تجديد الخطاب الديني.. بين القبول والرفض

مما لا شك فيه أن تجديد الخطاب الديني أصبح ضرورة ماسة تحتاج إليها الأمة في كل حقبة من الزمان؛ لما للزمان وتقادمه من أثر في البعد عن نصوص الوحي، فهماً وتنزيلاً، فالوحي كان سبباً في عزة الإسلام والمسلمين، والبعد عنه والأخذ بما علق به من شوائب بمرور الزمن؛ سبب في التخلف الذي تعيشه الأمة في وقتنا الحاضر، وإن أهم ما يجب الالتفات إليه عند الحديث عن “تجديد الخطاب الديني” هو التجديد بمفهومه الصحيح الذي بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم، سيما أن التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية الآن عظيمة الأثر، سواء كانت التحديات على مستوى الفرد أم على مستوى الجماعة والأمة.

تجديد الخطاب الديني أصبح ضرورة ماسة تحتاج إليها الأمة في كل حقبة من الزمان

وتأتي أهمية الحديث في هذا الموضوع من الآتي:

– أن التحديات التي تواجه الإسلام والمسلمين تجعل من الضروري تجديد الخطاب الديني.

– خطورة إبعاد الدين عن حياة الناس والمجتمع.

– بيان أن تجديد الخطاب الديني هو الحل الأمثل للتخلف الذي تعيشه الأمة الإسلامية الآن.

تأصيل المفهوم:

التحديات التي تواجه الإسلام والمسلمين تجعل من الضروري تجديد الخطاب الديني

التجديد لغة: نقيض الخَلَق والخَلَق: القديم البالي، فالجديد خلاف القديم، وجدد الشيء يجدده: صيره جديداً؛ أي جعله جديداً، أي حوَّل القديم فجعله جديداً(1).

فالتجديد على ذلك: هو جعل القديم جديداً، ورده إلى ما كان عليه أول أمره؛ فالتجديد يبعث في الذهن تصوراً تجتمع فيه ثلاثة معان متصلة:

– أن الشيء المجدد قد كان في أول الأمر موجوداً وقائماً وللناس به عهد.

– أن هذا الشيء أتت عليه الأيام فأصابه البلى وصار قديماً.

– أن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يَبْلى.

وقد استخدم القرآن الكريم لفظ “التجديد” في الحديث عن البعث بعد الموت وكيف أن الكفار يستبعدون أن يبعثهم الله تعالى خلقاً جديداً فقال تعالى: (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ) (السجدة: 10).

قال الإمام الطبري: “منكرين قدرة الله تعالى على إعادتهم خلقاً جديداً بعد فنائهم وبلائهم”، والمقصود أن تجديد الشيء هو إعادته وإرجاعه إلى ما كان عليه، ومن هنا يتبين لنا أن تجديد الدين لا يعني تغييره أو تبديله، وإنما يعني المحافظة عليه ليكون غضاً طرياً كما أنزله الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم.

والشيء إذا مرت عليه أحوال حتى صار قديماً فإنما يأتيه التغيير والاختلاف من أحد ثلاثة أوجه:

خطورة إبعاد الدين عن حياة الناس والمجتمع

– إما أن يُطمس بعض معالمه، حتى لا تتضح لمن ينظر فيها.

– وإما أن يُقتطع منه شيء؛ فتنقص بذلك مكوناته.

– وإما أن يُضاف إليه ويزاد فيه، حتى تختلف صورته.

والتجديد في تلك الأحوال يكون بإظهار ما طُمس، وإعادة ما نُنزع ونقص، وإزالة ما أضيف وأُلحق به.

فالتجديد على ذلك يكون بالعودة للمنابع والأصول عودة كاملة صافية، ودعوة للثبات على الحق وترك التقليد الفاسد القائم على الاتباع والمحاكاة على غير بصيرة، ومن هنا يتبين لنا أن التجديد عملية إصلاحية محافظة، وليس عملية تخريبية متفلتة، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الدين محفوظ من التغيير والتبديل؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث إلى هذا الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” (أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه الألباني)، وقد ذكر أهل العلم في بيان المراد بالتجديد عدة أقوال متقاربة المعاني، فمن ذلك: تعليم الناس دينهم، ومنه: تعليم الناس السنن، ونفي الكذب عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه: إظهار كل سنة وإماتة كل بدعة، ومنه: إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسُّنة والأمر بمقتضاهما، ومنه العمل على نشر الفهم الشامل للإسلام والعمل به، وكل هذه الأقوال تدور على معنى حفظ الدين على النحو الذي بلَّغه الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان من حيث حفظ اللفظ أو حفظ المعنى أو حفظ العمل.

تجديد الخطاب الديني هو الحل الأمثل للتخلف الذي تعيشه الأمة الإسلامية الآن

وعلى ذلك، فالتجديد المشروع هو إعادة الدين إلى النحو الذي كان عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإعادة الناس إليه على النحو الذي مضى عليه أهل القرون الثلاثة المفضلة، فيُنفى عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وغلو المتنطعين وتفلت الفاسقين، ويعود الناس إليه بالقبول والتلقي والانقياد والتسليم والتصديق والاتباع والتوقير والتقديم والفهم والالتزام والتطبيق.

