وقفات تربوية مع الباحثين (4)

هذه مجموعة من الوقفات التربوية، من واقع خبرة عملية ونظرية تزيد على ربع قرن من الزمان، نقدمها للباحثين الشباب لكي يتم التواصل بين أجيال الباحثين في الأمة، كي تصوب بوصلة الجيل الجديد في طريق البحث، وتشحذ فيه الهمم، ويتجنب فيه هدر الوقت والجهد، ويتم البناء على ما سبق في هذا الطريق. ونصل هنا إلى الحلقة الرابعة من هذه الوقفات.

كن ممن يشملهم دعاء المؤمنين: “.. وتابعيهم بإحسان”..

تذكر دائمًا أنك سليل رسالة خاتمة وخالدة، فلا تركن للمثبطين ولا الناكثين ولا القاسطين ولا المارقين.. بل كن بجهدك المبذول ونيتك الصادقة وتَحَرِّيك مركز الأمة في بحوثك من الذين يشملهم دعاء المؤمنين في كل مكان صباح ومساء “.. وتابعيهم بإحسان”.

البحث: شاهد عدل لا شاهد زور

أيها الباحث: أنت شاهد عدل، لا شاهد زور.. فاهتم بشهادتك أن تكون عادلة، وأن يتوفر فيك خصائص “الشاهد العدل”.. وأن يتوفر في شهادتك عدلها وخيرها للإنسانية التي هي مستهدف تلك الشهادة، فلا يعتريك ضعف أو شبهة أو عوارض الأهلية فتسقط شهادتك، وتسقط رسالتك.

بوصلة الباحث “الأصيل” في حركته ونشاطه في درسه المعرفي

الباحث “الأصيل” هو الذي ينطلق من أصالة هذه الأمة، ويؤمن بجدارة منظورها الحضاري في إنتاج معرفة جديدة تخص علوم الإنسان والمجتمع، وفي ضوء ذلك أقترح له أن ينظر في الخطوتين الكليتين التاليتين عند درسه المعرفي والبحثي:

الخطوة الأولى: التعرض للنموذج المعرفي المعاصر بالوعي والاستيعاب والنقد، وهذا يتطلب:

1- الوعي بالسياق النفسي والاجتماعي والتاريخي للنموذج المعرفي المادي المعاصر الذي نشأ فيه.

2- الوعي بتحيزاته وادعاءاته ومقولاته الرئيسة.

3- الوعي بنتائجه من منظور شامل وكامل (ولا تبخسوا الناس أشياءهم).

4- النقد هنا يتضمن جانبين: الداخلي منه والخارجي.

الخطوة الثانية: التعرض للنموذج المعرفي الحضاري الإسلامي بالفهم والإدراك والاجتهاد فيه، وذلك من خلال عمليتين:

الأولى: الاكتشاف من الداخل والوقوف على ذخائر وكنوز هذا النموذج الحضاري، وهذا الاكتشاف لن يتحقق إلا بتكثيف تساؤلاتنا نحوه لاستخراج الإجابات الناجزة وهو جوهر قوله تعالى (أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) (سبأ: 46)، إن قيمة الباحث وقيمة النموذج المعرفي الذي ينتمي إليه في كثافة ونوعية التساؤلات التي تجد في ذلك النموذج القابلية للتفكير فيها واكتشاف الإجابة عنها في داخله.

العملية الثانية: إدماج مخرجات هذا النموذج مع مستجدات العصر، وردم الفجوة التي بُنيت في ظل الاستلاب الخارجي والجمود الداخلي للذات المسلمة عبر قرون التراجع والانطفاء الحضاري.

أجندتك البحثية السنوية

لا ينبغي لباحث أن يكون بلا أجندة بحثية سنوية، تشمل تصوره العام عن أعماله التي يخطط لإنجازها، وأقترح أن يكون ترتيب الأعمال في هذه الأجندة، وفقًا للخارطة التالية:

1- الأعمال “الضرورية” وتكون أكثر اتصالًا بعنصر الزمن أي التي يطلب إنجازها وقت محدد (وهي تأخذ ما يقرب من 80% من الجهد والوقت).

2. الأعمال المطلوبة “بشكل منتظم”، وتتطلب جهداً ووقتاً أقل (10-15%) تقريبًا، ويتم إنجازها بالتوازي مع الأعمال الضرورية.

3- الأعمال الضرورية الأقل تأثرًا بعنصر الزمن، وهي تحل لاحقًا في الترتيب بعد رقم (1).

4- الأعمال “الممتدة” التي يتوقع أن يتم إنجازها في أكثر من عام ويكتفى بالتسجيل فيها والنظر كل فترة زمنية حتى يأتي وقتها في خارطة العمل كأعمال ضرورية.

ساعة التفكر

عليك بساعة للتفكر اليومي بعد أن تنهي كل أشغالك البحثية وغيرها قبيل النوم مباشرة، تتأمل فيها يومك: ماذا فعلت؟ وماذا كان ينبغي أن تفعل؟ وماذا ستفعل غدًا؟ دَوِّن ما تستطيع تدوينه من أفكار في هذه اللحظات إن كنت غير مطمئن إلى تذكرها في الغد.. إن هذه المحاسبة اليومية تُعد أفضل طريق للتغذية الراجعة لأجندتك البحثية وتحسين أفكارك وإنجازك اليومي -بشكل ملحوظ- الذي يشكل في النهاية حصادك السنوي.

