الدفاع عن العلماء والذب عن أعراضهم

إن لقالة السوء انتشاراً ورواجاً، وإذا ابتُلي بها شخص وهو منها بريء ليأتي عليه وقت يتمنى أن لم يكن يوماً بين الأحياء.

وإن قالة السوء ليُنفخ فيها حتى تصير ناراً عظيمة تأكل أعراض الناس وبيوتاتهم.

وقالة السوء يصنعها السفهاء، ويتلقفها من في قلوبهم مرض، وينشرها السذج بلوكها وكثرة الحديث عنها، ويميتها الورعون الأتقياء.

وقد ابتلي أفضل البشر بمن يطعن فيهم وينتقصهم ويرميهم بما هم منه برآء؛ فهذه مريم البتول الكاملة تُتهم بالفاحشة، فلا تملك إلا أن تقول: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً) (مريم: 23)، وأمنا الصديقة عائشة تتهم بصحابي جليل فينزل القرآن مبرئاً لها قائلاً: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: 11).

والعلماء لم يسلموا ممن يطعن فيهم، أو ممن يفتش عن عيوبهم، ولا يخلو إنسان خلا الأنبياء من معايب ومقابح.

وهذا الطعن قد يصدر من الأنظمة التي تريد تشويه صورة بعض العلماء عند العامة؛ حتى لا يؤخذ عنهم كلام.

وقد يصدر من أقرانهم حسداً من عند أنفسهم.

والآلة الإعلامية الضخمة تعمل على النشر والإذاعة والتضخيم والكذب والتلفيق، لا سيما أنها تحت سيطرة الأنظمة بالفعل أو بالقوة.

العلماء لم يسلموا ممن يطعن فيهم إما تشويهاً لصورتهم عند العامة من قبل الأنظمة وإما حسداً من أقرانهم

دور مشبوه

وقديماً كانت مجالس السوء والغيبة والنميمة تقوم بهذا الدور المشبوه، والعامة بطبعها عقولها في آذانها، تسمع قالة السوء فتنقلها مباشرة دون تمرير لها على العقل.

وقد وقع في ذلك أهل المدينة المنورة، فوصف ربنا تبارك وتعالى هذه الحالة بقوله: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور: 15)، لكنه سبحانه عاتب المؤمنين في هذه الحالة وأمثالها بقوله: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) (النور: 12).

يقول الطبري: «وهذا عتاب من الله -تعالى ذكره- أهل الإيمان به فيما وقع في أنفسهم من إرجاف من أرجف في أمر عائشة بما أرجف به، يقول لهم تعالى ذكره: هلا -أيها الناس- إذ سمعتم ما قال أهل الإفك في عائشة ظن المؤمنون منكم والمؤمنات بأنفسهم خيراً.

يقول: ظننتم بمن قُرف بذلك منكم خيراً، ولم تظنوا به أنه أتى الفاحشة، وقال بأنفسهم؛ لأن أهل الإسلام كلهم بمنزلة نفس واحدة؛ لأنهم أهل ملة واحدة»(1).

وجاءت السُّنة النبوية المشرفة لتؤكد دفاع المؤمنين بعضهم عن بعض، وذب بعضهم عن عرض بعض، كأن العرض المؤذَى هو عرضك أنت، والثواب العظيم على من يرد الأذية عن أخيه المسلم؛ فعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ذب عن عرض أخيه كان له حجاباً من النار»(2).

قديماً كانت مجالس السوء والغيبة والنميمة تقوم بهذا الدور المشبوه وحديثاً تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي

 وعن مسعر عن بن عون قال: وقع رجل في رجل فرد عليه آخر فقالت أم الدرداء: لقد غبطتك؛ إنه من ذب عن عرض أخيه وقاه الله -قال مسعر: نفح أو لفح- النار(3).

قال ملاَّ علي القاري: «يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَلَا يَقَعَ فِي عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ وَالطَّعْنِ وَالْقَذْفِ وَالشَّتْمِ وَالْغَمْزِ وَاللَّمْزِ وَالتَّجَسُّسِ عَنْ عَوْرَاتِهِ وَإِفْشَاءِ أَسْرَارِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ فَيَفْضَحُهُ، وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ، وَلَا يُمَارِيهِ، وَيَرَى الْفَضْلَ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى نَفْسِهِ، أَمَّا الصَّغِيرُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَعْصِ اللَّهَ وَهُوَ قَدْ عَصَى، وَالْكَبِيرُ فَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ عِبَادَةً، وَالْعَالِمُ لِعِلْمِهِ، وَالْجَاهِلُ لِأَنَّهُ قَدْ عَصَى اللَّهَ بِجَهْلِهِ، فَحُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْعَالِمِ أَوْكَدُ، وَلِذَا وَرَدَ: وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً، وَوَيْلٌ لِلْعَالَمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلِأَنَّ حُسْنَ الْعَاقِبَةِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَالْمَدَارُ عَلَى خَاتِمَتِهَا.

