التاريخ الاستعماري يثبت أن انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان لن يكون نهاية المطاف

بيريا ساتشيا

 

عندما تحدى الرئيس بايدن مستشاريه العسكريين بجرأة وأعلن في 14 أبريل أن الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان سينتهي في 11 سبتمبر 2021، اعتبر العديد من الأمريكيين القرار نبأ ساراً بشأن انتهاء الحرب الأمريكية التي لا يرون نهاية لها.

لكن الشيطان، كما هي الحال دائمًا، يكمن في التفاصيل: ففي غضون أيام، علمنا أنه على الرغم من مغادرة القوات، فإن البنتاجون ووكالات التجسس الأمريكية وحلفاء أمريكا سيحتفظون بوجود “أقل وضوحًا” في البلاد، ولن يشمل الرحيل آلاف الجنود الموجودين هناك “خارج السجلات”، كما صرحت مصادر البنتاجون لصحيفة “نيويورك تايمز”، ومن بينهم قوات النخبة الذين يعملون لدى البنتاجون ووكالة المخابرات المركزية، وسيبقى المزيد من القوات متمركزًا في البلدان المجاورة، وستكون الطائرات الهجومية في متناول اليد، للتحذير المبكر من “المقاتلين المتمردين” بواسطة طائرات المراقبة المسلحة بدون طيار، وقد تؤدي فرق المرتزقة أيضًا دورًا على الأرض.

هذه الإجراءات تهدف إلى طمأنة الأمريكيين أن بايدن لا يزال يراقب “التهديد الإرهابي”، وبغض النظر عن حقيقة أن الأمريكيين يواجهون الإرهاب المحلي بوتيرة أكبر بكثير من الإرهاب القادم من الخارج، فإن هذه الخطط هي جزء من تاريخ طويل من الإحجام عن التراجع عن الوجود الإمبراطوري العالمي، وهذا الماضي يُظهر ويؤكد أن الوجود الأمريكي الأكثر سرية سيشكل استفزازًا وليس مصدرًا للأمن.  

فقد وضع البريطانيون الأساس لإمبراطورية سرية في المنطقة الممتدة من البحر الأبيض المتوسط ​​إلى أفغانستان، وكانوا قد احتلوا جزءًا كبيرًا من الشرق الأوسط من الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، عندما كانت المشاعر المعادية للاستعمار في جميع أنحاء العالم قوية، ولكن نظرًا لأنه لم يكن من المجدي سياسيًا ضم الأراضي كمستعمرات، فقد تحكمت بريطانيا في هذه الفتوحات الجديدة على أنها “مناطق انتداب”، وقد كانت أقاليم غير جاهزة بعد للحكم الذاتي وتحتاج إلى وصاية من القوى المنتصرة، بموافقة عصبة الأمم الجديدة، لكن إدارتهم من مكتب الاستعمار البريطاني جعلت المصطلح ورقة توت شفافة إلى حد كبير.

وعرفت الشعوب الخاضعة الجديدة لبريطانيا ذلك أيضًا، وتمردت على فرض الحكم الاستعماري، ولمواجهة هذا التهديد المناهض للاستعمار، ابتكرت بريطانيا الشرطة الجوية كشكل من أشكال الإدارة الاستعمارية اليومية، مستخدمة ذلك أولاً في عراق الانتداب، وقد قام سلاح الجو الملكي البريطاني (RAF) بدوريات وقصف البلاد بثمن بخس وبتكتم شديد؛ “ففي بلدان من هذا النوع، لا تكون الطائرة بدون طيار استفزازية، مثل الوجود المستمر للجنود”، وإذا كان هذا النظام قد جعل البنية التحتية للإمبراطورية أقل وضوحًا للعراقيين، فإن هذا النظام العنيف أفلت أيضًا من رقابة الديمقراطية الجماهيرية في بريطانيا، التي كانت تطالب بالإشراف على السياسة الخارجية في ذلك الوقت، وكان هذا اختراع نوع جديد من الإمبراطورية السرية.

