مواطن مستجيب مطاوع متجانس!

يروي الدكتور الراحل زكي نجيب محمود في كتابه “قيم من التراث” تجربة له مع لجنة تم تشكيلها في منتصف الخمسينيات، كان هو أحد أعضائها في مهمة وضع مقرر دراسي يستهدف تكوين المواطن الصالح؛ فوجد في بداية الجلسة الأولى مذكرة أمام الأعضاء تحدد لهم سلفاً تعريف المواطن الصالح بأن يكون “مستجيباً، مطاوعاً، متجانساً في فكره وسلوكه مع مجموعة المواطنين”.

علق الأستاذ على هذا التعريف (طبعاً ليس داخل اللجنة ولكن بعدها بعشرات السنين) قائلاً: “كان المراد هو أن يكون المواطن الصالح مفتوح الأذنين أبكم اللسان”.

ويدور الزمن دورته، وبعد نحو ستين عاماً، وبالتحديد عام 2014 أقر المجلس الأعلى للثقافة بمصر برئاسة د. جابر عصفور، وزير الثقافة وقتها، ورقة العمل التي أعدتها اللجنة المشكَّلة برئاسة أ. سيد ياسين، وعضوية كل من: محمد سلماوي، وصلاح عيسى، وليلى تكلا، وجمال غيطاس.. لوضع السياسة الثقافية للدولة.

وجاء تعريف السياسة الثقافية في الورقة المذكورة كما يلي: “هي التي توجه الجوانب الثقافية اللامادية في المجتمع: المعتقدات، الفكر، الرأي، الفن، الأدب، القيم، العادات، التقاليد.. بهدف تحقيق أهداف وغايات تتفق وتوجهات الدولة الأيديولوجية”!

بين الأمس واليوم: نفس العقلية ونفس السياسة ونفس الدورة العبثية في ذات الساقية ونفس المنتج المطلوب للمواطن الصالح: مستجيب مطاوع متجانس.. متوافق مع توجهات الدولة الأيديولوجية!

لاحظ أسماء اللجنة ابتداءً من وزير الثقافة لرئيس اللجنة لأعضائها، ستجدهم أسماء لامعة لكتاب ومفكرين وأكاديميين عاصروا اشتراكية العهد الناصري، وساهموا في تطويع المواطن لأيديولوجية الدولة الاشتراكية، ثم كفروا بالاشتراكية حين كفر بها السادات، وبدؤوا يمارسون دورهم الجديد في تطويع المواطن حول الليبرالية الساداتية وديموقراطيتها ذات الأنياب، ثم صاروا أسماءً لامعة داخل حظيرة وزارة الثقافة في عهد مبارك، وتحت إمرة وزيرها فاروق حسني صاحب عبقرية مصطلح “حظيرة وزارة الثقافة”؛ فهو تعبير معبر جداً، سواء بمرجعية حظيرة القطيع، أو حظيرة الدواجن.

والوزير لم يترك تفسير تعبيره لخيال المستمع، فقام بنفسه بتفسير مصطلح “حظيرة وزارة الثقافة” في لقائه مع رئيس تحرير “روز اليوسف” عام 2003: “ومالها حظيرة الوزارة؟ أليست هي التي تدفع لهم -الضمير عائد على المثقفين المرضي عنهم من الوزارة- الأموال وتفتح بيوتهم؟ من يدفع لهم نفقات التفرغ؟ الحظيرة، ومن يتحمل تكاليف سفرهم ومؤتمراتهم ومعارضهم ونشر كتبهم وشراء مسرحياتهم وموسيقاهم واستعراضاتهم؟ من؟ الحظيرة، ولو قمنا بإغلاق هذه الحظيرة، لكانوا أول من يطالبون بإعادة فتحها”.

هذه الطبقة التي تحتكر لقب “مثقف” بكل مكوناتها من كتاب وأكاديميين وفنانين وإعلاميين، أرزاقها معلقة بأداء دورها في تطويع المواطن؛ ليكون مستجيباً متجانساً مطاوعاً لتوجهات الدولة الأيديولوجية، ينام على الجنب الذي يريح الحكومة، ويفكر بالطريقة التي تريدها الحكومة، ويعادي من تعاديه الحكومة ويصالح عدو الأمس بعد أن تصالحه الحكومة.

ومع قيام هذه الطبقة بدورها، ومع أدوات التوجيه التي تمتلكها الدولة، يتحول هذا المفهوم مع التكرار والتأكيد إلى عدوى تسري بين جماهير الشعب؛ فيتبنى هذا المفهوم جماهير من المستجيبين المطاوعين المتجانسين، ويستلمون مفاتيح الوطن، ويحتكرون ميزان الوطنية، ويمارسون بكل أريحية وقسوة إقصاء كل من يشذ عن مفهوم المواطن الصالح، ويعتبرونه خارجاً عن الجماعة الوطنية، ومعادياً للوطن، ومعول هدم للدولة، وينبغي إغلاق باب الوطن في وجهه، لضمان نقاء الجنس المستجيب المطاوع المتجانس القابع بهدوء داخل حظيرة الوطن.

Exit mobile version