ميثاق مبادئ الإسلام في الإطار الفرنسي

منذ أن تم التوقيع، يوم الإثنين 18 يناير الماضي، على “ميثاق مبادئ الإسلام في الإطار الفرنسي” من طرف 5 اتحادات إسلامية كبرى في فرنسا وبحضور الرئيس ماكرون بقصر الإليزيه، والجدل داخل النخب المسلمة لم يتوقف بشأن هذا الميثاق، بين من يعتبره خطوة إيجابية في اتجاه إرساء روح الثقة بين الدولة والمؤسسات الإسلامية الممثلة لمسلمي فرنسا، وبين من يعتبره تطبيعاً مع الدولة العلمانية التي تسعى إلى تدجين الإسلام والمسلمين.

ضعف الشورى في التوقيع على الميثاق

فقد شهدت منصات التواصل الاجتماعي نقاشات “ساخنة” بين موافق ومعارض للميثاق، وتمحورت الانتقادات الموجهة للاتحادات الموقعة على الميثاق في مسألتين؛ مسألة أولى تتعلق بالشكل أو بملابسات التوقيع وتتمثل في التسرع في التوقيع على نص الميثاق وعدم توسيع دائرة الشورى في اتخاذ مثل هذا القرار الذي له ستكون له انعكاسات كبرى على مستقبل الإسلام في فرنسا حسب المعارضين، ومسألة ثانية تتعلق بمحتوى ومضمون الميثاق، وذلك بعدم إشراك الأئمة الذين ينبّهون إلى الاعتبارات الشرعية للقضايا التي تضمنها نص الميثاق حسب رأي هؤلاء أيضاً؛ وبالتالي، فإن النتيجة حسب المعارضين دائماً هي انحراف عن المسار الصحيح لفهم الإسلام وتطبيقه وتدجين الدين الإسلامي وأهله في هذه الديار ودفعهم إلى السير فيما تفرضه العلمانية على الطريقة الفرنسية.

ومن التساؤلات التي طرحت: لماذا لم تفرض مثل هذه المواثيق على اليهود والنصارى وغيرها من الاحتجاجات التي تضمنت خطاباً فيه أحياناً تخوين مبطّن للمؤسسات الموقعة على الميثاق؟ علماً بأن المعارضين نجد من بينهم المؤسسات الثلاث غير الموقعة؛ منظمتان ذات انتماء تركي هما “لجنة التنسيق للمسلمين الأتراك في فرنسا” و”ملّي غوروش”، وكذلك منظمة “إيمان وتطبيق” وهي مؤسسة تابعة لجماعة الدعوة والتبليغ. علاوة على بعض الأئمة الذين يخطبون في مساجد فرنسا.

        نص التوقيع وبه اسماء المؤسسات الموقعة

دعوة لمراجعات مضمونية

بالنسبة للمنظمات غير الموقعة، أصدرت بياناً، يوم 1 فبراير، في 10 صفحات، قدمت فيه ملاحظات عن مضمون الميثاق ودعت فيه الاتحادات الموقعة إلى القيام بالمراجعات الضرورية، حيث جاء في نص البيان: “نتمنى أن تساهم ملاحظاتنا في تحسين هذا الميثاق، حتى يتم الاعتراف به واعتماده من قبل الجميع، وباعتبارنا مؤسسات دينية منفتحة دائمًا على الحوار بروح بنّاءة، فسوف نستمر في تقديم مساهماتنا في الإعداد لإنشاء مجلس وطني للائمة”.

وواضح من روح البيان أنه يحمل خطاباً رصيناً يهدف إلى التوصل إلى حل جماعي توافقي يغلّب المصلحة العامة، علماً بأن هذه المؤسسات الثلاثة انسحبت قبل الجلسة الرسمية للتوقيع على الميثاق أمام الرئيس ماكرون بعد أن أعلنت عن موافقتها عليه، ولهذا يبدو أنها تحاول البحث عن صيغة تفاوضية لأن الأمر لا يتعلق بعلاقات بينية بين المؤسسات الإسلامية، وإنما بعلاقة هذه المؤسسات المتواجدة في “المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية” من ناحية والدولة الفرنسية من جهة أخرى، وهي تعلم جيداً أن كل هذا المسار الذي يبدأ بصياغة “ميثاق مبادئ الإسلام في الإطار الفرنسي” لينتهي إلى إقامة “مجلس وطني للأئمة” جاء في سياق خاص وبضغط من الدولة التي تسعى إلى التعامل مع مؤسسات تمثل مسلمي فرنسا ولو لم يكن تمثيلاً واسعاً وشاملاً، ولكن بشروط ومن أهمها تأطير الخطاب الديني ضمن مقاس العلمانية الفرنسية، كما تعلم هذه المؤسسات المنسحبة من التوقيع جيداً أن الطرف الأقوى في المعادلة هي الدولة، الأمر الذي يحتاج إلى موازنات كبرى بحثاً عن المصلحة العامة.

