فرنسا.. انطلاق الحملة المسعورة والمزايدات السياسية ضد “الإسلاموية”

كانت المناظرة التلفزيونية، يوم الخميس 11 فبراير، بين وزير الداخلية الفرنسية دارمانان، ورئيسة حزب أقصى مارين لوبان، مؤشراً لانطلاق الحملة الانتخابية، استعداداً للاستحقاق الرئاسي في فرنسا المنتظر بعد 15 شهراً، في أبريل 2022، وكالعادة، يوظّف كل طرف الملف الإسلامي لمصالحه الحزبية، الأمر الذي يفسّر التركيز شبه الكلي خلال المناظرة على ما أسموه بـ”الإسلاموية”.

حسابات انتخابية

اختيار وزير الداخلية دارمنان ليواجه لوبان في أول مناظرة باعتباره إحدى الركائز الكبرى التي يعتمد عليها ماكرون في حكومته

فقد تمت الدعاية إعلامياً للمناظرة بين وزير الداخلية وزعيمة حزب “التجمع الوطني” الذي يمثل اليمين المتطرف الشعبوي في فرنسا، ويرى بعض الملاحظين أن هناك دوائر ومجموعات ضغط تسعى إلى حصر المنافسة السياسية بين لوبان، والرئيس الفرنسي ماكرون، للوصول إلى السيناريو الذي يتمناه هذا الأخير والمتمثل في الصورة التالية: دورة أولى ينجح فيها ماكرون، ولوبان؛ الأمر الذي يضمن فوز الرئيس الحالي في الدورة الثانية الحاسمة للانتخابات الرئاسية، وهو ما حصل في استحقاقين سابقين (شيراك- لوبان الأب عام 1995، ثم ماكرون- لوبان البنت عام 2017)، وفي كل مرة، تتسبب نتائج الدورة الأولى في هزة كبرى لدى الرأي العام ينتج عنها تكوين جبهة عريضة بمختلف المشارب والتوجهات السياسية من اليسار إلى اليمين الجمهوري إلى الخضر، من أجل التصدي لصعود مرشح أقصى اليمين إلى رأس السلطة.

وتميل جل القراءات إلى أن مارين لوبان ستفوز بسهولة في الدورة الأولى من الاستحقاق الرئاسي القادم (أبريل 2022)؛ لذا يسعى ماكرون بكل جهوده إلى أن يكون المرشّح الوحيد الذي سيواجه مرشّحة “التجمع الوطني”، وهذا يعني استبعاد كل الخيارات الأخرى (شخصيات حزبية منافسة له)، ولا يكون ذلك إلا بانتهاج سياسية واتخاذ قرارات يُفهم منها تبني أطروحات أقصى اليمين من أجل كسب أصوات مناصري مارين لوبان ومن يميلون إلى أطروحات حزبها، ومن أهمّها مسألة الهجرة والأمن والإرهاب وربط ذلك ببعض مظاهر التدين الإسلامي.  

وقد وقع الاختيار على وزير الداخلية جيرالد دارمنان لكي يواجه زعيمة حزب “التجمع الوطني” في أول مناظرة تلفزيونية، وتم تقديمه باعتباره إحدى الركائز الكبرى التي يعتمد عليها الرئيس ماكرون في حكومته الحالية برئاسة الوزير الأول كاستاكس، إلى جانب مارلان شيابّا، وزيرة المُواطَنة حالياً –وقبل ذلك كانت كاتبة دولة للمساواة بين الرجل والمرأة وضد التمييز- التي تربت في أحضان عائلة شيوعية تروتسكية وتتبنى العلمانية كأيديولوجية صارمة، وهذا الثالوث (كاستاكس، ودارمنان، وشيابّا) يُمثل ركائز المرحلة القادمة التي سيكون عنوانها التعبئة لدورة ثانية لماكرون، وقد أحاط الرئيس الفرنسي نفسه بهذه الشخصيات التي تحمل رؤية وخطاب يغلب عليهما طابع الصرامة، بما يلتقي مع توجّه حزب أقصى اليمين الشعبوي، خاصة فيما يتعلق بالملف الإسلامي.

لوبان كررت “الإسلاموية” عشرات المرات واعتبرتها أيديولوجية خطيرة تهدد الأمن الوطني وأصحابها إرهابيون يعادون القيم الغربية

“شيطنة” الصحوة الإسلامية

في هذا السياق، تأتي المناظرة -التي امتدت لساعة ونصف ساعة على “القناة الثانية الفرنسية”- بين وزير الداخلية، ومارين لوبان، وقد حرصت هذه الأخيرة على الظهور بمظهر الدفاع عن كتلة المعارضة وتحديداً اللوبي المسيحي الذي شعر بالقلق من فصل يتضمنه مشروع القانون محل النقاش في الجمعية الوطنية (البرلمان) تحت اسم “تعزيز احترام مبادئ الجمهورية”، والفصل الذي أثارته لوبان يتضمن مراقبة تعليم الأطفال في البيوت، علماً بأن عدداً من الأُسَر المسيحية والمسلمة تفضّل تعليم أبنائها في سن الطفولة مواد التعليم العام في البيوت، حتى يتسنَّى لها الحفاظ على أجواء تربوية مستقيمة إضافة إلى تعليم مبادئ الدين، وهو الأمر الذي لا تقوم به المدارس العامة، وانتقدت لوبان بشدة الحكومة لرفضها الاستماع إلى المعارضة بعدم تعميم القرار على جميع الأديان، بدل استهداف جهة معينة من تصفهم بالإسلامويين.