ضوابط التجديد المشروع:

إن كل بناء يؤسس على غير أصول صحيحة أو من غير ضوابط واضحة فهو بناء منهار في نهاية أمره، وإن تطاول إلى عنان السماء، والتجديد من الأمور التي لا يمكن أن تتم بغير ضوابط صحيحة وواضحة، وإلا كان تخريباً ولم يكن تجديداً، وبالنظر إلى أن الهدف من التجديد هو نقل الدين من قرن إلى قرن، ومن جيل إلى جيل، وهو محاط بالحفظ والصيانة؛ بحيث لا يُزاد فيه ولا يُنقص منه، ولا يُحال بينه وبين قيادة الحياة الدنيا وتوجيهها والتي جاء لإصلاحها لتكون معبراً آمناً للحياة الآخرة، فإنه يمكننا أن نذكر عدة ضوابط لتحقيق هذا الهدف على النحو التالي:

أولاً: صفات المجدد: يمكننا أن نحدد بعض المواصفات المهمة التي يجب أن تتوفر فيمن أراد التجديد في الخطاب الديني، فمن ذلك:

التجديد المشروع هو إعادة الدين إلى النحو الذي كان عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم

– أن يكون من أهل الدين المؤمنين به على النحو الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

– أن يكون من المتفقهين فيه المتمسكين به في أقوالهم وأفعالهم، لا يظهر منه تهاون فيه أو خروج عليه أو تساهل وتفريط فيما دل عليه.

– أن يكون خبيراً بواقع الأمة عارفاً بعللها، وأن يكون محيطاً بالأحوال العالمية التي حوله والتي لها علاقة بأمته؛ حيث إنه لا يتحرك في فراغ.

ثم هو بعد ذلك ساع بكل همته باذل جهده في نفع الأنام، قال شمس الحق، شارح سنن أبي داود: “المجدد لا يكون إلا من كان عالماً بالعلوم الدينية، ومع ذلك يكون همه إحياء السنن ونشرها ونصر صاحبها، وإماتة البدع ومحدثات الأمور ومحوها وكسر أهلها باللسان، أو تصنيف الكتب والتدريس، ومن لا يكون كذلك لا يكون أهلاً للتجديد، وإن كان عالماً بالعلوم مشهوراً بين الناس مرجعاً لهم”(2)، وهذه الأوصاف لا شك أنها تُخرج العلمانيين والزنادقة والملاحدة والمبتدعة والأدعياء الذين يريدون تسلق هذه القمة العالية (التي لا يرقاها إلا أفاضل المؤمنين) بغير عدة ولا استعداد؛ فيخرج من ذلك أهل البدع؛ إذ كيف يجددون الدين وهم يسارعون في خرابه؟ وكيف يحيون السُّنة وهم عاملون على إماتتها؟ وكيف يمحون البدع وهم جادون في نشرها وترويجها؟ ويخرج من باب أولى المرتدون عن هذا الدين حتى ولو لم تكن ردتهم إلا عن بعض شرائعه لا عنها كلها؛ فمن تلفظ بالشهادتين فقط ثم هو بعد ذلك يحادد الله ورسوله، أو من أضاف إلى الشهادتين الشعائر التعبدية فقط بينما هو يعترض على الجانب الاقتصادي أو السياسي أو القضائي أو الاجتماعي ونحوه، فلا يمكن أن يكون من المجددين، وكيف يكون مجدداً وهو قد هدم أجزاء عظيمة من الدين؟ 

يجب أن يكون المجدد عالماً بالعلوم الدينية وهمه إحياء السنن وإماتة البدع

ثانياً: بيان الكتاب والسُّنة: القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة فيهما بيان كل شيء، فإذا انطلق التجديد من هذا الضابط كان التجديد من داخل الشريعة محكوماً بها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (النساء: 59).

ثالثاً: عموم الرسالة: رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن اتفقت مع الرسالات السابقة في الدعوة إلى عبادة الله تعالى إلا أنها انفردت بشيء مهم، وهو أن النبي كان يُبعث إلى قومه خاصة، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أُرسل إلى الناس كافة، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سبأ: 28).

رابعاً: لا اختلاف في الشريعة: الشريعة الإسلامية لا اختلاف فيها ولا تناقض؛ لأنها دين والدين من عند الله وليس من وضع البشر قال تعال: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (النساء: 82)، فما كان من عند الله لا يختلف ولا يُناقض بعضه بعضاً، فلا ينبغي أن تُضرب الأدلة بعضها بعضاً.

خامساً: قبول الشريعة كلها: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة 208)، وقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (الحشر: 7)، ولا يمكن للمرء أن يقوم بعملية التجديد إذا ترك جزءاً من الشريعة، وكيف يكون مجدداً وهو مضيع لبعضها؟ وعلى ذلك فليس من التجديد في شيء التمسك بالقرآن الكريم وحده وترك سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس من التجديد أيضاً قبول جزء من السُّنة وترك جزء آخر منها(3).

 

 

 

_____________________

(1) لسان العرب، مادة جدد.

(2) عون المعبود شرح سنن أبي داوود، (11/ 263).

(3) للمزيد انظر: كتاب “تجديد الخطاب الديني بين التأصيل والتحريف” للدكتور محمد بن شاكر الشريف.

Exit mobile version