محاربة المثلية.. فريضة شرعية وضرورة حياتية

يعد اللعب بالمصطلحات أحد الطرق التي يلجأ إليها أهل المنكرات لتزيين منكرهم، ومحاولة تمريره على ألسنة الناس دون إنكار حتى تتقبله عقولهم وتتشربه نفوسهم؛ ومن هذه المصطلحات «الشذوذ»؛ فنظراً لوقْع الكلمة الأليم على نفوس متقبليها؛ استبدلوا بها كلمة «المثلية» تارة، ومجتمع «الميم» تارة أخرى، و«الهويات الجندرية» تارة ثالثة، والقائمة تطول.

ونظراً لخطورة التضليل الذي يمارسه المرتزقة من الإعلاميين، كان لا بد من التنبيه على خطورة اللعب والتلاعب بالمصطلحات، فالمجرم أياً كان نوع جريمته لا ينزعج من شيء قدر انزعاجه من المتعففين والمترفعين عن جُرْمِه، فالسارق، والمختلس، والمرتشي، وخائن الأمانة، هؤلاء لا يزعجهم شيء إلا رؤية من عرفوا بطهارة اليد، ممن لا يغرهم بريق الحرام وكثرته، فلذلك تجدهم يلبسون جريمتهم ثوباً يخفف من وقْع الجريمة وأثرها على نفوسهم؛ لأن تسمية الجريمة بوصفها المعروف في الأذهان بمثابة السياط التي تنزل عليهم وتؤرقهم، إن بقي لدى المجرم بقية من حياء أو دين!

عند تدبر آي القرآن الحكيم، في كل السور التي تعرضت لمناقشة جريمة الشذوذ الجنسي النكراء، ستجد لأول وهلة أن أول من مارسوا الشذوذ لم يُوحِ إليهم شياطينهم أن يلبسوا جريمتهم ثوباً يشي بأن الأمر ليس فيه ما يُسْتَبْشَعُ ويُسْتَنْكَرُ، مع العلم أن الشذوذ الجنسي الذي مورس أول مرة على وجه الأرض من قِبَل قوم نبي الله لوط عليه السلام لم يكن قاصراً على إتيان الرجالِ الرجالَ فحسب، وهو ما يُعرف بـ«اللواط»، بل اتسعت دائرته ليشمل النساء أيضاً، فكانت المرأة تأتي المرأة، وهو ما يعرف بجريمة «السحاق»، وهذا ما ذكره الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (الأعراف: 82)، فقال: «ذكر المفسرون أن الرجال كانوا قد استغنى بعضهم ببعض، وكذلك نساؤهم كن قد استغنين بعضهن ببعض أيضاً»(1).

المجرمون يلجؤون لتزيين جريمتهم بتغيير اسمها لأن وصفها المعروف بالأذهان بمثابة السياط التي تؤرقهم

فالجريمة إذن ليست بدعاً من شواذ القرن الحادي والعشرين، ولكن جذورها تمتد لآلاف السنين، ومع ذلك فإن المجرم الأول الذي مارس هذه الجريمة (قوم لوط) لم يكن بهذا القدر من التبجح، ولم ينكر القوم أنهم أهل شذوذ، ولذلك وصفوا نبي الله لوطاً ومن معه من المؤمنين بأنهم: {أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، فلم يصفوا أنفسهم بأنهم أهل طُهر وعفاف، وأنهم يمارسون أمراً طبيعياً، بل كانوا يدركون بأنهم منحرفون عن الفطرة السوية، ولذلك أزعجهم وجود الأطهار بينهم، فوجود أهل الطُّهر والعفاف بين أهل الشذوذ والخنا والفجور أمر غاية في الإزعاج لمن رضوا بهذا الانتكاس الفطري حتى ولو لم ينكروا عليهم، فهم لا يطيقون أن تقع أعينهم على طاهر عفيف أو طاهرة عفيفة، فلذلك عملوا على إخراج نبي الله لوط ومن معه.

