مصلحون رحلوا في فبراير.. عبداللطيف وعبدالمجيد وداتوسيتاريو والغماري

الحمد لله الذي جعل في كل زمان بعد الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون مَنْ ضلَّ إلى الهدى، يوقظون بكتاب الله الغافلين، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، والمصلحون كبار في مبادئهم، هانت حياتهم في رفعة الدين وماتوا على ذلك، وحقهم علينا أن نستذكرهم؛ لندعو لهم ونسير على هديهم ونتلمس من نور عملهم وميراثهم.

 

خالد محمد عبداللطيف.. التصدي للطائفية

عبداللطيف وقف بجانب الثورة السورية ضد «الأسد» وقدَّم أحد أبنائه شهيداً ضد النظام و»داعش»

منذ أن نكأت الطائفية سورية والعلماء في محنة واضطهاد، وكان منهم الشيخ خالد محمد عبداللطيف السعدي، الذي ولد بمدينة تل رفعت شمالي حلب، في 18 أكتوبر 1943م، ونشأ بكنف أسرة مسلمة متعلمة ملتزمة بأحكام الإسلام، وتدرج بمراحل التعليم المختلفة حتى حصل على شهادة الليسانس من كلية الشريعة بجامعة دمشق عام 1976م، قبل أن يعمل معلماً في العديد من المدارس منذ عام 1961م.

كان لوقوفه في وجه الظلم تأثير عليه؛ فقد سجن لمدة 26 يوماً عام 1969م بتهمة إهانة المنطلقات الفكرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وإعطاء الطلاب بعض الأناشيد الإسلامية، ثم اعتقل لمدة 7 أشهر عام 1979م، وأفرج عنه في مارس 1980م، إثر المظاهرات التي عمت مدينة حلب، وبعد 45 يوماً أعيد اعتقاله ومكث في السجن 12 عاماً بين سجني تدمر صيدنايا، وقد تعرض خلال فترات سجنه للتعذيب الشديد، وكان صابراً محتسباً، وخرج من السجن عام 1992م مجرداً من حقوقه الوظيفية والتعويضية.

اتصف الشيخ بالتواضع، وحسن الخلق، وطيب السريرة، ولطف المعشر، وكانت لديه طاقة كبيرة على الصبر وهدوء الأعصاب، وقد أتم حفظ القرآن الكريم كاملاً في السجن، ولديه أكثر من إجازة في القراءات القرآنية، وكان من أشد المحافظين على صلاة الفجر رغم كبر سنه.

وقف بجانب ثورة السوريين عام 2011م ضد بشار الأسد حتى قدَّم أحد أبنائه السبعة (يمان) شهيداً ضد النظام وضد عصابات «داعش» بسورية.

وفي مدينة كلس جنوب تركيا، رحل الشيخ خالد مساء يوم الأحد 28 جمادى الأولى 1440هـ/ 3 فبراير 2019م.

 

حلمي عبدالمجيد.. المجاهد الصامت

ربما لا يعرفه كثير من الناس، إلا أن حياته كلها كانت محوراً لأحداث تاريخيه مهمة، رغم صمته وقلة حديثه، إنه المجاهد محمد حلمي عبدالمجيد محمد إسماعيل، الذي ولد في 14 ربيع الأول 1337هـ/ 16 يناير 1919م في قرية شبرا سندى بمركز السنبلاوين في محافظة الدقهلية، بدلتا مصر؛ حيث كان والده أحد محبي العمل الإسلامي، فحرص على حسن تعليمه حتى تخرج في كلية الهندسة بجامعة الملك فؤاد الأول (القاهرة حالياً) عام 1939م.

يعد من أوائل طلاب جماعة الإخوان المسلمين بالجامعات؛ حيث تعرف عليها عام 1938م، ولصفاته التي تميز بها أصبح أحد القادة حول الأستاذ حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان، وانضم إلى التنظيم الخاص في فترة مبكرة، وكان أحد الأفراد الذين شاركوا بالحرب ضد اليهود بفلسطين والإنجليز بالقنال.

