ما بين السودان وإثيوبيا.. نداء لقيادة البلدين

على طول الحدود الأفريقية بين الدول تظل الخلافات الحدودية همّاً يؤرق الحكومات، ويقف عقبة أمام تطور العلاقات بينها؛ بما يخلقه من أزمات وبؤر توتر متباينة في تفاعلاتها وانعكاساتها على الأرض، فبعض الحدود شهدت صراعًا مسلحًا بين الدول، خلفت ضحايا وأدت إلى نزوح الآلاف، وأوجدت أوضاعاً مأساوية غاية في السوء، وبعضها يتحرك وفق ترمومتر العلاقة السياسية بين الدولتين، فتشتد حينًا حتى تكاد أن تشتعل الحرب ثم تهدأ، وبعضها يظل في خانة الخلاف البارد الذي لا يغادر أروقة السياسيين وأفواههم، ولا تجد له أثرًا إلا في الإعلام دون أن يخلف شيئًا على الأرض. rehaan.jpg

ويكاد يكون الخلاف على الحدود من أبرز نقاط الخلاف على المستوى الدولي وأكثرها وضوحًا في القارة الأفريقية التي تحوز على حدود رخوة، وبقدر ما فيها من تبادل للمنافع، إلا أنها حيز تنشط فيه الهجرة غير الشرعية وتجارة المخدرات والسلاح والاتجار بالبشر والتهريب للسلع والبضائع في نطاق حدودي طويل وإمكانات متواضعة مما يصعب من عملية ضبطها.

الحدود بين السودان وإثيوبيا

على عكس الكثير من الحدود التي تفصل بين الدول، فإن الحدود بين السودان وإثيوبيا تتميز بأنها مناطق جاذبة للاستقرار وعامرة بالحياة، فهي تتوفر على أراضٍ مرتفعة في إثيوبيا ذات تضاريس منحدرة في اتجاه السودان، تعقبها سهول منبسطة ذات مناخ مداري يتمتع بأمطار غزيرة جعلت من المناطق السودانية أراضي ذات خصوبة عالية غنية بالرسوبيات المتجددة سنويًا بفعل الأمطار وعوامل التعرية التي تساهم فيها طبوغرافية المنطقة في النطاق الحدودي بين الدولتين بنقل المواد الطبيعية من المناطق المرتفعة إلى المنخفضة وتجديد التربة سنويًا مما جعلها من أفضل المناطق للزراعة والاستيطان البشري.

وحركة الشعوب في تلك المناطق تتخذ مسارًا عكسيًا تبادليًا تجري في ذات مسار النيل من أعالي المرتفعات الإثيوبية في اتجاه السودان (الأراضي المنخفضة) نزولًا، وبعضها يتحرك عكس اتجاه التيار في اتجاه الهضبة الإثيوبية علوًا.

ولقد كانت تلك الحدود على مر التاريخ متنفسًا طبيعيًا لتبادل المنافع والتنقل والهجرة، وساهمت بدرجة كبيرة في توطيد العلاقات الشعبية بين الدولتين؛ بما خلقته من تمازج وتصاهر وتعارف وعلاقات إنسانية ظلت عصية على الانكسار حتى في أقصى اللحظات الحرجة العابرة في تاريخ العلاقة بين النظم السياسية الحاكمة في السودان وإثيوبيا.

ولطول الحدود الفاصلة بين الدولتين (تبلغ 727 كلم بعد انفصال جنوب السودان) مع اتساع رقعتهما واقتصاداتهما الهشة وانشغالهما بقضايا داخلية، لم تخلُ من توترات وصراعات وحروب أهلية، مع ثقة متبادلة بين الدولتين في مستوييها الرسمي والشعبي جعل من ملف الحدود ليس ذا أولوية قصوى في سلم أولوياتهما.

إلا أن هناك أطرافاً لم تكن تنظر بتقدير كبير لهذه الروابط الشعبية التي تشكلت عبر تاريخ طويل للدرجة التي اتسمت فيها بشيء من القدسية في عقل ووجدان الكثيرين الذين اختبروا بالتجربة والمعايشة معادن بعضهما بعضاً؛ مما شكَّل لديهم ذكريات ومواقف إنسانية نبيلة جعلت من شبح الحرب بينهما خيارًا مستحيلًا لا تسنده حيثيات موضوعية ولا تدعمه بيئة مناسبة لكي يشتعل فيها.

ليس بالنوايا الطيبة وحدها ينتهي الخلاف

إذا طرح سؤال عن رغبة الطرفين في الحرب من عدمها، وهل هما يسعيان حقًا للصدام ويحشدان له؟ فإن الإجابة عن هذا السؤال في المستويين الرسمي والشعبي ستكون بالنفي، فليس من عاقل يعرف معنى الحرب ومآلاتها ثم يختار المضي قدمًا في طريقها، والدولتان جربتا من قبل الحرب وما نتج عنها من دمار وانهيار بنيتهما التحتية وتدهور اقتصاداتهما والنزوح، فضلًا عن الكثير من الدماء التي أريقت والأطراف التي بترت والأسر التي فقدت أعزاء لها في ساحات القتال.

ولنا في ذلك تجارب مريرة، ففي السودان كانت أطول حرب أهلية في أفريقيا (1983م – 2005م)، وفي إثيوبيا التي شهدت صراعات متعددة منها ما وقع مع جارتها إريتريا (1998م – 2000م) رغمًا عن فظاعتها من ناحية، فإنها قادت إلى سلام بعد سنوات طوال وعجاف من الحرب.