أصوات تدعو إلى المقاطعة

كل هذه الاعتبارات يبدو أنها لا تهم طائفة من الأئمة في فرنسا غير المنتمين للاتحادات الإسلامية الموقعة على الميثاق، ولهذا جاء خطابهم فيه نوع من التصعيد، وهناك دعوات صريحة في اتجاه التعبئة ضد الميثاق بخطاب فيه أحياناً تخوين للمؤسسات الموقعة، وقد بادر بعضهم بحملة تعبئة للتوقيع على عريضة للأئمة تحت عنوان “منبر الكرامة” جاء فيها: “في هذا الأسبوع، تمت مناقشة قانون الانفصالية في الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي)، وفي الوقت نفسه، ترغب الحكومة في فرض ميثاق غير مقبول على المسلمين في فرنسا، وخاصة على الأئمة.. إن عدم التوقيع لا يكفي، لأنه إذا لم يتم رفضه كله وجماعيًا، فسيتم فرضه عبر المحافظات والبلديات”، وتحدث أصحاب العريضة عن ضرورة إنشاء “كتلة موحدة” بدلاً من السماح لأقلية من المعارضين بالتعبير عن أنفسهم، “والذين سيكونون بعد ذلك محل استهداف من طرف وسائل الإعلام، ويتم التضحية بهم لأنهم يقولون بصوت عال ما نفكر فيه بشكل خافت”، ولكن هؤلاء المعارضين يدركون أن الدولة والإعلام بالمرصاد لهذه الأصوات لأنها من وجهة نظر رسمية وإعلامية قد تُؤوّل على أنها تمثل نوعاً من محاولة تقويض مشروع القيادة السياسية في إيجاد مرتكز تبني عليه تعاملها مع أطراف إسلامية قبلت بميثاق يمثل مرجعاً وإطاراً للأئمة في فرنسا، علماً بأن بعض التصريحات الرسمية تسير في اتجاه الصرامة مع المؤسسات الرافضة للتوقيع، فقد نُقل عن وزير الداخلية الفرنسي قوله: “لم يعد بإمكاننا مناقشة أشخاص يرفضون الكتابة على قطعة من الورق أن قانون الجمهورية أعلى من قانون الله”

ولهذا نبّه أصحاب المبادرة بالعريضة إلى “أن هذا المنبر يدعو إلى عدم معارضة قانون 1905 (المتعلق بالعلمانية) بل على العكس من ذلك يدعو إلى احترامه، وبالتالي المطالبة بإنهاء تدخل الدولة في الشأن الداخلي لإدارة الديانة الإسلامية، وتطبيق القانون الفرنسي على نحو متساوٍ من حيث حرية الضمير والمساواة في الحقوق والأخوة الإنسانية”.

حجج الموَقّعين على الميثاق وردهم على الشبهات والانتقادات

أمام هذا الجدل الواسع، تحركت الاتحادات الموقعة على الميثاق لتوضّح مواقفها من كل هذا المسار.

بل إن البعض ذهب في منحى تأصيلي وذكّر بموافقة النبي صلى عليه وسلم على صلح الحديبية رغم ما فيه من تنازلات مهمّة لكنها لا ترقى إلى التنازل عن جوهر الدين، ووصف القرآن الكريم هذا الصلح “فتحاً مبيناً” لأنه مهّد لفتح مكة، فكانت بعض التنازلات مدخلاً لتحقيق أهداف كبرى.

في هذا السياق، عُقدت لقاءات وورشات ومقابلات إعلامية تسير في اتجاه توضيح ملابسات التوقيع على الميثاق والتحسيس بأبعاده. في لقاء إعلامي، صرّح رئيس “المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية” محمد موسوي أنه كان يصعب توسيع عملية الاستشارة بشأن مضمون الاتفاق إلى 2500 إمام على المستوى الوطني لأن ذلك يعني كثرة المقترحات وتشعبها وبالتالي صعوبة التوصل إلى نص للميثاق محل اتفاق قبل أشهر، لذلك تم الاكتفاء بدائرة المؤسسات التابعة للمجلس، والتي تتواجد في صفوفها نخبة من الأئمة والعارفين بفقه الدين والواقع، وبالتالي تم اختصار الوقت في إنجاز المشروع فظهر إلى النور وتم التوقيع عليه، وقارن بين هذا المسار وبين عمل الحكومات التي تطرح مشاريع شبه كاملة ومفصّلة ثم يصادق عليها النواب.   

