من المفارقات أن ترتفع الأصوات الشعبوية السياسية والحزبية لمحاربة الهجرة السرية والعلنية في أوروبا، في الوقت الذي تؤكد فيه التقارير والدراسات النقص المتزايد في نسبة السكان وارتفاع نسبة الشيخوخة، الأمر الذي يدفع إلى التفكير بجدية في ضرورة الاستعانة بالهجرة لضمان نمو أوروبا والحفاظ على دورها الاستراتيجي كأحد الأقطاب العالمية في ظل تصاعد قوى جديدة منافسة.
ارتفاع نسبة الشيخوخة وتراجع نسبة القوى العاملة
وتثبت العديد من الدراسات اتجاه الانخفاض السكاني في أوروبا، حيث يبلغ عدد سكان الاتحاد الأوروبي حاليًا 447 مليون نسمة، ووفقًا لتوقعات يوروستات، يمكن أن يرتفع هذا الرقم إلى 449 مليونًا بحلول عام 2025م، قبل أن ينخفض بداية من عام 2030م ليصل إلى 424 مليونًا عام 2070م.كما توضح تقارير المفوضية الأوروبية أن الاتجاهات الديموغرافية تختلف اختلافًا كبيرًا من منطقة في أوروبا إلى أخرى، ومن المحتمل أن تشهد بعض المناطق، خاصة المناطق الريفية في شرق وجنوب أوروبا، انخفاضًا سريعًا في عدد السكان.
ومن هنا تأتي الحاجة إلى سياسات نشطة، لا سيما في مجال التوظيف والصحة حتى لا يؤدي التغيير الديموغرافي إلى تفاقم الاختلافات داخل الاتحاد. ولهذا تعمل المفوضية على كيفية تقديم المزيد من الدعم للمسنين والمناطق الريفية الأكثر تضررًا.
ولكن الإشكال المطروح هو التقاء مسارين، مسار انخفاض السكان وخاصة ممن تتراوح أعمارهم بين 20 و64 عامًا (أي الأشخاص في سن العمل) بشكل مطرد، حيث سينخفض عدد الأيدي العاملة (العمالة) في أوروبا من 333 مليون شخص يعمل حاليًا إلى 242 مليونًا عام 2050م، أي بانخفاض قدره 90 مليونًا.. وهذا المسار مصحوب بمسار تصاعدي لنسبة الشيخوخة حيث سترتفع نسبة الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا من 20٪ عام 2019م إلى 30٪ عام 2070م، ويرجع ذلك أساسا إلى التقدم الطبي ونتيجته ارتفاع متوسط العمر، مما يجعل أوروبا تواجه مشاكل ديموغرافية كبيرة حيث ستؤدي هذه الحركة المزدوجة إلى زيادة نسبة الحاجة إلى تعويض النقص بين عدد الأشخاص في سن العمل (بين 20 و64 عاماً) وعدد الأشخاص فوق 65 عاماً.
تناقص حصة أوروبا السكانية عالميًا
وبحسب المختصين، يكون رفع التحدّي بزيادة معدل توظيف الأشخاص في سن العمل والذي يمكن أن يسهم في تعديل الوضع بشكل كبير. كل ذلك يدعو إلى الاهتمام بالمسألة الديموغرافية في أوروبا، وهو ما يؤكده جوزيب بورّال نائب رئيس المفوضية الأوروبية والممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي في الشؤون الخارجية والسياسية الأمنية. ويستشهد بقول عالم الاجتماع أوجست كونت “الديموغرافيا هي المصير”، الذي يعتبر التطور الديموغرافي مرادفًا للتحديات الكبرى التي تواجه أوروبا داخليًا وخارجيًا، مع إشارته إلى أن الثقل الديموغرافي ليس بالتأكيد العنصر الوحيد الذي يحدد أهمية الكيان السياسي، فالقدرة على إشراك جميع السكان الذين هم في سن العمل وكذلك القدرة على الابتكار عاملان مهمان لإحداث تفوق من الناحية الاقتصادية، ويقدّم مثالا على ذلك اليابان، وهو بلد عانى بالفعل من شيخوخة هائلة للسكان وتدهور ديموغرافي منذ عام 2009م، لكنه لا يزال مع ذلك قوة اقتصادية رئيسة، لا سيما في مجال التكنولوجيا العالية..
كما لم يعد يُقاس وزن الدولة – فيما يتعلق بالمسائل الجغرافيا الاستراتيجية- بشكل أساسي بمدى قدرتها على تجنيد عدد كبير من الجنود في ساحة المعركة.لكن تبقى الأهمية الديمغرافية قائمة خاصة بالمقارنة إلى التطور السكاني على المستوى العالمي، في هذا الإطار، يتحدث جوزيب بورال عن تناقص حصة أوروبا نسبة لعدد سكان العالم المتزايد. ففي عام 1950م، كان عدد سكان 27 دولة التي تشكل الاتحاد حاليًا يمثل 12.9٪ من سكان العالم. واليوم يمثل 5.7٪ فقط، وبحلول عام 2070م، سيمثل الاتحاد الأوروبي 3.7٪ فقط من البشرية. في حين من المتوقع أن يستمر نمو عدد سكان العالم من 7.8 مليار في عام 2020م إلى 10.5 مليار في عام 2070م، وفقًا لتوقعات الأمم المتحدة. وبعملية مقارنة لسنة2070م، سيمثل سكان الولايات المتحدة 3.9٪ فقط من سكان العالم، وفي آسيا بالنسبة للهند ستكون زيادة سكانها بـ 249 مليون نسمة من هنا الى عام 2070م. حيث تشير التوقعات الي ان الهند سيصبح عدد سكانها مليار و630 مليون نسمة عام 2070م، في حين ستمثل الصين 12٪ فقط مقابل 18.5٪ حاليًا أي بنقص 181 مليون نسمة، كما يتوقع أن يرتفع متوسط عمر السكان الصينيين، والذي يبلغ الآن 38 عامًا، إلى 49 عامًا في عام 2070م، وهو أعلى من المعدل في أوروبا (48 عامًا في نفس الوقت)، أما في القارة الافريقية، كانت منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى عام 1950م تمثل 7.1٪ فقط من سكان العالم، أي نصف سكان أوروبا، تبلغ هذه النسبة الآن 14٪، أي أكثر من ضعف النسبة في الاتحاد. وبحلول عام 2070م، من المتوقع أن يمثل عدد سكانها 27.4٪، أي أكثر من ربع سكان العالم وسبعة أضعاف سكان أوروبا.
