يعيش الإنسان في الحياة الدنيا في عالم مليء بالحُجُب؛ فعالم الغيب محجوب عنه، وعليه أن يؤمن به دون أن يراه، وجُعل الإيمان بالغيب من أول صفات المؤمنين المتقين؛ فقال الله تعالى: (الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة).
وابتداء من عالم البرزخ الذي قال عنه الجرجاني: “العالم المشهور بين عالم المعاني المجردة والأجسام المادية، والعبادات تتجسد بما يناسبها إذا وصل إليه، وهو الخيال المنفصل، وهو الحائل بين الشيئين، ويعبر به عن عالم المثال، أعني: الحاجز من الأجسام الكثيفة وعالم الأرواح المجردة، أعني: الدنيا والآخرة”(1).
في هذا العالم ترتفع الحُجُب شيئاً فشيئاً حتى إذا كان يوم القيامة وما يليه ترتفع كل الحجب عن الإنسان؛ فيرى العرش والملائكة والجن، والسعيد يرى الله تعالى، والشقي يكون محجوباً عنه.
التشخص يبدأ من عالم البرزخ وحتى استقرار أهل الجنة بدار مقامتهم وأهل النار في محل السخط عليهم
والمعاني: “هي الصورة الذهنية من حيث إنه وضع بإزائها الألفاظ والصور الحاصلة في العقل”(2).
والمجرد هو: “مَا يُدْرك بالذهن دون الْحَواس”(3)، مثل: الإيمان، الصدق، القوة، الحياة، الموت، الشباب.. إلخ.
وقد لاحظت أنه في الآخرة تتجسد أو تتشخص أو تتمثل بعض تلك المعاني المجردة، فنراها بأعيننا، تتكلم وتحاج وتتحرك وتُذبح، تكون شخصية واعية تجادل وتشفع، أو متجسدة على نحو ما.
و”الشَّخْص” عِنْد الفلاسفة: “الذَّات الواعية لكيانها المستقلة فِي إرادتها”(4).
ونحن في الحياة الدنيا نستخدم التشخيص للمعاني على سبيل المجاز؛ قال المتنبي:
وما الموتُ إلا سارقٌ دقَّ شخصُه
يصُول بلا كفٍّ ويسعى بلا رجلِ
وقد شرح ابن سيده هذا البيت بقوله: “قوله: “دق شخصه”: كلام شعري؛ لأن الموت عَرَض، والعَرَض لا يُشخص، إنما التشخيص للجواهر، وقد يُتجوز بالعرض المحسوس كالحمرة والصفرة، فأما الأعراض النفسانية فلا تُشخص.
وسوَّغ ذلك قوله فيه: “سارق”؛ لأن السارق لا يكون إلا شخصاً، فلما نسب إليه صفة لا تكون إلا في الجواهر، وهو السرقة استعار له التشخص.
“يصُولُ بلا كف ويسعى بلا رجل”؛ أي: أنه عَرَض، والعَرَض لا يد له ولا رجل”(5).
وإذا كان التشخيص في الدنيا للمعاني على سبيل المجاز، فإنه في الآخرة سيكون على سبيل الحقيقة، ويبدأ هذا التشخص من عالم البرزخ وحتى استقرار أهل الجنة بدار مقامتهم، وأهل النار في محل السخط عليهم.
وقد وقفت على أمثلة متنوعة تبرز هذا الأمر وتوضحه وتبينه، مثل:
قوانين الآخرة مغايرة لقوانين الدنيا وسننها الحاكمة وعلينا أن نسلِّم للخبر الصادق ولا نقيسه على قوانين الدنيا
1- تجسيم الأعمال الحسنة والأعمال السيئة:
ما إن ينفصل الإنسان عن عالمنا حتى تتجلى له أمور وتظهر له مشاهد، ومما يظهر له عمله الصالح أو الطالح، الحسن أو القبيح، ويكون هذا الظهور دليل بشرى أو دليل شؤم، وهذا التجسُّد يكون للمعاني الحسنة أو القبيحة على السواء.
وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث طويل يصف فيه أحوال الموتى وما يحدث معهم من قبض الروح وسؤال القبر، فقال عن الرجل الصالح: “ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي”.
وقال عن الكافر: “ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تُقم الساعة”(6).
2- تشخيص العبادة:
الإنسان مأمور في حياته بعبادة الله تعالى، والعبادة الخالصة لله هي عنوان الخشوع والخضوع والإذعان له سبحانه، والإقرار بألوهيته وربوبيته، ورغم هذا الإقرار وهذا الخضوع فالإنسان مجبول على النقص، وتزين له الشياطين المعاصي والمقابح، فيأتي منها ويذر.
ويذهب إلى الله بهذا الخلط بين العمل الصالح والآخر الطالح؛ فتأتي أعماله الصالحة شفيعة له، لا نعرف كيفية هذا التشخص، لكن العبادة تكون واعية ولها إرادة، إرادة في إنقاذ العبد من غضبة الجبار لسوء فعاله، ووعي كامل بالمخاطر والمزالق المحيطة به؛ فتأتي بين يدي الله شفيعة طالبة العفو والغفران والمسامحة؛ فقد أخرج الحاكم في مستدركه عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فيشفعان”(7).
