبعاد؟ لكن أيضاً هل يمكننا حقاً تحمل إقامة علاقات مع الرجال؟» (أجور مقابل الأعمال المنزلية، سيلفيا فيديريتشي، بتصرف يسير).

تعتمد النسويات المثليات إذن على تهويل الفظائع التي تعانيها النساء عندما يقمن بعلاقة طبيعية مع الرجال، بحيث يوصف الأمر بأنه غير محتمل ومن ثم يكون الحل هو النسوية المثلية.

هذه النسوية المثلية تتجاوز تقبل شذوذ بعض النساء، أو الدعوة لرفع العار عن هذا السلوك الشاذ، أو حتى الفخر به لدفع النساء الطبيعيات دفعاً للخوض في مستنقع الشذوذ والمثلية كحل نهائي للتخلص من فظائع السيطرة الذكورية في المجتمع الأبوي، فعملت الحركة على تشجيع النساء على توجيه طاقاتهن تجاه نساء أخريات بدلاً من توجيهها نحو الرجال كصورة احتجاجية عنيفة لإقصاء الرجل والانفصال عنه والرفض للنظام الاجتماعي الذي صنعه نظام المغايرة الجنسية (رجل وامرأة) الذي يعد شكلاً من أشكال النظام الأبوي المزعوم.

تقول مؤلفة كتاب «أمة السحاق»: «ما إن فهمت العقائد النسوية، بدا الموقف الانفصالي السحاقي هو الموقف المنطقي، خاصةً أنني كنت سحاقية، أرادت النساء إزالة اعتمادهن على الرجال الذين يعتبرون «العدو» في حركة من أجل الإصلاح والسلطة وتقرير المصير» (أمة السحاق: الحل النسوي، جيل جونستون).

النسوية المثلية تدفع النساء الطبيعيات للخوض في مستنقع الشذوذ كحل للتخلص من فظائع السيطرة الذكورية

القيمة الخلقية الكبرى التي تجتمع حولها المثليات هي «الأختية»؛ فعلاقة المرأة المثلية بالمرأة المثلية الأخرى تمثلها علاقة أخوة وحب ووفاء، فالانفصاليات المثليات يتصلن فقط مع النساء اللواتي قطعن علاقاتهن تماماً بالذكور حتى يتحقق معيار النزاهة؛ فما دامت المرأة تستفيد من الجنس الآخر في امتيازاتها وأمنها، فسيتعين عليها في مرحلة ما خيانة أخواتها، خاصة الأخوات المثليات اللائي لا يتلقين هذه المزايا.   

وتم الترويج لمثل النسويات العليا كالحب والنزاهة ورعاية المحتاجين وتقرير المصير والمساواة في العمل والمكافآت في جميع جوانب بناء المؤسسات والاقتصاد.

على الصعيد الدولي

هناك علاقة وثيقة ربطت بين النسوية والمثلية منذ سنوات بعيدة، فـ«سيمون دي بوفوار» الذي يعد كتابها «الجنس الآخر» أحد الأعمدة التي يقوم عليها التفكير النسوي، اتخذت عدة رفيقات في علاقات مثليّة، ولم يتوقف الأمر على ذلك فحسب، وإنما كانت تستغل منصبها الوظيفي كمُدرسة جامعية في إغواء عدة طالبات والتحرش بهن، في نموذج تطبيقي واضح لأخلاق المثليات، وعلى الرغم من ذلك؛ ألهمت «بوفوار» الحركة النسوية وحتى هذه اللحظة الكثير من الأفكار خاصة فيما يتعلق بالمثلية، وتم استغلال الثورة الجنسية في أوروبا لمزيد من المكتسبات والمعارك الساخنة، وتم الاستفادة من الفعاليات الدولية لفرض الأجندة النسوية المثلية على العالم، ومن ذلك مسيرة المثليات عام 1994م في نيويورك بالذكرى الخامسة والعشرين لأعمال شغب «ستون وول»، ومثل ما حدث في مؤتمر بكين العالمي للمرأة عام 1995م، ومثل ما يحدث أثناء استضافة ألعاب المثليين.

«وتقاتل المنظمات النسوية الراديكالية حالياً من أجل اعتبار اختيار الشخص لـ«هويته الجندرية» و«توجهه الجنسي» من حقوق الإنسان؛ فلا يحق لأي جهة أن تسائل الشواذ جنسياً أو تعاقبهم، وإنما يتم اعتبارهم أشخاصاً طبيعيين، وتضمن لهم الحق في ممارسة الشذوذ الجنسي، وتستجيب الأمم المتحدة للأسف لتلك المطالبات بسبب تغلغل أولئك النسويات في لجانها المختلفة، مثل لجنة مركز المرأة، ولجنة الطفل، ويونيسف، وصندوق السكان وغيرها» (أهداف التنمية المستدامة والأسرة، كاميليا حلمي).

 

 

 

 

________________________________________________

(*) كاتبة متخصصة بقضايا المرأة والمجتمع.

Exit mobile version