أوروبا بحاجة إلى المهاجرين لضمان مستوى تطورها
أمام حقيقة الوضع الذي تتحدث عنه الأرقام والإحصائيات الرسمية القائمة على دراسات وتقارير علمية، ترتفع أصوات الخبراء والحكماء للبحث عن حلول ناجعة بعيدًا عن المغالطات السياسية، فهناك تحدّ كبير أمام اقتصاد بلدان أوروبا وأمام تمويل أنظمتها الاجتماعية والصحية على مدى العقود القادمة، خاصة في ظل أزمة كورونا وتداعياتها الثقيلة اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا.
وعلى عكس الأحزاب الشعبوية المتصاعدة التي تخوّف من الهجرة وتعتبرها مصدرًا للجريمة والإرهاب، يرى عدد من الملاحظين والسياسيين أن أوروبا بحاجة إلى المهاجرين لضمان مستوى تطورها، ومن بين هؤلاء، ماسيمو داليما Massimo D’Alema رئيس المؤسسة الأوروبية للدراسات التقدمية، والرئيس السابق لمجلس الوزراء الإيطالي (1998-2000م)، فقد كتب في صحيفة لوموند الفرنسية بأنه بالنظر إلى معدل الخصوبة البالغ 1.6 في أوروبا، فإن هذه الأخيرة ستحتاج – في غضون 30 عامًا – إلى أكثر من 30 مليون مهاجر، إذا أرادت الحفاظ على التوازن بين السكان العاملين وغير العاملين ولضمان استمرارية نظام المعاشات التقاعدية.
ويشدد ماسيمو داليما على ضرورة إعادة النظر في سياسة الهجرة والتي يجب أن تلتزم في نظره بنظام عقد اجتماعي واضح بين البلد الأوروبي المضيّف والمهاجرين، هذا العقد يقوم على الموازنة بين الحقوق والواجبات للطرفين.. فيما يتعلق بحقوق المهاجرين، يجب على الاتحاد الأوروبي الالتزام بتسريع عملية المواطنة، وهذا يعني الاعتراف الكامل بالحقوق الاجتماعية والمدنية للمهاجرين في البلد المضيف، والتي تشمل بالطبع حق التصويت، في المقابل، يجب على المهاجرين أن يلتزموا باحترام قوانين الدولة المضيفة لهم.
لكن من أجل تحقيق التعايش المشترك، يرى داليما ضرورة تجاوز الأحكام المسبقة وسياسة التخويف من الآخر ومسألة الصراع بين الأوربيين والأجانب، واستغلال الاشكالات والأسئلة التي تثيرها الهجرة على المستويات الاجتماعية والثقافية والدينية وحتى الأنثروبولوجية.
كما يجب على أوروبا حسب نظره احترام الثقافات التي يأتي بها المهاجرون، والقناعة بأهمية التفاعل الثقافي أو ما عبر عنه المؤرخ الفرنسي لوسيان فافر Lucien Febvre بـ “اختلاط الدماء”، والذي يؤدي إلى إثراء وتطوير الحضارة الأوروبية مثل أي حضارة أخرى، وبيّن بإن تجربة تركيا والحركات الديمقراطية التي تتطور في العالم العربي اثبتت أن الإسلام لا يتعارض على الإطلاق مع القيم الديمقراطية.
ومن خلال ما تقدم، يبدو أنه بقدر ما توجد قناعة بإشكالية شيخوخة “القارة العجوز” أوروبا، بقدر ما يوجد تردد في الاقرار بضرورة الاستعانة بالهجرة لضمان نمو أوروبا والحفاظ على دورها الاستراتيجي كأحد الاقطاب العالمية في ظل تصاعد قوى جديدة منافسة.
ويعود جوهر المشكل إلى أن حل الهجرة ارتبط بالمسألة الثقافية والدينية، ذلك أن نسبة مهمة من المهاجرين ينتمون إلى بلاد إسلامية ويحملون قيمًا وثقافات تختلف أحيانا مع القيم الغربية ذات الطابع المسيحي، ولذلك فإن الموجة الشعبوية تدفع نحو التصدي لهذه الهجرة بحجة التخوف على الهوية المسيحية للمجتمعات الأوروبية، ونتيجة لهذه النظرة الضيقة والقصيرة، يتم حرمان أوروبا من فرصة للنمو ومن الصمود أمام المنافسة العالمية الشديدة.