ومن أهم ما حصل في هذا الإطار لقاء إعلامي جمع كل من شمس الدين حفيظ، عميد مسجد باريس الكبير، وعمر الأصفر، رئيس مؤسسة “مسلمي فرنسا”، ويمكن اعتبار هاتين المؤسستين العمود الفقري لـ”المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية”، تلا هذا اللقاء -الذي ركّز على موقف المؤسسات ككيانات ممثلة للمسلمين- حوار إعلامي جمع أئمة مستقلين ومنتمين للمؤسسات أو الاتحادات الموقعة على الميثاق، وذلك من أجل استكمال الصورة من وجهة نظر شرعية ودينية.

الموقعون عن المؤسسات الخمس

نحن في دار عهد.. والعهود تُحترم

وجاءت حصيلة هذه اللقاءات مدعمّة للموقف الذي يرى في هذا الميثاق خطوة إيجابية بعد حوالي 20 سنة في اتجاه إرساء روح الثقة بين الدولة والمؤسسات الإسلامية الممثلة لمسلمي فرنسا، وتطمين المجتمع بأن المسلمين حفظة عهود، في ظل إعلام يشكك في احترام المسلمين للقوانين عن طريق تضخيم أعمال إرهابية مسؤول عنها قلة منحرفة.

أما من الناحية الشرعية، فإن عدداً من الأئمة والمتخصصين في العلم الشرعي قاموا بتقديم توضيحات من وجهة نظر شرعية لبنود الاتفاق، فقد شارك في برنامج حواري بعنوان “الإسلام في حوار” على “إذاعة المغرب الكبير” كل من الأئمة الشيخ خالد العربي ممثلاً عن مؤسسة “مسجد باريس الكبير”، والشيخ عبدالله السفيري ممثلاً عن “تجمع مسلمي فرنسا”، والشيخ با ممثلاً عن اتحاد الأفارقة، إضافة إلى والشيخ طارق (مستقل)، والشيخ العربي البشري الذي يعتبر من المراجع الشرعية الكبرى في فرنسا وهو أيضاً عميد المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بمدينة شاتوشينون بوسط فرنسا وعضو الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين.

وعمد المشاركون في هذا الحوار الإعلامي إلى الرد على الانتقادات في قضايا “ساخنة” تناولها الميثاق، من بينها احترام قانون الجمهورية ومدى انسجام ذلك مع شريعة الله، والمساواة بين الرجل والمرأة، والردة، والتدخلات الأجنبية في الشأن الإسلامي، والإسلام السياسي، والتفاعل مع قضايا المسلمين.

وشدّد المتدخلون على أن المسلم يخضع إلى قوانين البلد الذي يقيم فيه، وبالتالي فإنه عندما ينص الميثاق على أنه “ليس هناك عقيدة دينية تمنع من تطبيق القانون” فلا يعني ذلك الاختيار بين قانونين وتفضيل أحدهما على الآخر، إذ لم يتم في الميثاق تفضيل القانون الإلهي على قوانين الجمهورية ولا العكس، وإنما تم القطع مع الخطاب المزدوج، فالموضوع يتعلق باحترام تطبيق القانون السائد في فرنسا، وهو قانون الدولة المطبق على الجميع، مسلمين وغير مسلمين، والمسلمون في الديار الغربية هم في دار عهد (انتهى التصنيف القديم دار الإسلام مقابل دار الحرب)، والعهد يقتضي تطبيق القانون واحترامه، لأن احترام العهود والمواثيق من مبادئ الإسلام الذي يتصدى بشدة لخيانة العهود بل لا يجيز خيانة المحارب في حالة الحرب، والحديث النبوي واضح “لكل غادر لواء يوم القيامة يُرفع له بقدر غدره”، فما بالك إذا كنت مواطناً، فعهد المواطنة يجب أن يُحترم عبر احترام القانون، والميثاق موجود في ثقافة ومبادئ الإسلام مثل ميثاق المدينة الذي يؤسس لمبدأ المواطنة واتفاق نجران وصلح الحديبية.