لكن أعمال الشرطة الجوية أثارت المقاومة العراقية بدلاً من القضاء عليها، لذلك، لجأ البريطانيون، في عام 1932، إلى إعلان استقلال العراق رسميًا وابتكروا وسائل أكثر سرية للحفاظ على السيطرة، وفي ظل حكومة عراقية مستقلة اسمياً فقط، امتلكت مجموعة متنوعة من وكالات الاستخبارات البريطانية غير الخاضعة للمساءلة التي تعمل مع القوات الجوية سلطة إدارية حقيقية، وأدى هذا الوجود البريطاني السري إلى المساس بشرعية الحكومة العراقية، مما أدى إلى تأجيج التمرد، وتم الإطاحة به بشكل حاسم مع الثورة العراقية عام 1958، التي أعادت أخيرًا سلاح الجو الملكي البريطاني إلى الوطن وأطاحت بالحكومة التي تسامحت لفترة طويلة مع وجوده، لكن وكالة المخابرات المركزية حاولت، بعد عامين، اغتيال رئيس الجمهورية العراقية الجديدة (ونجحت في مساعدة انقلاب عام 1962 الذي أوصل البعثيين، حزب صدام حسين، إلى السلطة)، مما أطلق حقبة جديدة من الإمبريالية السرية التي دبرتها الولايات المتحدة في سياق الحرب الباردة.

كانت الإمبراطورية البريطانية في الهند هي التي جعلت السيطرة على الشرق الأوسط شيئاً مهماً جداً للبريطانيين، كان هذا أيضًا سبب الاهتمام البريطاني بأفغانستان الواقعة على حدود الهند، هناك أيضًا، بعد الحرب العالمية الأولى، لجأ البريطانيون إلى الشرطة الجوية، وعلى الرغم من أن أفغانستان لم تستعمر رسميًا أبدًا، فإن بريطانيا حافظت على وجود شبه استعماري متحفظ في البلاد، رغم أنه كان يقاوم باستمرار، من خلال سلسلة من الحروب الأنجلو أفغانية في القرنين التاسع عشر والعشرين.

وهناك أيضًا، التقطت الولايات المتحدة عصا التدخل السري خلال الحرب الباردة، بتمويل أسلاف القوات نفسها التي سعت القوات الأمريكية إلى القضاء عليها منذ 11 سبتمبر، ففي عام 1953، عندما تراجعت الحكومة الإيرانية عن القوة الاستعمارية السرية التي مارستها بريطانيا على البلاد من خلال شركة النفط الأنجلو-فارسية، دخلت الولايات المتحدة في شراكة مع بريطانيا في عملية سرية للإطاحة بتلك الحكومة الديمقراطية الشعبية، وأقامت مكانها تعاونًا وحشيًا للنظام الشاهنشاهي الذي أطيح به أخيرًا في ثورة 1979 التي أنشأت جمهورية إسلامية.

قد يكون لدى الأمريكيين والبريطانيين فهم ضعيف لهذا التاريخ من الإمبراطورية السرية، على الرغم من أنها تشكل عالمهم الخاص الذي حول وكالات الأمن الداخلي بشكل متزايد إلى “تقنيات التأثير والسيطرة غير المرئية” التي تم تعلمها في الإمبراطورية، كما لاحظ المؤرخ البريطاني الراديكالي إي بي تومسون في العام الماضي، على سبيل المثال، حيث استخدموا الشرطة الجوية لمراقبة الاحتجاجات ضد الشرطة الداخلية العنصرية في الولايات المتحدة.

لكن بالنسبة للناس في المنطقة، من ناحية أخرى، فإن قصة الإمبراطورية البريطانية والأمريكية السرية هي تاريخ وطني وذاكرة جماعية، إنه مصدر القلق الدائم من يد غربية تقود الأحداث سراً، وكلما زاد عدم وضوح وجود البريطانيين، زاد شعور العراقيين بجنون العظمة بشكل مبرر بشأن المدى الحقيقي لاستقلالهم، ويكمن الإرهاب في صميم الإمبراطورية السرية، كما اعترف المسؤولون البريطانيون علنًا، ويؤكد استخدام الولايات المتحدة للطائرات بدون طيار، مرددًا منطق الشرطة الجوية البريطانية.

