“التطبيع التربوي” بالمغرب.. أجندات مخفية وأخطار محدقة

بعدما وقَّع رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني اتفاقية ثلاثية حول استئناف العلاقات بين الرباط و»تل أبيب» برعاية أمريكية، أقدم مسؤولون في وزارة التربية الوطنية على خطوات تطبيعية غير مسبوقة، أثارت غضباً في الوسط التربوي وتصدت له نقابات تعليمية مغربية.

يتعلق هذا التطبيع التربوي -حسب مراقبين- بعملية غسيل دماغ جماعي، بشكل مستقل وإستراتيجي لإنهاء القضية الفلسطينية في الذاكرة والوجدان، ومسخها في مخيال الناشئة؛ وبالتالي يصبح الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني بصفتها دولة يهودية أمراً مشروعاً وأخلاقياً ومن ثَمَّ الاعتراف بشرعيتها التاريخية.

يرتكز على تغيير المناهج التعليمية بمحو كل ما له علاقة بالقضية الفلسطينية

ويرتكز هذا التطبيع على تغيير المناهج التعليمية بمحو كل ما له علاقة بالقضية الفلسطينية، إذ يعتبر أشد أشكال التطبيع خطورة، ويرمي إلى فتح العقول والقلوب أمام الاختراق الصهيوني الذي يوظف وسائل الإعلام والإصدارات والكتابات والأعمال الأدبية والمنتديات العلمية والثقافية وملتقيات حوار الأديان والثقافات والحضارات، وقيم التسامح والتعايش وجعلها في خدمة الوجود الصهيوني، ويبرز هذا التطبيع في شكل تعاون بين الجامعات، والملتقيات الفنية أو عن طريق استقطاب بعض الجمعيات أو الجماعات، من أجل قبول واقع الوجود الصهيوني، وإضعاف الانتماء القومي والشعور الإسلامي.

«المجتمع» رصدت مظاهر هذا التطبيع الذي تغطى بأردية مختلفة موسومة بالتسامح والتعايش وصيانة المكون العبري في التراث المغربي، وكشف نقابيون وتربويون أخطاره وسبل التصدي له شعبياً وثقافياً وتربوياً.

انطلق التطبيع التربوي بالمغرب مباشرة بعد توقيع الاتفاقية الثلاثية بعقد شراكات بين الوزارة ممثلة في مديريات جهوية، وجمعيات ومراكز أبحاث منها جمعية الصويرة موكادور، ومركز الدراسات والأبحاث حول القانون العبري بالمغرب، وذهب الأمر إلى حد إصدار دوريات قصد تفعيل هذه الاتفاقيات على المستوى التعليمي المحلي وتأسيس أندية داخل المدارس حول ما سمي «ثقافة التسامح والتعايش والتنوع».

وتعتبر حليمة أشويكة، عضو المكتب الوطني للجامعة الوطنية لموظفي التعليم، في تصريح لـ»المجتمع»، أن تلك الخطوات الانفرادية من وزارة التربية الوطنية تتسم بالكثير من التسرع والغموض، مبرزة أن تلك الاتفاقيات مع جهات تدعي أو بالأحرى تستعمل ثقافة التسامح غطاء للتطبيع التربوي الذي يروم تزييف الحقائق والتاريخ؛ هي اتفاقيات مشبوهة.

وتؤكد أشويكة أن هذه الخطوات المغلفة بشعارات التسامح تثير عدداً من التساؤلات المقلقة حول هذا الاختراق التطبيعي الذي تنتهجه الوزارة في ظل أوضاع غير مستقرة للمنظومة التعليمية التي تعاني من هدر مدرسي متزايد تضاعف من حدته ظروف الجائحة وآثار التعليم عن بُعد والتعليم بالتناوب.

من جهته، يبرز عبدالمجيد الراضي، عضو المكتب الوطني للنقابة الوطنية للتعليم المنضوية تحت لواء الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بالمغرب، في تصريح لـ»المجتمع»، أن ما تم رصده من تطبيع على المستوى التربوي هو «أجرأة» للاتفاقية الثلاثية، إذ أعلن وزير التربية الوطنية سعيد أمزازي بعد اتصال هاتفي مع نظيره في «تل أبيب» عن تنفيذ برامج مشتركة في مجال التعليم، منها خلق منتديات تربوية في المؤسسات التربوية تحت شعارات مزيَّفة وكاذبة لنشر ثقافة التسامح والتعايش بين الديانات، وأيضاً تبادل الزيارات وخلق مؤسسات تواؤم، كما نقلت مؤسسة إعلامية صهيونية على لسان نفس الوزير، وإجراء مسابقات باللغتين العبرية والعربية وعروض فنية وموسيقية احتفالاً بعيد «ميمونة» (اليهودي) بمشاركة طلاب من الطرفين، والأخطر من هذا كله هو إدراج «تراث اليهود» في البرامج التربوية والمناهج الدراسية.