اختير في أول هيئة تأسيسية للإخوان عام 1945م، كما رُشح لعضوية مكتب الإرشاد عام 1948م إلا أنه رفض، واعتقل ضمن عدد من قادة الإخوان بعد حلها عام 1948م.

كان شخصية محورية فترة المستشار حسن الهضيبي خاصة في الأزمة بينه وبين النظام الخاص؛ حيث أشرف على النظام وفق أطر وقوانين الجماعة وعلانيته والبعد به عن العنف، وتعرض للاعتقال فترة طويلة في عهد عبدالناصر حتى خرج في السبعينيات، وكان أحد الدعائم التي قامت عليها الجماعة في هذه المرحلة، وظل ضابطاً لإطار الجماعة فترة حياته حتى رحل.

يعد من أوائل مؤسسي بنك فيصل الإسلامي المصري، وكان عضواً بمجلس إدارة البنك، وعضواً بالهيئة التنفيذية للإدارة منذ أول مجلس إدارة للبنك عام 1979م، ومن مؤسسي بنك التقوى وعضو مجلس إدارته منذ تأسيسه عام 1988م، كما أسس دار القرآن الكريم بمسقط رأسه التي تفرع عنها ما يزيد على 57 مكتباً لتحفيظ القرآن.

عمل في أبحاث أساسات المنشآت الكبيرة بمصر، وفي مشروع توسيع الحرم النبوي الشريف عام 1953م، ومدير عام المشروعات الكبرى، مثل مطار القاهرة الدولي، وتوسيع قناة السويس، ومشروعات سيناء، وشارك في تأسيس شركة المقاولون العرب بمصر، وفي إنشاء جميع فروعها الخارجية، ثم تركز عمله مديراً عاماً لمشروعاتها بليبيا والسعودية والكويت وأبو ظبي، وكان عضواً بمجلس إدارة الشركة الأم ونائباً لرئيس مجلس إدارتها، وبعد سن التقاعد عين مستشاراً فنياً للشركة.

منح وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى عام 1975م، كما منح وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1980م، وله العديد من المؤلفات الإسلامية جمع بعضها تحت اسم «مختارات إسلامية».

رحل يوم الأربعاء 17 ربيع الآخر 1433هـ/ 27 فبراير 2013م، وشيعه الآلاف من محبيه وتلاميذه.

 

محمد ناصر.. ووحدة إندونيسيا

داتوسيتاريو كرَّس جهوده في مواجهة التغريب والتنصير والشيوعية الذين تحالف معهم سوكارنو بإندونيسيا

يظل المصلحون من هذه الأمة حجر عثرة أمام دعوات تشرذمها وتفتتها، ومن هؤلاء الداعية د. محمد بن ناصر بن إدريس داتوسيتاريو الذي ولد في حي آلحان بانجانج بقرية جمباتان بروكير التابعة لمحافظة سومطرة الغربية بإندونيسيا، في 17 يوليو 1908م، كان والده من كبار علماء المسلمين بإندونيسيا، وحرص على حسن تربيته وتعليمه؛ فجمع بين الدراستين الدينية والحكومية، فنال الإجازة من كلية التربية في باندونج.

عانى منذ طفولته من عنصرية الاستعمار؛ فانخرط في حركة الشباب المسلمين، وتعرف على الزعماء المعادين للاستعمار الهولندي والمهتمين بحركة الاستقلال.

نال الدكتوراه الفخرية من الجامعة الإِسلامية في جاكرتا، وتقلد وظائف متعددة، ثم عُيِّن مديراً لإدارة التربية في العاصمة الإندونيسية، وفي عام 1946م أنشأ حزب «ماشومي»، وهو اختصار لمجلس شورى مسلمي إندونيسيا، وشغل منصب وزير الإعلام لمدة 4 سنوات.