فالجريمة إذن هي «الشذوذ الجنسي»، وقد سمى الله تعالى فعل قوم لوط بـ«الفاحشة»، وسميت قُراهم بأنها القرى التي «كانت تعمل الخبائث»، ومعروف أن الفاحشة في هذا السياق يراد بها الزنى وما كان يفعله قوم لوط من لواط الرجال وسحاق النساء.

وقد اتفقت كلمة علماء الأمة وأجمعوا بناء على ما ورد في القرآن الكريم وما صح من السُّنة المطهرة على تحريم الفعلين (اللواط، والسحاق)؛ لأن في كل منهما تحطيماً لإنسانية الإنسان، وتدميراً للأسرة، ومصادمة لمقاصد الشارع من وضع الغريزة في الذكر والأنثى لتحقيق نظام الزوجية، الذي تستمر به الحياة الإنسانية.

أشد من القتل

إن هذه الجريمة الشنيعة (اللواط، والسحاق) أشد من القتل، رغم عظمه وشناعته، لما يلي:

أولاً: القتل ليس مقروناً بشهوة وغريزة، بخلاف جريمتي «اللواط» و«السحاق» فهما إفراغُ شهوة من أشد الشهوات التي أودعها الله في بني الإنسان وهي الشهوة الجنسية، ولكن الانحراف وانتكاس الفطرة حمل على إفراغ الشهوة في غير محلها.

المجرم الأول الذي مارس الشذوذ لم يكن بهذا القدر من التبجح ولم ينكر جريمته

ثانياً: المؤاخَذة في جريمة القتل تشمل الجاني «القاتل» فحسب، أما المؤاخَذة في جريمة الشذوذ فليس فيها جانٍ ومجنيٌّ عليه، فطرفا الجريمة كلاهما جانٍ ومذنب، ولذلك فإن العقوبة لا تفرق بين الفاعل والمفعول به، ففي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به»؛ فطرفا الجريمة مجرمان.

ثالثاً: جريمة الشذوذ لما كانت مقرونة بغريزة إنسانية وشهوة جامحة، فإن الانحراف عن إشباعها بالطريق الطبيعي والفطري الذي شرعه الله تعالى يؤدي إلى كارثة إنسانية محققة؛ وهي فناء النوع الإنساني؛ ولذلك فإذا كانت جريمة القتل فيها وأد لنفس إنسانية، فجريمة الشذوذ الجنسي فيها وأد لكرامة الإنسان، وفيها محاربة للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وفيها وأد للبشرية بأسرها! 

رابعاً: المجني عليه في جريمة القتل مظلوم شهيد إذا قُتِل بغير حق، أما إذا علا الرجلُ الرجلَ فإن الملوط به قد قتله من فعل به قتلاً لا ترجى معه الحياة.

وقد استدل الإمام ابن القيم على أن مفسدة «اللواط» أشد من مفسدة القتل، فقال: «إن الله سبحانه جعل حد القاتل إلى خيرة الولي إن شاء قتل وإن شاء عفا، وحتم قتل اللوطي، كما أجمع عليه أصحاب رسول الله ودلت عليه سُنة رسول الله الصريحة التي لا معارض لها..»(2).

مقاصد الزواج

إذا كان القتل وأد لنفس إنسانية فالشذوذ وأد لكرامة الإنسان وللبشرية بأسرها

إن الإسلام لا ينظر إلى الشهوة الجنسية على أنها الغاية والهدف الأسمى التي من أجلها أحل الله النكاح، فالزواج هو وسيلة لتحقيق غايات أسمى؛ فهو وسيلة لحصول السكن وتحقيق المودة والرحمة بين الزوجين، كما أن الزواج وسيلة لبقاء النوع البشري، وإيجاد شبكة من العلاقات الاجتماعية تساعد على بناء الأسر السليمة التي تشكل وحدات صغرى للمجتمع الأكبر الذي هو الهدف الأخير.

