العلاقات الأوروبية الروسية.. بين التصعيد وترك مساحة للحوار

تشهد العلاقات الأوروبية الروسية تصعيدًا في التوتر القائم منذ سنوات بيت الطرفين، لكنه تصعيد لا يصل إلى حد القطيعة بالنظر إلى المصالح الكبرى بينهما، ويؤشر في الوقت نفسه إلى تبلور دبلوماسية أوروبية جديدة تجاه موسكو والكرملين بدعم أمريكي ومن إدارة بايدن تحديدًا.

وتمثّل التصعيد في الخطاب السياسي من الجهتين في ظل تداعيات أزمة الحكم بالسجن على المعارض الروسي ألاكسي نافالني، الخصم السياسي للرئيس بوتين، كان موقف موسكو واضحًا في رفض أي تدخل في شؤونها الداخلية، في إشارة إلى السند الأوروبي الغربي للمعارضة الروسية، وتطور الأمر إلى أزمة دبلوماسية وطرد دبلوماسيين من الجهتين.

زيارة محفوفة بالمخاطر

من ناحيته، وظف الاتحاد الأوروبي الآلة الدبلوماسية للضغط على الكرملين، في هذا السّياق؛ تأتي زيارة جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، يوم 4 فبراير، إلى موسكو، التقى خلالها بمسؤولين في الدولة وعلى رأسهم وزير الخارجية الروسي، لم تكن زيارة سهلة، بل كانت “محفوفة بالمخاطر”، كما وصفها الملاحظون، لأنها الزيارة الأولى لممثل أوروبي رفيع منذ عام 2017م، كما أنها جاءت في أجواء متوترة على مستوى العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا خلال العقد الماضي.

وخلال هذه الفترة، شجب الاتحاد الأوروبي علنًا حكومة الرئيس فلاديمير بوتين بشأن مجموعة من القضايا، فعلاوة على القضايا الخارجية مثل أوكرانيا وجزيرة القرم وأخيرًا قضية المعارض الروسي، هناك القضايا ذات العلاقة بالتعامل الروسي مع أوروبا مثل التجسس والهجمات الإلكترونية والتدخل في الانتخابات والتسمم الكيميائي، الأمر الذي يفسّر اتفاق الدبلوماسية الأوروبية على شجب السلوك الروسي تجاه الاتحاد الأوروبي، وتحميل المبعوث الأوروبي رسالة إلى الكرملين تقوم على تبني نبرة أشد صرامة تجاه موسكو.

المنحى “السلطوي” للسياسة الروسية

لم يفلح جوزيب بوريل في مقابلة المعارض الروسي نافالني في السجن خلال زيارته إلى موسكو، وهو أحد المؤشرات على التوتر الكبير في العلاقات الأوروبية الروسية، وانعكس هذا التوتر على عرضه نتائج زيارته إلى موسكو على أعضاء الاتحاد الأوروبي، واعتُبر خطابه الأشد انتقادًا من طرف الاتحاد الأوروبي تجاه موسكو منذ أن ضمت روسيا إليها شبه جزيرة القرم عام 2014م وما نتج عن ذلك من عقوبات أوروبية وتوتر في العلاقة بين الطرفين، ومن بين المسائل التي ركز عليها بوريل في كلمته، المنحى “السلطوي” للسياسة الروسية.

وقد جاء في كلمته أن “الحكومة الروسية تسير في طريق سلطوي مثير للقلق”، ووصف حكومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنها “عديمة الرحمة” ومستبدة وخائفة من الديمقراطية، وقال أمام البرلمان الأوروبي: “يبدو أنه لا مجال تقريبًا لتطوير بدائل ديمقراطية، هم لا يرحمون في خنق مثل هذه المحاولات”، في إشارة إلى تعامل القيادة السياسية الروسية مع معارضيها، موضحًا أنه يعتقد بأن الكرملين ينظر إلى الديمقراطية باعتبارها تمثل “تهديدًا وجوديًا”، وطالب بالإسراع بإطلاق سراح المعارض ألاكسي نافالني، أما فيما يتعلق بعلاقة موسكو مع الاتحاد الأوروبي فقد اعتبر أن زيارته إلى موسكو عززت رؤيته بأن روسيا ترغب في الانفصال عن أوروبا وإحداث الفُرقة بين مكونات المنظومة الغربية، وبناء عليه؛ دعا إلى تشديد العقوبات على موسكو.