ولقد كان لهذا السيناريو أو الدائرة الخبيثة (حرب – سلام – حرب) وبالعكس شيء من القدسية ينمي كل فترة وأخرى في دواخلنا نوازع الشر، فإن كانت النوايا السيئة هي التي تقود إلى ذلك، فإن النوايا الطيبة لا تكفي وحدها لنزع فتيل الأزمة في وسط إعلام ملتهب بالتصريحات المتناقضة والأدوار المتبادلة بين السياسيين والعسكريين التي خلت من الإرادة السياسية الصلبة والتحركات النشطة والتفكير الجريء المبتكر الذي لا ينظر للسحب السوداء العابرة، إنما للأفق البعيد والعلاقات الإستراتيجية ذات الفرص الأكبر لبلدين يتمتعان بإمكانات طبيعية وبشرية ضخمة.

فإن كنا في آخر المطاف نحكّم صوت العقل، ونعود للتهدئة، ونبسط أيدينا لبعضنا بعضاً بالسلام، فلماذا ندق طبول الحرب ونحشد أبناء الوطن لها بدلًا من أن نحشدهم للتنمية والبناء.

نداء لقيادة البلدين

إن القارة الأفريقية على الرغم مما نهبه المستعمر من خيراتها وكنوزها وتركها نهباً للأمراض والتخلف والصراعات والنزاعات المتعددة، فإن القارة مدينة له بشيء من الفضل بترسيم الحدود بين الدول رغماً عن مشقة المهمة في وقت لم تكن تكنولوجيا الأقمار الصناعية ونظم المعلومات الجغرافية وأجهزة المسح والرصد متوفرة، فضلًا عن بداوة وسائل النقل وقساوة البيئة وقتها، ومدينون كذلك لمنظمة الوحدة الأفريقية التي منذ نشأتها في العام 1963م قد أولت أهمية بالغة لمسألة الحدود، وجعلت مرجعيتها وفق ما خطه ميثاق المنظمة في فقرة المبادئ التي تربط العلاقات البينية بين الدول الأفريقية في المبدأ الثالث المقروء “احترام سيادة كل دولة في سلامة أراضيها وحقها الثابت في كيان مستقل” الذي تم التأكيد عليه في ميثاق منظمة الاتحاد الأفريقي عام 2001م في المادة الرابعة المتعلقة بالمبادئ في البند الثاني المقروء “احترام الحدود القائمة عند نيل الاستقلال”، وبذلك تكون المنظمة قد حسمت جدلًا كبيرًا ما كان لينتهي رغم وجود جيوب الخلاف في بعض المساحات والمثلثات الحدودية التي تحتمل تفسيرات لدى أطراف مختلفة عليها، فإن منظمة الوحدة الأفريقية الأم عام 1963م، والاتحاد الأفريقي المولود في عام 2001م قد نجحا في تحديد مرجعيات محددة يرد إليها الخلاف، وبدونها لاتسعت المرجعيات التي تشمل ممالك وسلطنات تمددت عبر التاريخ، ولشهدنا خلافات على أكثر من مائة كيان أفريقي، ولأوجدنا ذريعة للمستعمر من خلف الحدود ليدعي ملكًا لمستعمراته الأفريقية التي غادرها عسى أن يعود إليها من جديد.

وبقدر ما نحن مدعون لاستشراف المستقبل بالنظر إلى الفرص التي يمكن أن تتحقق، فنحن مدعون كذلك للنظر إلى الوراء لتاريخنا وتجاربنا المريرة التي قادت إلى تفاهمات وآليات أفضت إلى طي خلافات كانت نموذجاً في قارتنا في حسم النزاعات، ورغم ما ساهمت به مواقف داخلية تخص الدولتين رفضتا فيه التوسط في أكثر من ملف باعتبار ذلك يعد تدخلًا داخليًا في قضاياها يمس سيادتهما، قد أصبح أسلوبًا متبادلًا يفعله طرف ويقلده الطرف الآخر؛ مما أجهض محاولات التوسط لنزع التوتر، فإن الفرصة ما زالت قائمة في حكمة قيادة البلدين ومدى قدرتهما بإرادتهما الثنائية الوصول إلى حلول تنزع فتيل الأزمة.

وذلك ما يدعونا لتوجيه نداء لقيادة البلدين برغم الحشود المصطفة على جانبي الحدود، أن يجلسا على طاولة التفاوض والحوار وفق آلية جديدة تبني على ما سبق، وجدول زمني بمواقيت محددة لحسم الخلافات والتفسيرات المتكونة لدى كل طرف، وصولًا لحسم الخلاف الذي يقف عائقًا أمام علاقات إستراتيجية أقوى مما كانت عليه في أفضل حالاتها.

فمسؤولية الحكم التي تحتاج مع الحزم والعدل والقوة تحتاج كذلك إلى الحكمة التي توزن الأمور بميزان دقيق يوازن بين المصالح العاجلة والأخرى اﻵجلة طويلة الأمد التي لا تهزها الرياح والعواصف.. القيادة التي تفوت الفرصة على الذين يحققون منافع خاصة على حساب أرواح الأبرياء والشباب القوى الحية والرصيد الوطني الذي ندخره ليصنع الفرق ويحقق طموحاتنا وتطلعاتنا المشروعة.

Exit mobile version