فالإنسان ليس حيواناً تسيّره الغريزة ليستجيب لدواعي الشهوة كلما ثارت عليه، بل عليه أن يعرف كيف يوجّه هذه الرغبة التي هي أمانة غرسها الله فيه؛ ذكراً أو أنثى، فالإرادة والاختيار التي أكرم الله بهما الإنسان هما اللذان يميزانه عن سائر المخلوقات في توجيه سلوكه واختيار ما هو خير.

فالنظرة إلى الشهوة على أنها الهدف هي انحراف عن الفطرة وخروج عن الطبيعة، وإذا كان الاتجاه في الغرب لإباحة هذا الأمر فإنه لم يحدث إلا بعد أن تم تسييل قيم الأديان كلها وتحويلها إلى قيم نسبية تعظّم الجانب الفردي وتجعل اللذة غاية ومقصداً، وكذلك اضطراب مفهوم الآخرة وغير ذلك من أمور أدت إلى اضطراب النظرة إلى الجنس وحدوث هذه الفوضى، ومن ثَمَّ جاء الجشع والطمع ليدفع نحو تأسيس العديد من الصناعات التي بنيت على إثارة الشهوات، كالسياحة الجنسية وصناعة الأفلام الإباحية وأدوات المتعة الجنسية وغير ذلك، والنتيجة كانت تدمير مفاهيم الأسرة وقيمها، واضطراب أشكال الارتباط بين الذكر والأنثى حتى تشكلت أسر تتألف من ذكرين أو أنثيين.

الإرادة والاختيار التي أكرم الله بهما الإنسان هما ما يميزانه عن سائر المخلوقات في ترشيد سلوكه

ولما كانت جريمة الشذوذ الجنسي مآلاتها تفضي إلى تفويت المصالح التي من أجلها وضع الله سبحانه الغريزة الجنسية في بني الإنسان، ومن أجلها شرع الزواج وحرم السفاح وحرم كل صورة فيها إشباع للغريزة الجنسية في غير الطريق الذي شرعه الله تعالى لعباده؛ لذلك كان تشديد العقوبة وتغليظها في الدنيا والآخرة، وكما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «ولما كانت مفسدة اللواط من أعظم المفاسد كانت عقوبته في الدنيا والآخرة من أعظم العقوبات»(3)، فقد عاقب الله فاعلي هذه الجريمة بما لم يعاقب به أمة من الأمم، وهي تدل على انتكاس الفطرة، وطمس البصيرة، وضعف العقل، وقلة الديانة، وهي علامة الخذلان، وسلم الحرمان، نسأل الله العفو والعافية.

ففي الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعَنَ اللهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قوْمِ لوطٍ، لعَنَ اللهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قومِ لوطٍ، ثلاثاً»(4).

ولعظم مفسدة هذه الجريمة تكاد الأرض تميد من جوانبها إذا عُمِلَتْ عليها، وتهرب الملائكة إلى أقطار السماوات والأرض إذا شاهدوها خشية نزول العذاب على أهلها، فيصيبهم معهم، وتعج الأرض إلى ربها تبارك وتعالى وتكاد الجبال تزول عن أماكنها.

«ومن تأمل قوله سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} (الإسراء: 32)، وقوله في «اللواط»: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} (الأعراف: 80)، تبين له تفاوت ما بينهما، فإنه سبحانه نكّر الفاحشة في الزنا، أي هو فاحشة من الفواحش، وعرفها في «اللواط» وذلك يفيد أنه جامع لمعاني اسم الفاحشة»(5).

ختاماً؛ إن الوقوف بالمرصاد لمن يمارسون الشذوذ الجنسي ومن يدعمونهم، هو فريضة شرعية وضرورة حياتية، «فاعتبروا يا أولي الأبصار».

 

 

 

 

________________________

(1) تفسير ابن كثير، 3/339.

(2) الجواب الكافي، ص261.

(3) المرجع السابق، ص260.

(4) أخرجه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن، وأحمد في المسند، والطبراني في الكبير، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة (3462).

(5) الداء والدواء، ص163.

 

(*) عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

 

Exit mobile version