خَتَمَ اللَّهُ لَنَا بِالْحُسْنَى، وَبَلَّغَنَا الْمَقَامَ الْأَسْنَى»(4).

والخذلان كأس يشربه من يخذل أخاه؛ فعن جابر بن عبدالله، وأبي طلحة بن سهل الأنصاري قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ يخذل امرأ مسلماً في موضع تُنتهك فيه حرمته ويُنتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع يُنتقص فيه من عرضه ويُنتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته»(5).

السُّنة أكدت ضرورة الدفاع عن عرض المؤمنين وجعلت جزاء ذلك الوقاية من النار

 من حقوق العلماء

والعلماء من حقوقهم ألا ننساق خلف الإشاعات التي تثار حولهم، والتشنيعات التي تلقى جزافاً دون بينة؛ فقد ذَكَر رجلٌ عالماً بسوء عند الحسن بن ذكوان، رحمه الله تعالى، فقال: «مَهْ، لا تذكر العلماء بشيء، فيميت الله قلبَك»(6).

ويجب أن ينظر إلى تاريخ الطاعن وسيرته، وتاريخ المطعون فيه وسيرته، فإذا كان الغالب على الطاعن أنه من أهل الفسق أو الكذب أو الاستهتار بالدين، أو التفريط في العبادات والشعائر.. إلخ، فلا يصح أن يؤخذ كلامه مأخذ الجد، بل يرد في وجهه، ونجعله دَبْر آذاننا.

وإذا كان الغالب على تاريخ المطعون فيه أنه من أهل العلم والصلاح والتقوى، فلا يصح نقل الكلام الوارد فيه.

والطاعن في أهل الديانة والصلاح والعلم هو المتهم، يقول يحيى بن معين، رحمه الله تعالى: «إذا رأيتَ الرجلَ يتكلم في حماد بن سلمة، وعكرمة مولى ابن عباس، فاتَّهمه على الإسلام»(7).

إذا كان الغالب على تاريخ المطعون فيه أنه من أهل العلم والصلاح فلا يصح نقل الكلام الوارد فيه

 ومن أمثلة التشويه الذي يقوم به الإعلام للعلماء دون جريرة منهم في العصر الحديث –على سبيل المثال- ما تقوم به بعض المواقع ضد د. يوسف القرضاوي، ود. أحمد الريسوني (باعتبارهما أول رئيسين للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)؛ فعند مراجعة صياغة العناوين تجد أنه تشويه متعمد وطعن مبطن، في أمور قد لا يكون لهما علاقة بها، أو تتعلق ببعض أقاربهما فيزج باسمهما فيها زوراً وبهتاناً، أو تتعلق بأحدهما فيزج باسمهما معاً (لطبيعة العلاقة بينهما في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)، متغافلين عن قول الله تعالى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام: 164).

وقد خاضت منصات التواصل الاجتماعي في فترة من الفترات في مصر في عرض أحد الدعاة بعدما تناولت تقارير إعلامية عدة اسمه واتهمته بـ«الازدواجية» و«تعدد الزيجات» وتطرقت حتى إلى مؤهله العلمي.

وتولى كبر ذلك أحد المحسوبين على العلم فذكر أنه (هذا الداعية) “يعيش حالة من الهوس بالزيجات المستمرة، خصوصاً من الفتيات البكر..”.

والعجيب أنهم يتحدثون -إن صح الأمر- عن زيجات، لا عن مخادنات ومخاللات، فمهما بلغ عدد الزيجات والطلاقات وكان ذلك تحت مظلة الشرع فلا شيء ولا مذمة في ذلك، ولا دخل لأحد في الأمر من أساسه.

فهذا الحسن السبط، رضي الله عنه، يقول عنه ابن كثير: «وكان كثير التزوج، وكان لا يفارقه أربع حرائر، وكان مطلاقاً مصداقاً.

يقال: إنه أحصن سبعين امرأة.

وذكروا أنه طلق امرأتين في يوم.

وقد كان علي يقول لأهل الكوفة: لا تزوجوه؛ فإنه مطلاق.

فيقولون: والله يا أمير المؤمنين لو خطب إلينا كل يوم لزوجناه منا من شاء ابتغاء في صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم»(8).

لذا، فهذه الأمور وأمثالها على المجتمعات لفظها والاعتراض عليها ومهاجمة كاتبيها وناشريها ومذيعيها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) تفسير الطبري، 19/128.

(2) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف»، (5/230)، ح(25539).

(3) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف»، (5/230)، ح(25540).

(4) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، (7/3106).

(5) أخرجه أبو داود في «الأدب»، باب: «مَنْ رَدَّ عَنْ مُسْلِمٍ غِيبَةً»، (4/271)، ح(4884)، وقد حسن الألباني إسناده في «صحيح الجامع»، ص(992-993)، ح(5690).

(6) الصمت، لابن أبي الدنيا، صـ267.

(7) شرح أصول اعتقاد أهل السنة، للالكائي، 3/514.

(8) البداية والنهاية، (8/38) باختصار.

Exit mobile version