وقفات تربوية مع الباحثين (أخيرة)

هذه مجموعة من الوقفات التربوية، من واقع خبرة عملية ونظرية تزيد على ربع قرن من الزمان، نقدمها للباحثين الشباب لكي يتم التواصل بين أجيال الباحثين في الأمة، كي تصوب بوصلة الجيل الجديد في طريق البحث، وتشحذ فيه الهمم، ويتجنب فيه هدر الوقت والجهد، ويتم البناء على ما سبق في هذا الطريق. وهذه الحلقة الخامسة من هذه الوقفات.

الرؤية النقدية

الاحتفاء بالنقد أحد الموجهات الرئيسة لأخلاق الباحث مع بحثه، فهذه السمة تضيف له ولعمله، وتساعد في بناء شخصية علمية قادرة على الانفتاح، غير منغلقة أو دائرية التفكير، وهنا يكمن السؤال: ما مصادر النقد؟ ونشير في ذلك إلى جانب منها:

إعادة النظر في معالجة المشكلة البحثية من زاوية أنساق معرفية أخرى.

عرض المعالجة على شخصيات علمية منهجية في التخصص الدقيق أو التخصص العام.

الخيال الذاتي للباحث بقيامه هو بعملية “النقد الذاتي”، وبناء معيارية لتلك العملية إما خارجية أو داخلية.

التواصل المعرفي للباحث

شكلان للتواصل المعرفي للباحث: الأول: يتعلق بالشكل الرأسي، أي تحقيق الاتصال المعرفي بتراثه في ميدان تخصصه، والوقوف على أهم النتاجات المفاهيمية والمعرفية التي قدمها التراث في هذا الميدان، بشكل تتبعي بحرص فيه الباحث على كليات المعرفة والاستخلاصات المهمة والمضافة لميدان بحثه أو التي تشكل نقطة انطلاق له. والشكل الثاني: يتعلق بالاتصال المعرفي الأفقي أي الوعي بنتاجات العلوم المعاصرة التي تتعلق بصورة مباشرة بميدان بحثه وتسمى هنا (مصادر مرجعية) أو تلك التي لا تتعلق مباشرة بميدان بحثه ولكنها تؤثر في كليات النظرة البحثية له وتسمى “كتابات رائدة”، ومن نافلة القول بأن بكون لدى الباحث في المتصلين (الرأسي والبحثي) رؤية نقدية لما تحصل عليه منهما.

الباحث والفكرة الممانعة

المشهد البحثي العربي والوطني لا يحتاجان إلى بحوث “التبرير” أو البحوث “التبريرية”، والتي تتبارى الأقسام العلمية – للأسف- إلى دفع الباحثين إلى التسجيل فيها لغرض أو لآخر، إن مجتمعاتنا – في ظل سياق المشهد الاجتماعي والحضاري المنظور- تحتاج إلى نمط من البحوث يمكن أن نطلق عليه البحوث “الممانعة”، الممانعة للتخلف والتراجع الفكري، والتمزق الاجتماعي، واهتراء القيم.. وما إلى ذلك مما يقع في هرم احتياجات مجتمعنا ووطننا العربي.

الباحث والركود النفسي

قد يعاني الباحث الفرد –في ضوء الظروف النفسية والاجتماعية والظروف العامة- من الملل والركود النفسي والذي ينعكس بدوره على إنتاجه البحثي وساعات عمله فيه، وقد ذكرت هنا الباحث الفرد بهذه الحالة، لأنها أكثر شيوعًا من الباحث عندما في حالة جماعية أو فرقية (أي العمل ضمن فريق).. وأظن أن العلاج المناسب كالآتي:

1- ألا ينقطع الباحث عن بحثه الأساس جملة واحدة، ربما يتوقف عن خطة بحثه، ولكن تظل العلاقة قائمة وعلى على تماس بطيء أو بسيط، خصوصًا إذا كان في مرحلة الكتابة.

2- لا يجلس طويلاً صامتًا أمام قلمه وأوراقه.. يحدد جزءاً بسيطاً من الوقت لإتمام قليل من العمل في بحثه.

3- أن يحدد الباحث لنفسه مقدار ترفيه ما يواظب عليه يوميًا أو أسبوعيًا أو حتى شهريًا.

4- أن ينصرف الباحث إلى عمل جزئي آخر أثناء الانقطاع الجزئي (في البحث) ككتابة مقالة، أو التعاون مع بعض الزملاء القريبين، أو إعطاء محاضرة عامة في مجال بحثه من خلال الوسائط المنتشرة، أو يتصل بأي عمل ما يشعر معه بالإنجاز.

