بين الاستشراق والتغريب والاستغراب

يكتسب موضوع الاستشراق (ORIENTALISM) وما يقابله من استغراب أهمية كبرى؛ لما يتضمنه من معاني وخلفيات العلاقة التاريخية والمتجذرة بين الشرق والغرب، وتحديداً بين الإسلام وعالمه، والغرب كمعطى جغرافي أو ثقافي، حيث تراوحت هذه العلاقة بين التوتر والصراع والحوار بحسب تطوّر موازين القوى بين الطرفين بين الأمس واليوم.  

وقبل الحديث عن دور المستشرقين في التأثير المتبادل على العلاقة بين الطرف الإسلامي “الشرقي” والطرف الغربي “المسيحي”، فإنه يجدر التعريف بمصطلح الاستشراق.

الاهتمام الأوروبي بدراسة الشرق انطلق من خلفية مركزية أوروبية وهي أن أوروبا مركز العالم ومهد الحضارة

الاستشراق مشتق من كلمة الشرق أو المشرق التي تعرف بكلمة (ORIENT)، واستعمال هذا المصطلح من طرف الأوروبيين يحمل خلفية النظرة الأوروبية لتقسيم العالم التي سادت منذ القرون الوسطى وما زالت آثارها إلى اليوم، وتقوم هذه النظرة على اعتبار أوروبا “مركز العالم ومهد الحضارة”، إشارة إلى الحضارتين اليونانية (أو الإغريقية) والرومانية؛ حيث إنها تقع جغرافياً بين شرق (خليط من الأجناس والأعراق والأديان) يمثل الآخر المختلف حضارياً وثقافياً عن أوروبا، وغرب (أقصى ما وراء المحيط إشارة إلى العالم الأمريكي الجديد الذي هو نتاج الهجرة الأوروبية)، ثم إنها مثلت مركز الإشعاع الثقافي ومركز القوة والنفوذ حتى وقت قريب، بل إن عدداً من الأوروبيين ما زال يعتبر أوروبا إلى اليوم المحور السياسي والثقافي والإستراتيجي للعالم؛ فالاهتمام الأوروبي بدراسة الشرق أو المشرق انطلق من خلفية مركزية أوروبية.

أما الخلفية الثانية لهذا المصطلح، فهي أن أوروبا جزء من العالم الغربي “المتحضر”، وأن ما بقي من العالم يدخل في نطاق الشرق “المتخلف” حضارياً، وفي هذا الإطار، لم تعد كلمة “الشرق” محصورة في البعد الجغرافي المعروف، بل شملت الفضاءات المحيطة بأوروبا شرقاً وجنوباً، التي توافق مناطق العالم الذي انطلق منه الإسلام وتنتمي إليه الشعوب العربية المسلمة.

وهكذا، أصبحت كلمة الشرق ترمز في الذهنية الأوروبية إلى المشرق الذي اختُزل أساساً في العالم العربي- الإسلامي؛ وهو ما يفسّر النظرة الدونية للإسلام والمسلمين، التي عبّرت عنها أدبيات صنف من المستشرقين المتحاملين، خاصة في المرحلة الأولى من الاستشراق الذي نشأ في القرن الثاني عشر بدافع تبشيري من الكنيسة الغربية التي كانت غارقة في ظلام القرون الوسطى، واعتمدت سياسة تهجمية تحريضية على العالم الإسلامي كان من نتائجها حروب عسكرية “صليبية” وتهجمات أيديولوجية من خلال دفع بعض الغربيين إلى التخصص في دراسة الاستشراق لدوافع تبشيرية، كما أكد المستشرق الألماني المعاصر “رودي بارت” (1901 – 1983م) الذي ترجم القرآن الكريم إلى الألمانية؛ حيث يرى أن الهدف الرئيس من جهود المستشرقين في بدايات الاستشراق في القرن الثاني عشر الميلادي وفي القرون التالية له هو التبشير، والمتمثل في إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام، واجتذابهم إلى الدين المسيحي.

استعمل هذا الصنف من الاستشراق المتحامل عدة مداخل لتشويه صورة الإسلام والمسلمين، من بينها:

– مصطلح “السراسنة” (Sarrazins)، كمصطلح احتقاري للعرب.