التهديد بقطع العلاقات

سارع الطرف الروسي إلى التهديد بقطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي في حال إقرار هذه العقوبات، مع اعتماد سياسة “التصعيد والتهدئة”، فقد صرّح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في لقاء صحفي بأن هناك إمكانية لقطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي إذا دفعت بروكسل في اتجاه العقوبات الجديدة المشددة، وعبّر عن ذلك بقوله: “نعم نحن مستعدون لفعل ذلك، رغم أننا لا نريد الانعزال عن الحياة الدولية، إذا أردت السلام فاستعد للحرب”.

ومثل هذه التصريحات لوزير الخارجية الروسي لافروف تعبّر، حسب الملاحظين، عن لهجة جديدة للدبلوماسية الروسية لم تشهدها العلاقة بين روسيا والاتحاد الأوروبي سابقاً.

بعد هذه التصريحات، يأتي الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف ليقول: إن تصريحات لافروف “قدمت خارج سياقها”، وليؤكد بأن بلاده تريد تطوير العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، مستدركًا بقوله: إذا أقدم الاتحاد الأوروبي على اتخاذ مسار قطع العلاقات فستكون موسكو مستعدة لذلك.

عقوبات “رمزية”

في ظل هذه التخوفات من التصعيد المؤدي إلى قطع العلاقات الأوروبية الروسية، مالت كفة الدبلوماسية الأوروبية إلى عقوبات “رمزية”، حيث وافق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي البالغ عددهم 27 وزيرًا في اجتماع، يوم الإثنين 22 فبراير، على معاقبة شخصيات روسية بارزة بدون استهداف المقربين من فلاديمير بوتين ومن النظام الروسي، وبرر بوريل النهج المختار في حديث لصحيفة “لو فيجارو”، بقوله: “يجب ألا نعاقب الناس لأنهم لا يعجبوننا ولكن لأنهم مرتبطون بالانتقادات أو التهم الموجهة إليهم”، مشيرًا إلى قضية المعارض الروسي، بحيث تم التركيز على هذه القضية دون التوسع إلى أركان النظام. 

ولهذا صرح دبلوماسي لنفس الصحيفة بأن العقوبات “إذا كانت ضرورية فذلك من الناحية السياسية كونها تهدف إلى منع الأنظمة من الإفلات من العقاب ودعم الضحايا الذين يشعرون بوجود عدالة في مكان ما”.

وتوافقه الباحثة في معهد الدراسات الأمنية بالاتحاد الأوروبي كارلا بورتيلا التي صرّحت لصحيفة “لاكروا” بأن “معاقبة المسؤولين قد لا يكون لها تأثير قصير المدى”، لكنها يمكن أن تكون بمثابة “تحذير”، بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدامها كذريعة للتفاوض حول شرط إزالة اسم من القائمة السوداء.

وتخلص الباحثة إلى أنه “على أية حال، فإن العقوبات ليست سوى أداة، ويجب دمجها مع إجراءات أخرى كجزء من سياسة متماسكة وبالتعاون مع الجهات الفاعلة الأخرى لتكون فعالة”.

حماية المصالح

إن اتخاذ عقوبات “رمزية” من طرف الاتحاد الأوروبي يفسَّر باعتماد معادلة الجمع بين الصرامة والبحث عن مساحة للحوار من أجل الحفاظ على المصالح الكبرى للكتلة الأوروبية.

ولم يكن من السهل اتخاذ مثل هذه العقوبات بالنظر إلى التفاوت في المقاربة بين أعضاء الاتحاد في موضوع السياسة الأوروبية مع موسكو بين داع للحوار وبين من يرى التصعيد.

فعلى سبيل المثال، طالبت بولندا بتشديد العقوبات على روسيا، وجاء في تصريح لوزير خارجيتها زبيجنيو راو أن روسيا “أظهرت باستمرار أنها غير مهتمة بالتعاون على أساس تبادل المنفعة مع الاتحاد الأوروبي”.