حرية العقيدة مضمونة ولا مجال لتوظيف المساجد للسياسة

ثم إنه يقتضي التفريق بين ما تشمله الشريعة في فقه العبادات والمعاملات، فهذا يعود إلى القناعات الدينية للفرد وإلى حريته في العقيدة وتطبيقه الشعائر الدينية، وهو محل احترام إلى حدّ كبير في فرنسا، والدليل حرية النقاش في إطار حوارات إعلامية مفتوحة في مثل هذه القضايا وتبث على المباشر، وانتشار المساجد وحرية العبادة، والمسلم عليه أن يعترف بالجميل، فنحن لدينا قناعاتنا الدينية وفي نفس الوقت نخضع لتطبيق القوانين كبقية المواطنين، حتى وإن كان بعضها لا يعجبنا أو لا يقنعنا، وعلى سبيل المثال، هناك عدد من أرباب العمل يطبقون قانون 35 ساعة في الأسبوع في العمل رغم أنهم غير مقتنعين به، وهناك مجلس دستورية عليا ومؤسسات قضائية يمكن أن يلجأ إليها المواطن في حال التعدي على حقوقه.

أما ما تشمله الشريعة من فقه الحدود، فهذا يدخل في إطار الأحكام السلطانية، ويبقى من صلاحيات السلطة وموجه لأصحاب القرار، وهنا لا يمكن المطالبة في بلد علماني بتطبيق الحدود ولا بإقامة نظام خلافة، وهو ما أشار إليه الميثاق في “التصدي إلى الإسلام السياسي”، وهذا لا يمنع من مشاركة المسلمين همومهم والدفاع عن قضاياهم في إطار الأخوة الدينية، وإنما الإمام الذي يقف على المنبر، عليه أن يختار الأسلوب الأمثل والرصين، وتجنب التحريض على ما يمس الأمن العام ومصالح العليا للبلد، ويمكنه التحسيس بقضايا المسلمين والدعاء للمظلومين منهم والدعوة لجمع التبرعات لهم، لكن دون توظيف المساجد للدعاية السياسية أو لتيار فكري معين، كما من حق المسلم مشاركة قضايا المجتمع الذي يعيش فيه في إطار الأخوة الإنسانية، أما إذا أراد ممارسة السياسة –وهذا من حقه- فيكون ذلك خارج دائرة المؤسسات الدعوية وبآليات مختلفة، إذ لا يمكن ممارسة السياسية باسم الدين في بلد علماني.

الخروج من عقلية التآمر وخطاب الضحية

وفي مجال الحريات، يؤكد الميثاق على الحرية في الاعتقاد أو عدم الاعتقاد أو في تغيير الدين وهذا من صميم مبادئ الإسلام (لا إكراه في الدين)، كما يتحدث عن المساواة بين المرأة والرجل وهذا أيضاً من صميم الدين الإسلامي الذي يشدد على المساواة الإنسانية إذ لا فرق بين ذكر وأنثى، أما فيما يتعلق بالميراث، فإن القانون الفرنسي يسمح لأي مواطن الذهاب إلى كاتب عدل، وكتابة وصيته كما شاء بشرط موافقة الورثة، وبالتالي يمكنه تقسيم تركته حسب الشريعة الإسلامية، وإذا لم يحصل اتفاق بين الورثة فالقضاء هو الحكم، فعندئذ عليه أن يلتزم بقانون البلاد. 

وفي الخلاصة، اعتبر المشاركون في اللقاء الحواري حول الميثاق، بأن هذا الأخير يعدّ إنجازاً مهمّاً بعد عقدين من المحاولات لتنظيم العمل الإسلامي في فرنسا، لذا يجب الخروج من عقلية التآمر وخطاب الضحية، والاتجاه إلى الفهم المقاصدي وفقه الأولويات والمآلات، ودعوة الشباب إلى التكوين الشرعي من أجل بناء ثقافة النقد البنّاء.

ولعل من “مميزات” هذا الميثاق، أنه أحدث جدلاً بين النخب المسلمة، وأثار نقاشاً عميقاً بين الأئمة بالخصوص، ولعل كل ذلك سيدفع إلى مراجعات لعلاقة النص بالواقع في بيئة غربية علمانية، فالأمر كان موكولاً للأئمة في التعاطي مع هذه المسائل بطريقة فردية كل حسب تصوراته ومقارباته، واليوم أصبح لزاماً التفكير بعمق وبأسلوب جماعي منفتح على مختلف الآراء والمدارس الفكرية مع البحث عن مواطن الاتفاق والقواسم المشتركة بما يخدم المصلحة العامة.

Exit mobile version