– إسـاءة توظيف أسطورة “ألف ليلة وليلة” للإقناع بأن الرجل الشرقي (وفيه تلميح إلى الرجل المسلم) ينظر للمرأة كبضاعة.

– التشكيك في المصادر الأساسية للإسلام (القرآن والسُّنة) والتأكيد على قيامها على “تناقضات” جمة.

– تشويه سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ووصفه بنعوت غير لائقة بأشرف خلق الله.

ومن بين سلبيات الاستشراق المتحامل سيادة النظرة المشوهة عن الإسلام والتخويف منه (ما يعبر عنه اليوم بـ”الإسلاموفوبيا”) عبر التركيز على أحكام مسبقة، مثل: 

– المرأة التي اقترنت بفكرة الحريم.

– العنف الذي مهد لفكرة الإرهاب.

– فكرة الشرق الرومانسي، المهتم بالعاطفيات والخيال بعيداً عن العقلانية والعلم.

فئة من النخب بالعالم الإسلامي تأثرت بالأدوات الاستشراقية وباتت تستعملها لمحاربة الإسلام

ويعتبر هذا الفكر الاستشراقي مقدمة لتغريب الشعوب والنخب المؤثرة فيها، حيث لم يتم الاكتفاء ببث هذه النظرة المشوهة لدى الرأي العام الغربي منذ القرن الثاني عشر، بل تم تسريبها إلى العالم الإسلامي خلال المرحلة الاستعمارية؛ فتأثرت بها فئة من النخبة السياسية والمثقفة، التي باتت تستعمل هذه الأدوات الاستشراقية لمحاربة الإسلام والتهجم عليه.

علاوة على الدور الذي قام به عدد من المستشرقين بداية من القرن الثامن عشر خدمة للاستعمار وأهدافه من خلال الانغماس في دراسة المجتمعات الشرقية؛ عاداتها وتقاليدها وأنماط عيشها ومرجعيتها الفكرية والعقائدية؛ مما سهّل على المستعمِر تحديد حجم قدرة هذه الشعوب على الصمود والمقاومة، والبحث عن مداخل لمحاصرة قوى المقاومة ثم التصدي لها، ومن بينها التشكيك في رسالة الإسلام وقدرته على مواكبة التطور، وبذلك يكون دور هذا الصنف من الاستشراق مكمّلاً لدور فئة من المختصين في علم دراسة الإنسان (أنثروبولوجيا) الذين يذهب بعضهم ليعيش مع الشعوب التي يدرسها ويخالطها من أجل فهمها بعمق من الداخل.

وفي الوقت نفسه، كانت الأدبيات الاستشراقية تُدرج في إطار مناهج التعليم، فيكون لها دور مضاعف؛ التشكيك في الإسلام من ناحية، وتسريب الأفكار التي يحملها المستعمر حول النظرة للإنسان والكون والحياة من ناحية ثانية، وهو جوهر التغريب القسري للشعوب، وذلك بإقناعها بكونية القيم الغربية وصلاحية الفكر الغربي لكل زمان ومكان وما يترتب عنه من أنماط سلوكية ومعيشية في ظل إشعار النخب أساساً بعقدة النقص والتخلف أمام تفوّق الغرب ومدنيّته.

إلا أنه مقابل هذا الفكر الاستشراقي السلبي، برز الاستشراق المنصف الذي انطلق أصحابه من دوافع علمية لبحث الشرق والعالم الإسلامي وأهله ومرجعيته الدينية وعوامل قوته وضعفه، وعلى عكس النوع الأول، استطاع هذا الصنف من المستشرقين تقديم صورة ناصعة عن الإسلام عبر الإشادة بسمو الحضارة الإسلامية وبسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وبجلال القرآن الكريم، وقاد البحث الموضوعي بعضهم إلى الدفاع عن الإسلام وتقديم دراسات وبحوث علمية لمصادر الإسلام والتراث العربي الإسلامي، وكثير من هؤلاء المستشرقين لمسوا في اللغة العربية لغة ثقافة وحضارة وأدب وحضارة مثل المستشرق البولندي “كازيمارسكي” (1808 – 1887م)، والمستشرق الألماني “رودي بارت”، والمستشرق الفرنسي “جاك بارك” (1910 – 1995م)، وإشادتهم بالإسلام وحضارته لا يعني عدم التعرض لنقد عيوب المسلمين، ولكن ليس من باب الاستهداف والتهجم بقدر ما هو من باب التحليل الموضوعي لواقع المسلمين عبر مسارهم التاريخي.

