القروض.. بين السداد والإسقاط

ما زال الناس قديماً وحديثاً يقترضون من غيرهم، مع اختلاف دوافعهم للاقتراض والاستدانة، فمنهم من يقترض لضرورة أو حاجة، ومنهم من يقترض لترف في الحياة ثم يوقع نفسه في إشكالات لم يكن يعملها، أو يعلمها بالنظائر، لكنه لا يبالي بعواقبها، والناس فيما تفعل مذاهب شتى.

الإقراض من الأعمال الصالحة التي يثيب الله عليها، من ذلك قوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} (البقرة: 245)، وقد حث النبي عليه الصلاة والسلام عليه، من ذلك قوله: «ما من مسلم يُقرِض مسلماً قرضاً مرَّتين إلا كان كصدقتها مرة» (رواه ابن ماجة).

وفي صحيح مسلم: «مَن نفَّس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَن يسَّر على مُعسِر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».

مقاصد القرض:

ومن أهم مقاصده تحقيق أخوة الإسلام، ومد يد العون للمحتاج، وتحقيق التكافل الاجتماعي، وغيرها.

أركان القرض: للقرض ثلاثة أركان؛ هي: الصيغة؛ وقد تكون الصيغة شفهية أو مكتوبة، والعاقدان من المقرض الذي يعطي المال، والمقترض الذي يأخذه، والمعقود عليه وهو المال.

شروط القرض:

ويشترط فيه أن يكون معلوم القدر والوصف، ويرد في بلد الإقراض ويجوز في غيرها.

وفي هذا المقام الأصل أن يرد المبلغ بالعملة ذاتها، فمن اقترض بالدينار الكويتي مثلاً رده بالدينار الكويتي، أو بالريال رده بالريال، وهكذا، كما يجوز رده بعملة أخرى بنفس القيمة.

وفي حال حصول التضخم، وأن تكون العملة قد خسرت قيمة في السوق، أو العكس، فإن كان الفارق صغيراً؛ رد المبلغ كما هو، وإن كانت كبيرة؛ حسبنا قيمة المبلغ بالذهب وقت القرض، على ما رجحه عدد من الفقهاء.

أحكام القرض:

والقرض في حق المقرض أنه مندوب في الأصل، وقد يكون واجباً، إن كان المقترض مضطراً ولم يجد من يسد حاجته، وإن غلب على ظن المقرض أن المقترض يأخذ المال لينفقه في حرام؛ كان إقراضه حراماً، وقد يكون مباحاً، كإقراض التاجر ليزيد تجارته ونحو ذلك.

أما في حق المقترض، فهو مشروع إن كان لحاجة وهو قادر على أدائه، وممنوع إن كان لغير حاجة.

قضاء الدين:

يجب أداء الدين عند القدرة أو في الوقت المتفق عليه، ولا يجوز المماطلة فيه، لما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: «مَطل الغني ظلم»، وحذر النبي عليه الصلاة والسلام من الدين وهو لا يريد السداد، كما في البخاري: «مَن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومَن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله»، بل قال النبي عليه الصلاة والسلام في رجل مات عليه دين: «هو محبوس بدَيْنه».

الإسراف في الديون:

لا يجوز الإسراف في الديون والقروض، ولا يجوز للإنسان أن يكون القرض هو الملجأ والوسيلة التي يتخذها عند أتفه الأمور، بل الواجب عليه عدة أمور:

أولاً: ألا يقترض إلا لضرورة ملحة، أو حاجة مُلجئة.

ثانياً: أن يسعى إلى تأخير حاجته، إن كان يمكن تأخيرها؛ حتى يتحصل على مال.

ثالثاً: أن يرشد نفقاته، وألا يضع ميزانية لاحتياجاته، وأن يوازن بين دخله واحتياجاته.

رابعاً: أن يوثق الدين الذي أخذه، وأن يشهد عليه، فإن هذا أدعى للسداد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} (البقرة: 282).

خامساً: أن يسارع في سداد الدين، كلما فاض عن احتياجاته مبلغ، ولا يتكاسل فيتراكم عليه الدين، ويعجز عن سداده.

إسقاط القروض:

يستحب للمقرض إن كان قادراً أن ينظر المقترض المُعسِر، وأن يعطيه مهلة أخرى للسداد عند العجز عنه، أو أن يُسقط عنه جزءاً منه، أو كله، فيعفو عنه، إن كان لا يقدر، وكان المدين غنياً؛ {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 280)، وبشر النبي صلى الله عليه وسلم المنظر أخاه بقوله: «مَن أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله».

وقد ورد في صحيح البخاري أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما، فخرج لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادى كعب بن مالك، وقال له: «يا كعب»، فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر، فقال كعب: قد فعلت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لابن حدرد: «قم فاقضه».

وإسقاط الدين أو الإصرار على المطالبة به تحتاج إلى فقه من الموازنة ودراسة للحالة، فربما كان المقترض في أمسّ الحاجة فتسقط عنه، ولو باحتسابها من الزكاة، على ما ذهب إليه بعض الفقهاء، بخلاف غيرهم، وقد يكون من الضرر إسقاط الدين عنه؛ لأن هذا يفسده.

Exit mobile version