(وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (النحل: 112).
قريش توشحت ثوب المجد بسيادتها على مكة مستقر الرسالة الخاتمة، ومهبط الوحي الإلهي، وفيها الكعبة حرم الله وإرث أبي الأنبياء إبراهيم وبقية من دينه موسم الحج، هذه المكانة الاستثنائية لقريش خلافاً لمعايير التفاخر بعراقة النسب وكثرة العدد وشدة البأس حازت على شرف جوار البيت المقدس الكعبة وسدنتها كمكانة دينية سادت بها العرب وتمتعت بازدهار اقتصادي مكنها من السيطرة على خط التجارة الدولية البري بين اليمن والشام أكسبها ثقلا اقتصادياً في الجزيرة العربية؛ (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (القصص: 57)، فغدت العاصمة الاقتصادية بعد أن كانت قرية مهمشة تحت خط الفقر وانتشرت عادة الاعتفار (حفر قبر بانتظار الموت) من شدة الجوع وحالة البؤس، فتبدلت الأحوال وانتقلت من الهامش إلى مركز الصدارة في الجزيرة العربية.
وتذكر كتب السيرة طرفاً من مظاهر البذخ والترف الاجتماعي؛ حيث وفرة المال والثراء، جعلهم يستوردون أغلى البضائع كالعطور من الهند وملابس الحرير من الصين والمنتجات الغذائية من الشام، واستقدام العمالة الماهرة لبناء الدور والقصور واستملاك البساتين في الطائف، إلى جانب السيادة الرمزية على العرب، وفي أثناء ذلك تسرب نور الرسالة فضاء مكة على حين غفلة من أهلها، حتى اخترق نور الرسالة الإلهية بيوت السادة واعتنق أبناؤهم ونساؤهم وعبيدهم الإسلام بفضل إستراتيجية الدعوة السرية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فتفاجأت قريش المتغطرسة المتكبرة بهذا الزلزال الذي هزَّ كبرياءها، فغدا لسان حالها (وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) (ص: 6).
بدأت قريش بالعداوة لهذا الدين الجديد الذي بدأ عندما امتزج الخطاب السماوي بغار حراء فنوّرَهُ؛ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق: 1)، خطاب لم تألفه قريش من قبل، أحدث ثورةً في المفاهيم السائدة التي قامت على جرف هارٍ من الشرك والطغيان، ومن ضيق المادة إلى آفاق الكون لا هذرمة الكهان ولا رجز الشعراء ولا خرافة المبطلين، إنه خطاب مصدره سماوي باسم الخالق يؤسس إلى رؤية جديدة للكون والإنسان والحياة، وتأسيس التصور الصحيح لمعنى الحياة التي تصدر بكل أبعادها عن نظام مبدع من لدن حكيم عليم قدير، قراءة توحيدية للكون والإنسان والحياة.
قررت قريش بعد فشلها الذريع بنتائج إستراتيجية “القوة الناعمة” ضد الدعوة والنبي صلى الله عليه وسلم باستخدام القوة الخشنة لوأد هذا الدين الجديد؛ فقامت بحصار المسلمين في شعب أبي طالب، وفتح السجون والمعتقلات لتعذيب المستضعفين من المسلمين، وقررت أخيراً قتل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أذن له الله بالهجرة، ثم تعرضت للحصار الاقتصادي والجوع لبضع سنين، يقول الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره “التحرير والتنوير”: “أنْ تَكُونَ القَرْيَةُ قَرْيَتَهم، أعْنِي (مَكَّةَ) بِأنْ جَعَلَهم مَثَلًا لِلنّاسِ مِن بَعْدِهِمْ، ويُقَوِّي هَذا الِاحْتِمالَ إذا كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ أنْ أصابَ أهْلَ مَكَّةَ الجُوعُ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ {10} يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الدخان)، وهو الدُّخانُ الَّذِي كانَ يَراهُ أهْلُ مَكَّةَ أيّامَ القَحْطِ الَّذِي أصابَهم بِدُعاءِ النَّبِيءِ ﷺ.
إن قريشاً مثال للأمم والمجتمعات في كل عصر، سنة الله؛ (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: 43)، التي خاصمت رسالة السماء بقيمها ومبادئها، فتحولت قوتها ونفوذها ضعفاً، وعزها ذُلاً، وغناها فقراً، ووحدتهاً فرقةً، إنها سُنة الله الصارمة القاهرة التي لا تحابي أحداً.