ومما يثير الانتباه في المناظرة التلفزيونية أن لوبان قامت بتكرار عشرات المرات كلمة “الإسلاموية” معتبرة إياها “أيديولوجية” خطيرة تهدد الأمن الوطني، وأصحابها هم الذين يقومون بأعمال إرهابية ويعادون القيم الغربية، لكنها بقيت تدور في خطاب “الشيطنة” دون أن تعطي تعريفاً ولا تفسيراً لما تقصده بالإسلاموية، فلا غرابة أن تتمحور المناظرة جلها حول الملف الإسلامي، وهو الملف المفضّل لحزب أقصى اليمين الذي يطمح للفوز بالرئاسة في الاستحقاق القادم، وواضح من خطاب رئيسة هذا الحزب أنها منزعجة من انتشار مظاهر التدين الإسلامي في المجتمع، في ظل الصحوة الإسلامية التي يشهدها العالم الإسلامي والأقليات المسلمة في الغرب، لذا لم تجد غير التخويف من هذه المظاهر بحجة أن وراءها رجال ونساء وشباب (تقول: إن عددهم 3 آلاف) يحملون أيديولوجية معادية للمجتمعات الغربية وقيمها وهم يخططون لتقويض هذه المجتمعات من الداخل، إما بالإرهاب أو بـ”فرض” أفكارهم وتصوراتهم وشعائرهم على المجتمع، وتعتبر الحجاب من مظاهر هذه الأيديولوجية، لذلك تقدمت باقتراح مشروع قانون لمنع الحجاب في الفضاء العام، وليس فقط في المؤسسات العمومية كما هي الحال اليوم.

ربط الإرهاب والإجرام بالهجرة

لوبان منزعجة من انتشار مظاهر التدين الإسلامي في ظل الصحوة التي يشهدها العالم الإسلامي والأقليات المسلمة بالغرب

وركّزت على أن هذه الأيديولوجية اكتسحت كل مفاصل المجتمع بداية من قيادة وسائل النقل العام  إلى الإدارات والشركات، إلى حدّ وجدت الإسلاموية، حسب رأيها، مرتعاً في بعض الأحياء التي أصبحت خارج القانون كما ترى، فالمقاهي ممنوعة على النساء، والفتيات لا يسمح لهن ارتداء أزياء قصيرة، مقابل انتشار لبس القميص الطويل في صفوف الشباب، واعتبرت الدولة وتحديداً سياسة ماكرون جدّ مقصّرة في التصدّي لهذا التهديد مثلما هي مقصّرة في السيطرة على موجات الهجرة السرية التي تمثل في رأيها بؤرة للعمل الإرهابي والإجرامي، لذلك كانت الحلول التي قدمتها حلولاً أمنية بامتياز: طرد وسجن وإغلاق مساجد وتضييق ومحاصرة ومحاكمات، وهي واعية بأن مثل هذا الخطاب الشعبوي يجلب لها أنصاراً أصابهم الرعب بسبب حملة “الإسلاموفوبيا” الممنهجة خاصة من طرف بعض وسائل الإعلام واسعة الانتشار، ولكي تمعن في إحراج خصمها أمام المشاهدين، عمدت إلى إبراز الهوة الشاسعة بين ما جاء في كتابه الأخير من طرح صارم عن “الانفصالية الإسلاموية”، ومضمون مشروع القانون الذي تقدّم به إلى البرلمان، وكان دارمنان قد أصدر في يناير كتاباً بعنوان “الانفصالية الإسلاموية”، ليشرح للرأي العام مشروع القانون الذي تقدّم به حول نفس الموضوع انسجاماً مع ما طرحه الرئيس ماكرون.

القناعات الدينية والحريات المكفولة بالدستور

حاول دارمنان الرد على لوبان بإبراز عدم موضوعيتها وكفاءتها في معرفة دقائق الأمور، وبالتالي إصدار أحكام ومواقف يغلب عليها الطابع الارتجالي دون تدقيق، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحريات التي كفلها الدستور، وقدّم إحصائيات لعدد المهاجرين وطالبي اللجوء السياسي في بلاده، كما أكد مراقبة المساجد، وردّ على لوبان بأنه يتابع جيداً ملف الإسلاموية التي حددها حسب رأيه في تيارين (السلفية والإخوان)، مشيراً إلى أنه تم توقيع ميثاق من طرف اتحادات إسلامية يضبط الخطاب الديني للأئمة ويحترم قواعد العلمانية.

من ناحية أخرى، حاول وزير الداخلية التفريق بين ما هو قناعة دينية لا يتدخل فيها القانون بل يضمنها الدستور، ومظاهر الانفصالية التي يعاقب عليها القانون الجديد، في هذا الإطار يتم التفريق بين المحجبات اللاتي يلبسن الحجاب عن قناعة -ولهن الحرية في ذلك خارج المؤسسات العامة- أما من تلبسه مكرهة فالقانون يحميها، مشدداً على أن الإسلام دين كبير ويجب عدم الخلط في أذهان الناس بين أغلب المسلمين المحترِمين لقوانين الجمهورية، وفئة متمردة على القانون، وليس خافياً ما لهذا الخطاب من خلفيات انتخابية لكسب أصوات كل من مسلمي فرنسا والمترددين من الفرنسيين في اختيار مرشّحهم ونسبة من مناصري مارين لوبان لصفّ ماكرون، في ظل معركة انتخابية يبدو أنها ستكون أشرس من سابقتها نتيجة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لأزمة كورونا.

Exit mobile version