وقد قال الطيبي رحمه الله: “الشفاعة والقول من الصيام والقرآن إما أن يُؤوَّل، أو يجرى على ما عليه النص.. هذا هو المنهج القويم، والصراط المستقيم؛ فإن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل عن إدراك العوالم الإلهية، ولا سبيل لها إلا الإذعان له، والإيمان به، ومن تأول ذهب إلى أنه استعيرت الشفاعة، والقول للصيام والقرآن لإطفاء غضب الله، وإعطاء الكرامة، ورفع الدرجات، والزلفي عند الله، والقرآن هنا عبارة عن التهجد، والقيام بالليل”(8).
أما العلامة الملا علي القاري فقد قال: “يشفعان للعبد؛ وتتجسد المعاني والأعمال، ويحتمل ببيان الحال”(9).
فهنا الاحتمالات قائمة؛ إما بتجسد وتشخص المعاني أو بتأويل الحديث، لكن كثرة الاستشهادات التي وقفت عليها تجعلني أجنح لعدم التأويل هنا، وإمضاء الأمر على ظاهره.
3- تمثُّل القرآن وسوره:
أخرج مسلم عن النَّوَّاس بْن سَمْعَانَ الْكِلاَبِيِّ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ”، وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ قَالَ: “كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ، أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا”(10).
وهذا الأمر فيه إشكال؛ لأن القرآن صفة الله، وصفة الله قديمة وليست مخلوقة؛ لذا ذهب بعض العلماء إلى تأويل إتيان القرآن بإتيان الثواب(11).
وإن قبلنا ذلك ورفضنا تمثُّل القرآن فإن ذلك -أيضاً- لا يخرج عن تجسد المعاني؛ إذ إن الثواب معنى، وقد تجسد في صورة طير أو سحاب.
وقد قبل بعض العلماء أن يتمثل القرآن على وجه لا نعرفه ولا ندرك كنهه الآن؛ فقال ملا علي القاري: “ثوابهما الذي استحقه التالي العامل بهما، أو هما يتصوران ويتجسدان ويتشكلان”(12).
في الآخرة تتجسد بعض المعاني المجردة فنراها بأعيننا تتكلم وتتحرك وتُذبح
4- تجسيم الموت:
ما من نفس منفوسة أو دابة في السماوات أو في الأرض إلا وستذوق الموت، لكن الإنسان مخلوق كُتب له الخلود، ولن يذوق الموت إلا مرة واحدة قال تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) (الدخان: 56)، هذا الخلود سواء أكان في النعيم أم في الجحيم والعياذ بالله.
لذا، فإن الموت ذاته سوف يتجسد ويُذبح؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ”(13).
وقد قاس بعض العلماء عالم الغيب على عالم الشهادة؛ فأنكروا أن تتجسد المعاني، ومن المعلوم أن قوانين الآخرة مغايرة لقوانين الدنيا وسننها الحاكمة، ويبقى أن نسلِّم للخبر الصادق.
وقد نقل ابن حجر رأي الفريقين فقال: “قال المازري: الموت عندنا عَرَض من الأعراض، وعند المعتزلة ليس بمعنى، وعلى المذهبين لا يصح أن يكون كبشاً ولا جسماً، وأن المراد بهذا التمثيل والتشبيه، ثم قال: وقد يخلق الله تعالى هذا الجسم ثم يذبح ثم يجعل مثالاً؛ لأن الموت لا يطرأ على أهل الجنة.
وقال القرطبي في التذكرة: الموت معنى، والمعاني لا تنقلب جوهراً، وإنما يخلق الله أشخاصاً من ثواب الأعمال، وكذا الموت يخلق الله كبشاً يسميه الموت، ويلقي في قلوب الفريقين أن هذا الموت يكون ذبحه دليلاً على الخلود في الدارين.
وقال غيره: لا مانع أن ينشئ الله من الأعراض أجساداً يجعلها مادة لها”(14).
ومن الملاحظ أن هذا التشخيص ابتدأ من عالم البرزخ، واستمر في أرض المحشر وقت الحساب، وبقي حتى بعد دخول أهل الجنةِ الجنة وأهل النار النار.
ومن اعترض على تجسيد بعض المعاني أوَّلها بمعان أخرى؛ فهم أقروا التشخيص أو التجسيد، لكنهم أوقعوه على معنى آخر، كمن نفى التشخيص عن القرآن وأثبته للثواب.
فالعالم الآخر له قوانينه وسننه وأحكامه التي تختلف عن قوانين وسنن وأحكام الحياة الدنيا، ويبقى أن ربنا سبحانه قادر على فعل أي شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
_________________________
الهوامش
(1) التعريفات للجرجاني، ص 63.
(2) السابق، ص 281.
(3) المعجم الوسيط، (1/116).
(4) السابق، (1/475).
(5) شرح المشكل من شعر المتنبي، ص 54.
(6) أخرجه أحمد في “المسند”، ح(18534) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وقال شعيب الأرنؤوط: “إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح”.
(7) المستدرك، (1/740)، وقال الحاكم: “هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه”.
(8) شرح الطيبي، (5/1576-1577).
(9) مرقاة المفاتيح، (4/1366).
(10) أخرجه مسلم في صحيحه، (1/554)، ح(805).
(11) شرح النووي على مسلم، (6/90).
(12) مرقاة المفاتيح، (4/1460).
(13) أخرجه البخاري في صحيحه، (6/93)، ح(4730).
(14) فتح الباري، (11/421).