لا سبيل إلى مواجهة هذا الاختراق التطبيعي وحماية الأجيال إلا بنشر الوعي وفضح هذه الخطوات

كشف جرائم الاحتلال

بدورها، توضح المستشارة التربوية في قضايا الأسرة صالحة بولقجام، في تصريح لـ»المجتمع»، أن هناك أنشطة تطبيعية متخفية كانت تمارَس في المؤسسات التربوية تحت مسميات متعددة وستارات مختلفة، بل تنجز في الجامعة بحوث أكاديمية في هذا الاتجاه، لكن كل ذلك كان يتم بشكل محتشم نظراً للرفض الشعبي القوي لأي خطوات تطبيعية، ولذلك -تضيف بولقجام- نرصد وعي المجتمع المدني المناهض للتطبيع وما يقوم به على المستوى الشعبي من عمل كبير ومكثف وغير متوقف في التوعية بقضية فلسطين وحضورها في الوجدان، وكشف جرائم الكيان المحتل وخطره على الأمة، وأيضاً ما يقوم به المغرب الرسمي الذي يقود لجنة القدس من دعم مادي ومعنوي للفلسطينيين.

مع ذلك، تنبه بولقجام إلى خطر التطبيع التربوي، الذي قد يبدأ صغيراً؛ لأنه يستهدف الأجيال ويزيف الحقائق الحضارية والعقائدية التي تربط الشعب المغربي بفلسطين، متسائلة عن جدوى ربط علاقة تسامح وتعايش مع كيان يرتكب الكثير من الجرائم اليومية، فهو محتل، قاتل ومغتصب، ولا يمكن من الناحية التربوية والنفسية تبرير الظلم بأي منطق براغماتي نفعي أو سياسي اقتصادي، لأنه من شأن ذلك تنشئة أجيال هجينة، ومصدومة، ومهتزة نفسياً، بميزان مختل غير قادر على تمييز الحق عن الباطل.

فيما يشير عبدالإله دحمان، الأمين العام للجامعة الوطنية لموظفي التعليم، في تصريح لـ»المجتمع، أن المشكل ليس مع اليهود المغاربة، فالمواطنة والمشترك الوطني وثوابت الأمة تجمعنا في إطار القانون والدستور وحماية المقدسات.

ويشرح: ما نرفضه بوعي وبرصد ذكي لخلفياته والأدوات التي تعمل عليه هو التطبيع مع الرؤية الصهيونية لتاريخ فلسطين كقضية مركزية، ويضيف: بالتالي لن نسمح بتزييف وعي الناشئة المغربية وتأهيلها لتقبل بمجرمي الحرب الصهاينة الذين تلطخت أياديهم بالدم الفلسطيني ولو كانوا يهوداً مغاربة لأنهم يخدمون كياناً عنصرياً ومحتلاً، وهم يشكلون خطراً على التماسك الاجتماعي للمغاربة وأجندتهم باتت مفضوحة، ولن نسمح بتمرير الأساطير الصهيونية تحت أي مسمى، فالوطن بالنسبة لنا خط أحمر لا يمكن المزايدة عليه.

ما يحدث سيساعد على تنشئة أجيال مهتزة نفسياً بميزان مختل غير قادر على تمييز الحق عن الباطل

تزييف التاريخ

يتفق مناهضو التطبيع على أن أخطاره متعددة بأبعاد سياسية واقتصادية وحضارية مدمرة للدول والشعوب، ويضيفون أن التطبيع التربوي أكبر وأقوى لأن المدرسة هي المدخل الأكثر تأثيراً في المجتمع.

وتوضح الإطار التربوي حليمة أشويكة أن أي منهاج دراسي يجد طريقه إلى البرامج والمقررات قصد صناعة الأجيال الناشئة وفق منظومة أخلاقية ومعرفية وقيمية، والخطر يكمن في أن يتسرب إلى هذا المنهاج معطيات مغلوطة ومزيفة عن التاريخ والقيم، وأن يتم تشويه مفهوم التسامح والتعايش واختزاله في التعامل مع الكيان الصهيوني الذي تحمل مقرراته الدراسية قيماً عنصرية وعدوانية تجاه العرب والمسلمين، وما لهذا التشويه والتزييف من آثار تتجاوز أسوار المدارس لتنفذ إلى كل بنيات المجتمع.

ولا يمكن إخفاء مخاطر التطبيع التربوي، حسب الراضي، إذ يمكن الانتقال من موقف الرفض لكيان محتل إلى موقف علاقة عادية معه، وتحويله عن طبيعته الإجرامية والإقرار بحق الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية والمقدسات الدينية وتهجير وتقتيل الشعب الفلسطيني والتخلي عن حقوقه التاريخية.

ويؤكد المتحدث ذاته أن تعديل الخطاب الإعلامي وتغيير المناهج يصب في مصلحة الكيان المحتل، بالتأثير في الوعي الجماعي والهوية الحضارية، ويتجاوز المصالح الاقتصادية والنفعية، إلى تهديد التماسك الاجتماعي والنفسي، والقبول بالكيان الصهيوني ومسح الذاكرة لخلق قيم أنماط الجديدة متناسبة مع مرحلة الانبطاح التي تعيشها الدول العربية.