ومن بين إيجابيات الاستشراق المنصف:

– التعرف على العيوب والتعود على النقد الذاتي.

– حث الكفاءات المسلمة على البحث والإصلاح.

– ربط جسور الحوار بين الشرق والغرب.

هناك من يعيد جذور الاستغراب (OCCIDENTALISM) إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، حيث ظهرت مدرسة فكرية أو حركة إصلاحية في روسيا تهدف إلى تبني القيم السياسية والاقتصادية والثقافية للغرب انطلاقاً من الشعور بمركب النقص جراء التخلف الذي كان سائداً في الإمبراطورية الروسية في ذلك الوقت، وبالتالي فهذا النوع من الاستغراب هو تغريب اختياري وليس قسرياً، كما حصل للشعوب المسلمة المستعمَرة، بل من المفارقات أن هذا التقليد الاختياري للغرب جاء من الطبقة الحاكمة ومن القياصرة مثل “بطرس الأكبر”، و”كاترين الثانية”؛ مما يفسّر موجة التقليد للغرب.

وأكثر ما كان يستهوي هؤلاء فكرة التنوير والحداثة وفلسفة العقلانية وروادها من أمثال “فولتير” وغيره، وكذلك مخرجات الثورة الفرنسية عام 1789م، ومناداتها بشعارات “الحرية والمساواة والأخوة”، واعتماد نمط عيش يقوم على المادية والرفاهية والذوق المتحضر.

ثم أخذ مصطلح الاستغراب فهماً حديثاً في ظل الاستقطاب الروسي الأمريكي بين المعسكرين الاشتراكي/ الشيوعي من جهة، والرأسمالي من جهة أخرى، حيث أصبح الاستغراب مرادفاً للنزعة الأطلسية (نسبة إلى الحلف الأطلسي) وتجاوز التحالف العسكري بين أوروبا وأمريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) إلى البعد الثقافي والحضاري، عبر التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.

كلما برزت الصحوة الإسلامية ارتفعت الأصوات المنادية بالاستغراب!

وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي في التسعينيات، أصبح الخصم الجديد هو الكيان الإسلامي عالماً وحضارة، وكلما برزت الصحوة الإسلامية؛ ارتفعت الأصوات المنادية بالاستغراب ولكن في اتجاهين؛ اتجاه انغلاقي على الفضاء الغربي بالمعنى القديم؛ أي الغرب الذي ينحدر من جذور يونانية لاتينية وله نزعة مسيحية تبشيرية اعتماداً على فلسفة مفكرين غربيين، مثل “فوكاياما”، و”هنتجتن”، ينظّرون لنهاية التاريخ وحتمية الصراع الحضاري وتفوّق الرجل الأبيض ويبشّرون بعولمة اقتصادية وثقافية وإعلامية تجعل من الغرب هو المحور، ويعبّر أصحاب هذا الاتجاه عن تخوفهم من صعود قوى إقليمية جديدة تهدد الهيمنة الغربية.

واتجاه انفتاحي يؤمن بكونية الفكر الغربي والقيم الغربية ولكن يأخذ بالاعتبار التحولات العالمية؛ وبالتالي يعبر عن تقبّله للتعددية الثقافية والحضارية.

في هذا السياق، يحتاج المسلمون خاصة المقيمين منهم في الغرب إلى دراسة موضوعية للغرب على غرار الاستشراق المنصف في إطار فقه الواقع من أجل حسن التعامل معه، وهذا النوع من الاستغراب هو السبيل لإرساء علاقة بينية تقوم على التدافع بمعنى التنافس الإيجابي بما يخدم التعايش الحضاري بين الشرق والغرب.

Exit mobile version