وبالنظر إلى الطريقة التي استخدمت في الحرب على الإرهاب في أعقاب الحرب الباردة، التي أعقبت الإمبريالية البريطانية، فقد وقعنا من نواح كثيرة في ديناميكية انطلقت في عام 1919 عندما أسس البريطانيون وجودهم الاستعماري في هذه المناطق، فلقد أدت إستراتيجيات “الخروج” المصممة لاسترضاء الرأي المحلي المناهض للحرب أو المناهض للاستعمار في بريطانيا أو الولايات المتحدة مرارًا وتكرارًا، في الممارسة العملية، إلى استمرار التورط والمشاركة في تسيير الأمور، من وراء الكواليس، وقد ولّد قدر أكبر من السرية نوعًا من الحنق والاستياء الذي أدى إلى استيائنا الحالي، وهناك أدلة على أن سرعة إدارة أوباما في “الخروج” من العراق، وخاصة على خلفية هذا التاريخ، قد أججت المشاعر المعادية لأمريكا التي غذت تنظيم “داعش” وحرمت الرأي العام الأمريكي من الرقابة الديمقراطية على الوجود الأمريكي الخفي، ولطالما عرف الناس في أفغانستان كما في العراق أن وجودهم السياسي كان أكثر مما تراه العين، وأن هناك قوى كامنة خارج المسرح، هذا الشعور بالضرر التاريخي يغذي نوع الغضب الذي يديم وجود “طالبان”.

ولذا، فإن هذا التاريخ مهم في فهم كيف سيكون الخروج من أفغانستان، في سبتمبر 2021، غير مكتمل، وقد أكد بايدن بشكل مفيد أن “إعادة قواتنا إلى الوطن لا تعني نهاية علاقتنا مع أفغانستان”، ولكن إذا كانت هذه العلاقة المستمرة تتعلق بالدعم العسكري السري، فإنها ستسمح لـ”طالبان” بالاستمرار في المطالبة بالشرعية كمقاومة قومية ضد حكومة محلية تصورها على أنها دمية في يد الولايات المتحدة.

ويشير التاريخ إلى أنه بدلاً من الحفاظ على وجود عسكري أكثر سرية، يجب على الولايات المتحدة تطوير علاقة مع أفغانستان تتجنب السيطرة وتقدم بدلاً من ذلك الدعم المعنوي للجهود المحلية ضد “طالبان”، وأولئك الذين يحتجون على أن بعض الوجود العسكري ضروري لحماية النساء الأفغانيات أو الأقليات العرقية يوسعون النموذج الاستعماري البريطاني لـ”عبء الرجل الأبيض”، وعلاوة على ذلك، تُظهر التجربة أن مثل هذا الوجود، ولأنه يعتمد على تنمية مجموعات معينة، يؤدي إلى تفاقم التوترات بين المجموعات بدلاً من تهدئتها ويقوض نضالات السكان الأصليين، وأكثر من حماية النساء الأفغانيات من الرجال الأفغان، قد تدعم الولايات المتحدة جميع الأفغان الذين يتفاوضون بشأن مستقبل ما بعد الاستعمار من خلال المساعدة في توفير الموارد التي تشتد الحاجة إليها، التي يتم تقديمها من خلال الوكالات المتعددة الأطراف لتجنب التأثير الاستعماري، يقول الخبير الاقتصادي ومستشار الأمم المتحدة جيفري ساكس: إنه حتى في عام 2010، “ستظل أفغانستان في حاجة ماسة إلى أساسيات البقاء على قيد الحياة، البذور، والأسمدة، والطرق، والطاقة، والمدارس، والعيادات، أكثر بكثير من حاجتها إلى 30 ألف جندي آخر”.

ولذلك لا ينبغي أن يُقرأ الإعلان عن سحب القوات الأمريكية على أنه إعلان عن فك الارتباط والتخلي عن أفغانستان، وكأن الحرب هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للولايات المتحدة أن تتعامل بها مع هذا الجزء من العالم، فكما قدمت الولايات المتحدة، تاريخيًا دعمًا معنويًا حاسمًا للنضال ضد الاضطهاد في جميع أنحاء العالم، سواء كان ذلك النضال الهندي ضد الحكم البريطاني أو كفاح جنوب أفريقيا ضد الفصل العنصري، لا يوجد سبب لعدم توفيق علاقاتها مع أفغانستان بعد سبتمبر 2021 مع هذا التقليد.

 

 

 

______________________

المصدر: مجلة “تايم”. 

Exit mobile version