ويذهب دحمان أبعد من ذلك، إذ يعتبر أن التطبيع التربوي لا يمكن فصله عن الارتباط بالرؤية الإمبريالية والصهيونية للمنطقة ومستقبلها، فحقيقة التطبيع والإرادة الصهيونية هي إخضاع الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة وضمنها المغرب، وبالتالي تتعدد مخاطر التطبيع بتعدد آلياته، لتصب في خطر واحد وهو خطر وجودي على الشعب العربي الإسلامي في المنطقة.

ويضيف: تزداد هذه الخطورة على المستوى الثقافي والتربوي؛ إذ إنه مدخل للسيطرة على روح الشعوب وعقلها وفكرها ووجدانها الذي يعد أسمى الأهداف الإستراتيجية لدى الاحتلال الصهيوني، وهو اليوم يشكل تحولاً إستراتيجياً في مقاربة الكيان الصهيوني، حيث توجه الصهاينة في البداية إلى تطبيع العلاقات مع بعض الأنظمة، لكن التطبيع بقي فوقياً ولم يتغلغل إلى الشعوب التي أبقت على الممانعة والمقاومة، واليوم التطبيع التربوي يتوجه نحو تطبيع الذهنية والنفسية العربية الإسلامية والمجتمعات، وهذه المرحلة أشد خطراً من السابقة، إذ يعتبر التطبيع التربوي والإخضاع الثقافي دعامة مهمة للتغلغل والاختراق الصهيوني في المنطقة، لأنه أعمق وأكثر فاعلية، ولا يستثير موقفاً دفاعياً كحروب الإخضاع العسكرية.

مقاومة التطبيع

«لا سبيل إلى مواجهة هذا الاختراق التطبيعي وحماية الأجيال الناشئة، وعبرها حماية المجتمع، إلا عبر نشر ثقافة الوعي المضاد، بفضح هذه الخطوات التطبيعية وكشف تهافتها وبإبراز الطابع العنصري للكيان الصهيوني في تعامله مع تلاميذ وأطفال فلسطين، والتعريف ببرامجها التعليمية المعادية للعرب والمسلمين قصد تفنيد ادعاء نشر ثقافة التسامح»، كما تجيب أشويكة عن سؤال مقاومة التطبيع التربوي.

وتضيف أن هذه المواجهة هي دور كل مكونات المجتمع من أحزاب ونقابات وجمعيات، كما يجب أن تقوم النقابات التعليمية بدورها في دعوة الوزارة إلى الكف عن العبث بالمقررات الدراسية وبالحياة المدرسية، وبإشراكها في كل ما يتعلق بتعديل المناهج والبرامج الدراسية حماية للأجيال القادمة من مخاطر تزييف الوعي وتشويه الشخصية المغربية.

بدوره، يؤكد دحمان أن مواجهة أي اختراق للمدرسة العمومية أو تعديل المناهج التربوية هو واجب كل غيور على الوطن، علاوة على تدريس الأدبيات والوثائق والنصوص المعادية للكيان الصهيوني واليهود وفضح تاريخهم الدموي، كما يجب تعبئة الجامعات ومراكز الأبحاث لعدم التعاون مع المؤسسات الصهيونية على المستوى المعرفي، والتنبيه إلى صياغة المفاهيم ومناهج التفكير، بما ينسجم مع المتغيرات الإقليمية والدولية.

وتشدد صالحة بولقجام، عضوة المكتب الوطني لمنتدى الزهراء للمرأة المغربية، على تفعيل دور الأسرة باعتبارها مؤسسة مهمة، بل هي أقوى مؤسسة لتنشئة وتربية الأجيال على مركزية القضية الفلسطينية وقدسية القدس والروابط العقدية والتاريخية والحضارية التي تربطنا بالمسجد الأقصى وباب المغاربة وحارة المغاربة وباقي التراث الإسلامي هناك، كما للأسرة قدرة عالية على توريث العقيدة والقيم والمبادئ والتاريخ والأعراف والتقاليد التي تقوم عليها الأمة الإسلامية، وتهيب بالإعلام الهادف أن يكثف من برامجه وأنشطته الداعمة للقضية الفلسطينية، ومواجهة التطبيع بكل أبعاده والتطبيع التربوي خصوصاً وكشف أشكاله المتعددة، في أفق رفع المناعة التربوية والقيمية ضد التطبيع، وبالتالي حماية الأجيال التي تعتبر أمانة بين أيدي الراشدين اليوم.

لمواجهة التطبيع وحماية الأجيال، يبرز الراضي أهمية تضافر جهود الجميع، مع التركيز أكثر على دور جمعيات الآباء وفضح كل المطبعين في المجال التربوي، بإعداد لائحة عار سوداء تشير إليهم وتؤرخ لخذلانهم، واستغلال كل المناسبات للتعريف بالقضية الفلسطينية في المدارس والمؤسسات التربوية.

Exit mobile version