لكل علم مفاتيحه التي تفتح به وأبوابه التي تدخل إليه منها

من أصول حركة الباحث أن يدخل إلى العلم الذي يتخصص فيه من أبوابه، ولكل باب مفتاح لا بد وأن يمتلكه، إن مفاتيح العلم “مفاهيمه الرئيسة”، ولكل باب فيه “نظرياته” المفسرة، لا ينبغي أن يتصل الباحث بالعلم التخصصي له من آخره، أي من قضاياه ومشكلاته وهذه أغلب ما يفعله الباحث اليوم، إنك لن تستطيع كنه تلك القضايا، ولا منهجية التعامل الراشد معها دون امتلاك المفاتيح “المفاهيم الرئيسة”، والأبواب “النظريات المفسرة”، وإلا سينطبق عليك قول القائل: إنك تحرث في البحر، فلا البحر ينتهي، ولا قواك ستستطيع الاستمرار في هذا الحرث.

لا باحث بلا هوية

لا باحث بلا هوية، والهوية تستمد من المقومات الثابتة في ثقافتك وحضارتك، وتظهر هويتك في مشروعك البحثي غير معطلة للانفتاح على الآخرين، بل دافعة إليه باستحضار القوة الوجدانية والحضارية لتلك الهوية.. أما الباحث الذي ليس له هوية، فمثل ورق الشجر في الخريف يتساقط ببحثه، وربما تدوس عليه الأقدام.

لا تنشغل بالدوريات ذات معامل التأثير بل انشغل بذات المعامل الحضاري

من آفات النشر الجامعي الحالي ما يسمى بالدوريات ذات معامل التأثير، التي تدخل في ميدان “التجارة البحثية” التي صنعت في ميدان الترقيات الجامعية، إن أغلب هذه الدوريات لا تنشغل بالبعد العلمي والفكري بدليل تسرب كثير من البحوث المسروقة إليها تارة، والبحوث الضعيفة ضعفًا شديدًا بما لا يرقى إلى طالب جامعي تارة أخرى، والحل أنه لا بد لك أن تنشغل بالدوريات ذات المعامل الحضاري، الذي يتركز عملها حول المرتكز الفكري لتخصصك العلمي، وتخضع للتحكيم العلمي الفعال والصالح، وتزخر بالحوار العلمي الهادف بين بحوثها وباحثيها.

نوعان من البحوث: صامتة عاقرة ومتكلمة معطاءة

أما النوع الأول (الصامت- العاقر) هو الذي يسير على ما تعارف عليه بـ”خطة البحث” في مهدها الأول، التي وضعت في ضوء قراءة الباحث الأولية / ومن رؤية أقل خبرة/ ومن غموض في المنهج وأدواته/ ومن تقليد في الفرضيات.. ويظل الباحث على هذه الوضعية وينهي البحث على ما بدأه به.. فهذا الصامت العاقر الذي لا يؤدي إلى جديد لا للباحث ولا للبحث.. فالذي ينتهي بحثه وفقًا لرؤيته المبدئية التي خطها في أولى خطوات البحث يعني أنه لم تحدث له زيادة: في الفهم والإدراك والاطلاع والمنهج والأدوات والخبرة.. وما إلى ذلك.

أما النوع الثاني (المتكلم المعطاء) فهو مثل الكائن الحي، لحظة الميلاد عنده تختلف عن الطفولة المبكرة والصبا والرشد، رغم أنه هو هو نفس المولود.. ولكن لكل مرحلةٍ خصائصها حتى يصل إلى الفتوة والشباب ثم الرشد.. وهو ما يعني أن الباحث/ البحث في حالة من النمو والزيادة في كل وقت يمر عليه وهو مرتبط بالبحث.. فزيادة الاطلاع الذاتي تؤثر في نمو معرفته، وزيادة الاتصال بأساتذة العلم الحقيقيين تؤثر في نمو خبرته المنهجية.. وهذا وذاك وغيره من العمليات الدينامية التي تتم تؤثر في حالة ميلاد (البحث) وتساعده في النمو الراشد المعطاء للباحث ذاته وللبحث والفرع المعرفي الذي ينتمي إليه.

الوحي: الحياد والتجرد والاستقلالية

يحقق الوحي أعلى خصائص “العلم” المعاصر التي اختارها لنفسه، وهي: الحياد، والتجرد، والاستقلالية.. والوحي بذلك يحل إشكالية العلوم الإنسانية والاجتماعية، التي طردت من مجال العلم المعاصر لعدم تحقق هذه الخصائص فيها.

إن الاستناد إلى الوحي في الكشف عن الأحكام والمعايير الخاصة بالظاهرة الإنسانية والاجتماعية، والقدرة البحثية على صياغة هذه الأحكام والمعايير في صيغة قيم وأسس ونظريات يعتمد عليها في التحليل والتفسير والتحكم، هي مهمة الباحث الجاد، مستأنس في ذلك باجتهاد العقل الراشد في ذات القضية.

 

 

______________________________________

(*) أستاذ أصول التربية المساعد- جامعة دمياط- مصر.

Exit mobile version