عدة المختلعة وشيوخ الفضائيات

“أنتِ تزني منذ خمس سنوات مع هذا الرجل ويجب عليكِ التوبة ثم قضاء العِدة ثلاث حيضات ثم إتمام العقد مع هذا الرجل الذي تعيشين معه”!

هذه كانت إجابة أحد شيوخ الفضائيات لامرأة قالت: إنها خلعت نفسها من زوجها السابق ثم تزوجت بغيره بعد مرور حيضة واحدة بناء على فتوى أحد الشيوخ، ولكنها عرفت بعد مرور خمس سنوات وأثناء ذهابها إلى دار الإفتاء “قدراً” أن عدتها ثلاث حيضات وليست حيضة واحدة، فكانت إجابة فضيلة الشيخ السابقة.

الحياة الزوجية تقوم على السكن والمودة والرحمة وحسن المعاشرة

وللوقوف على خلل هذه الفتوى ونقصانها؛ نستعرض بعض الأحكام المتعلقة بالخلع حتى نقف على مدى صحة هذه الفتوى.  

الحياة الزوجية سكن ومودة

الحياة الزوجية لا تقوم إلا على السكن، والمودة، والرحمة، وحسن المعاشرة، وأداء كل من الزوجين ما عليه من حقوق، وقد يحدث أن يكره الرجل زوجته، أو تكره هي زوجها، والإسلام في هذه الحال يوصي بالصبر والاحتمال، وينصح بعلاج ما عسى أن يكون من أسباب الكراهية، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (النساء: 19)، وفي الحديث الصحيح: “لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر”(1).

عندما يشتد الشقاق بين الزوجين ويصعب العلاج يرخص الإسلام بالفِراق

إلا أن البغض قد يتضاعف، ويشتد الشقاق، ويصعب العلاج، وينفد الصبر، ويذهب ما أسس عليه البيت من السكن والمودة، والرحمة، وأداء الحقوق، وتصبح الحياة الزوجية غير قابلة للإصلاح، وحينئذ يرخص الإسلام بالعلاج الوحيد الذي لا بد منه، فإن كانت الكراهية من جهة الرجل، فبيده الطلاق، وهو حق من حقوقه، وله أن يستعمله في حدود ما شرع الله تعالى، وإن كانت الكراهية من جهة المرأة، فقد أباح لها الإسلام أن تتخلص من الزوجية بطريق الخلع، بأن تعطي الزوج ما كانت أخذت منه باسم الزوجية لينهي علاقته بها، وفي ذلك يقول الله تعالى: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة: 229)، وفي أخذ الزوج الفدية عدل وإنصاف، إذ إنه هو الذي أعطاها المهر وبذل تكاليف الزواج، والزفاف، وأنفق عليها، وهي التي قابلت هذا كله بالجحود، وطلبت الفراق، فكان من الإنصاف أن ترد عليه ما أخذت.

الطلاق حق من حقوق الرجل وله أن يستعمله في حدود ما شرع الله

تعريف الخلع

والخلع الذي أباحه الإسلام مأخوذ من خلع الثوب إذا أزاله؛ لأن المرأة لباس الرجل، والرجل لباس لها، قال الله تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) (البقرة: 187)، وقد عرفه الفقهاء بأنه “فراق الرجل زوجته ببدل يحصل له”، والأصل فيه ما رواه البخاري، والنسائي، عن ابن عباس قال: “جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة”(2).

الخلع يجعل أمر المرأة بيدها

ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة، إلى أن الرجل إذا خالع امرأته ملكت نفسها وكان أمرها إليها، ولا رجعة له عليها، لأنها بذلت المال لتتخلص من الزوجية، ولو كان يملك رجعتها لم يحصل للمرأة الافتداء من الزوج بما بذلته له من مال.      

الخلع فسخ أم طلاق؟

أباح الإسلام للمرأة أن تتخلص من العلاقة الزوجية بطريق الخلع

اختلف العلماء في الخلع هل هو فسخ أم طلاق؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في إحدى روايتيه: هو طلاق بائن، وعن أحمد رواية أخرى أنه فسخ وليس بطلاق، وهو أظهرهما، وعن الشافعي قولان كالمذهبين، واتفقوا على أنه يصح الخلع مع استقامة الحال بين الزوجين.

عدة المختلعة

ذهب جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في المذهب) إلى أن عدة المختلعة عدة المطلقة، وهو قول سعيد بن المسيب، وسالم بن عبدالله، وسليمان بن يسار، وعمر بن عبدالعزيز، والحسن، والشعبي، والنخعي، والزهري وغيرهم، وفي قول عن أحمد: إن عدتها حيضة؛ وهو المروي عن عثمان بن عفان، وابن عمر، وابن عباس، وأبان بن عثمان، وإسحاق، وابن المنذر، واحتج القائلون بأن عدتها حيضة بما رواه النسائي، وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة، وبأن عثمان رضي الله عنه قضى به.

إذا خالع الرجل امرأته ملكت نفسها وكان أمرها إليها ولا رجعة له عليها

واحتج القائلون بأن عدتها عدة المطلقة بقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) (البقرة: 228)، ولأن الخلع فرقة بين الزوجين في الحياة بعد الدخول فكانت العدة ثلاثة قروء كغير الخلع(3).

فتوى بن باز رحمه الله

وسئل العلامة عبدالله بن باز رحمه الله عن عدة المختلعة فقال: المطلقات عليهن عدة، ولو كان الزوج قد تركها مدة طويلة، لم يجامعها في حال الحمل ولا بعد الحمل؛ لقول الله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ)، وهذا يعم جميع المطلقات المدخول بهن، فكل امرأة دخل بها الزوج ثم طلقها، فإن عليها العدة، ولو كان طلاقه لها بعد الولادة، ولو لم يجامعها بعد ذلك، فإنها تعتد؛ لعموم الآية الكريمة، وما جاء في معناها.

ولكن اختلف العلماء: أتعتد المخلوعة ثلاثًا، أم بحيضة واحدة؟

العلماء اختلفوا في عدة المرأة المختلعة على رأيين  

والصواب: أنه يكفيها حيضة واحدة؛ لحديث الربيع بنت معوذ لما خالعت زوجها، أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة، وهكذا جاء حديث ثابت بن قيس، فالمقصود: أن المخلوعة التي طلقها زوجها على مال، إن اعتدت بثلاث حيض فهذا أفضل وأحوط، وفيه الخروج من خلاف العلماء، وإن اعتدت بحيضة واحدة كفاها ذلك -في أصح قولي أهل العلم- لما ثبت في هذا من السُّنة المشار إليها، والله ولي التوفيق(4).

 

 

______________________________

(1) رواه مسلم تحت رقم (1469).  

(2) فقه السنة – جـ2 – صـ294- ـ296 بتصرف.

(3) الموسوعة الفقهية – جـ19 – صـ252.

(4) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (22/ 176).

Exit mobile version