5- يمكن أن يتواصل مع الباحثين أقرانه أو أصغر منه يقدم لهم يد المعونة المتاحة.

6- ينبغي ألا تطول فترة الانقطاع الجزئي بأي حال عن شهر في العام الواحد؛ لأن الركود يأتي بركود كما أن التواصل الفعال في العمل البحثي يأتي بتواصل مثله.

الباحث مهمته الكبرى: {فَكُّ رَقَبَةٍ}

إن الباحث الحق يسعى كي يعتق رقاب الناس، كل الناس من عبودية الوضعيات التي اخترعها (السادة) في مجال العلم، والوثنية في مجال الفكر، فأنتجت قبول المتناقضات، واللامعقوليات الأخلاقية والمعرفية، إن مهمة الباحث الكبرى أن ينقل الناس من مرارة الزيف والتناقض والعبودية الوهمية والوثنية إلى طيب الحق والحقيقة والمعرفة والأخلاق.

تهافت مقولتا: ” قتل بحثاً” و”الموضوع الذي لم يسبق إليه أحد”

المقولة الأولى: “قُتل بحثاً” –وهي تكون عادة من قبل بعض الأساتذة- ليست منطقية لأن العلوم الإنسانية ليست قرآنًا، بل إن القرآن ذاته حمال أوجه وتعددت فيه التفاسير للآية الواحدة منذ أربعة عشر قرنًا وحتى الآن ما زال العقل المسلم يجتهد في فهمه وفي قراءته المعرفية والاجتماعية, ولم يقل أي من العلماء بضرورة توقف أو غلق باب التفسير.. والأولى بهذه الظاهرة الإنسانية المتعددة الوجوه والمختلفة الشعور والاستجابة للشخص الواحد في مواقف متشابهة وربما أماكن متقاربة أو متطابقة أيضًا.. إن رؤيتنا للظاهرة الإنسانية –كباحثين فيها- مهما تقاربت إلا أن هناك بصمة ورؤية لكل باحث تختلف باختلاف نشأته الاجتماعية والعلمية ونظرته للواقع وتصوره للمستقبل، وهو ما يعني كذلك أن القضية الواحدة يمكن أن تدرس عشرات المرات بل مئات في أماكن مختلفة أو متشابهة أو أزمنة مختلفة أو متشابهة ولدى باحثين شباب أو كبار نساء أو رجال.

أما المقولة الثانية: “الموضوع الذي لم يسبق إليه أحد” –وتكون عادة من قِبَل بعض طلاب البحث- فإن هذا مما تكذبه سيرة العقلاء, وتراكم البحث العلمي، ورسائل الجامعات والكتب والبحوث في مشارق الأرض ومغاربها, بل إن مسألة البحث الإنساني بدأت منذ خلق الإنسان, وطرحت إجابات عديدة من قبل فلاسفة ومتصوفة ومفكرين دينيين ولا دينيين, وربما يكون الأوقع لهذه المقولة هو أن الطالب أول مرة يتعرض لهذا الموضوع, وهذا ليس فقط من باب التواضع العلمي (الواجب على الباحث الحق), ولكنه من باب الحقيقة العلمية التي لا يماري فيها أحد، ولا ينبغي أن يستثني الباحث نفسه من ذلك (أي من باب تلك الحقيقة العلمية) ليدخل في أبواب أخرى تصرفه عن العلم الحق والتعلم الحق.

كلماتك

أيها الباحث: كن على يقين وجداني وإيماني “أن كلمات الباحث هي استغفاره الدائم ومداده غير المنقطع.. وولده الذي يدعو له.. وعمله النافع”. واعلم أنه بمقدار جهدك في ميدان البحث وسعيك البحثي يكون مقدار هذا الاستغفار والمداد والنفع.

طريق النور

الباحث العزيز: أبصرت فالزم.. أنت طريق النور، وطريق الحقيقة لمجتمعك وأمتك، في الحاضر والمستقبل.. فكن أول من يركب الخيل وليس آخره..

دعاء الباحث ونوافله هي جهده في ميدان التغيير

إن الباحث كالمجاهد في ميدان عمله، يجب أن تتجسد فيه شروط المجاهد، من الإخلاص، والتقوى، والورع، ومجاهدة النفس والشيطان والهوى، والمثابرة، والقصد، واليقظة الدائمة.

 

 

___________________________________

(*) أستاذ أصول التربية المساعد- جامعة دمياط.

Exit mobile version