كما أن البرلمان الأوروبي وعدة دول مثل دول البلطيق وبولندا وفرنسا والدنمارك يطالبون بالعقوبات وتعليق مشروع خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” الذي سينقل الغاز الطبيعي الروسي إلى ألمانيا، الأمر الذي ترفضه برلين بشكل قاطع، حيث صرّح الوزير الألماني هايكو ماس قبل الاجتماع “بأنه يؤيد إعداد العقوبات، مع إبقاء إمكانية الحوار مفتوحة”، ويبرر موقف بلاده بقوله: “نحن بحاجة إلى مساعدة روسيا في عدد من النزاعات الدولية”.

وفي الواقع، هناك خشية حقيقية من أطراف أوروبية أخرى وعلى رأسها ألمانيا، أن تأتي العقوبات الاقتصادية بنتائج عكسية على أوروبا، لأن روسيا هي أيضًا بلد مصدّر كبير للطاقة في أوروبا.

بل إن بعض الأطراف عارضت المهمة الدبلوماسية لبوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، وذهابه إلى موسكو، بينما نجد في خطاب هذا الدبلوماسي الأوروبي تفاوتاً بين حديثه عن المنحى “السلطوي” للسياسة الروسية ورغبتها في الانفصال عن أوروبا وإحداث الفُرقة بين مكونات المنظومة الغربية من ناحية، واعترافه في المؤتمر الصحفي في ختام زيارته لموسكو بأن “هناك مواضيع يمكننا ويجب علينا العمل معًا بشأنها”، ومن ثم ذكر فرصة التعاون في مواجهة تحديات عالم ما بعد جائحة كورونا، واصفاً لقاح “سبوتنيك” الخامس بأنه بشرى سارة للبشرية، ويأمل أن تصدّق عليه وكالة الأدوية الأوروبية.

وكان رد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف: “لقد لاحظنا استعدادنا للتعاون العملي حيث توجد مصلحة مشتركة، وحيث يكون ذلك مفيدًا للطرفين”.

الدعم الأمريكي لأوروبا

ولعل تأرجح الموقف الأوروبي في التعامل مع روسيا مردّه الاختلاف في المقاربة الأوروبية بين من يجعل سياسة تبادل المصالح بين الطرفين الأوروبي والروسي على رأس الأولويات، وبالتالي فإنه يتم الحرص على حصر الخلافات وعدم تضخيمها وتجنب التصعيد في كل الحالات، علماً بأن هذه المصالح لها بُعد اقتصادي (مثل مسألة الطاقة) ولها بُعد إستراتيجي، خاصة ما له علاقة بقضايا الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وسعي أوروبا أن يكون لها موضع قدم كقوة عالمية ضمن القوى الكبرى.

أما المقاربة الثانية، التي تنحى إلى تصعيد اللهجة تجاه روسيا وتصعيد سياسة العقوبات ضدها، فهي تستند إلى الدعم الأمريكي وعودة التحالفات الأمريكية الأوروبية منذ تسلّم بايدن رأس السلطة في الولايات المتحدة، وهذا هو سبب دعوة الأوروبيين لوزير خارجية الولايات المتحدة الجديد أنطوني بلينكن لمناقشة غير رسمية، هي الأولى منذ أربع سنوات في قضايا لها علاقة بالعلاقات الثنائية وبالسياسة الدولية.

في هذا السياق، يندرج موقف دول أوروبية في مجلس الأمن الدولي من سياسة روسيا في أوكرانيا، حيث نددت هذه الدول إلى جانب الولايات باستمرار روسيا في زعزعة الاستقرار في بعض مناطق شرقي أوكرانيا وعرقلة تسوية الصراع المستمر في تلك المناطق منذ سنوات بين حكومة كييف والانفصاليين الذين تدعمهم موسكو، وجاء هذا التنديد في بيان مشترك أوروبي أمريكي خلال مؤتمر عقده مجلس الأمن الدولي، في 11 فبراير، بمناسبة الذكرى الثانية لاتفاقية “مينسك 2” بين موسكو وكييف برعاية أوروبية.

Exit mobile version