في هذه الفترة أُطلق مشروع هولندي بأن تتكون إندونيسيا من عدة دول كونفدرالية، وقد رفض د. محمد ناصر هذا المقترح، وقدّم مشروع «إندونيسيا الموحدة» الذي وافق عليه 90% من أعضاء ماشومي والشعب، وفي عام 1950م طُلب منه تشكيل الوزارة، فأصبح رئيساً للوزراء، ولكنه اصطدم مع الرئيس سوكارنو، فاستقال من رئاسة الوزارة قبل أن يُكمل السنة، وبقي رئيساً لحزب ماشومي وعضواً في البرلمان إلى عام 1958م.

كرس جهوده في مواجهة التغريب والتنصير والعلمانية والشيوعية الذين تحالف معهم سوكارنو، وعرضه ذلك لحل حزب ماشومي واعتقاله عام 1961م، واستمر في السجن حتى الانقلاب على سوكارنو عام 1965م.

أنشأ د. محمد ناصر وإخوانه بعد خروجهم من السجن «المجلس الأعلى الإندونيسي للدعوة الإسلامية»؛ للاهتمام بتربية الجماهير وتوجيه الشباب وإعداد الدعاة، وانتشرت فروعه في جميع أنحاء إندونيسيا، وفي عام 1967م تمّ اختياره نائباً لرئيـس المؤتمر الإسـلامي العالمي بباكستان، وله الكثير من المؤلفات.

انتقل إلى رحمة الله يوم 15 شعبان 1413هـ/ 5 فبراير 1993م، بجاكرتا.

 

عبدالله بن محمد الغماري.. الفقيه المحدّث

الغماري ولد بالمغرب واعتقل بمصر ثم أفرج عنه ورجع لبلده وترك نحو 100 مؤلف في صنوف العلم الشرعي

ولد العالم عبدالله بن محمد بن الصديق الغماري الحسني بمدينة طنجة بالمغرب، آخر يوم من جمادى 1328هــ/ 1910م، ونشأ في أسرة إدريسيّة النسب مشهورة بالعلم والورع، حفظ القرآن الكريم بروايتي ورش وحفص، كما برع في إتقان الرسم القرآني، ونبغ فيه حتى كان مرجعاً يُلجأ إليه فيه كبار القرَّاء.

كان والده يدربه على البحث وأخذ العلم من مظانه، فرحل عام 1343هـ/ 1924م إلى فاس لاستكمال دراسته، والتحق بجامع القرويين؛ حيث قرأ النحو والفقه، وسافر إلى مصر عام 1349هـ/ 1930م، والتحق بالجامع الأزهر وحصل على العالميّة الأزهريّة عام 1361هـ/ 1942م.

اتصل بالجمعيات الإسلامية بمصر، وكان على علاقة طيّبة بالشيخ حسن البنا، ووالده الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا، وجماعة الإخوان المسلمين.

نشر في العديد من المجلات الإسلامية، واعتبر حافظ العصر، إذ كان يستظهر أكثر من عشرة آلاف حديث بأسانيدها، ومعرفة رجالها.

اعتقل ضمن علماء الإخوان بمصر عام 1959م، وظل في السجن حتى عام 1969م، وتعرض للتعذيب الشديد، ورجع إلى المغرب عام 1390هـ/ 1970م بعد الإفراج عنه، فاستقر بمدينة طنجة خطيباً بالزاوية الصديقية، ومدرساً للعلوم الشرعية بها.

ترك ما يزيد على 100 مؤلف في صنوف العلم الشرعي، وتوفي يوم الخميس 19 شعبان 1413هـ/ فبراير 1993م، ودفن في الزاوية الصديقية بجوار والده ووالدته بطنجة.

 

 

_____________________________________________________________

1- عمر محمد العبسو: الشيخ الداعية خالد محمد عبداللطيف، رابطة العلماء السوريين، 25 فبراير 2019م،

2- حلمي عبدالمجيد: إخوان ويكي،

3- سوهيرين محمد صالحين، ناصر يوسف: محمد ناصر السيرة الفكرية والمسيرة السياسية، طـ1، (العبيكان، السعودية، 2020م).

4- فاروق حمادة: عبدالله بن الصديق الغماري الحافظ الناقد، طـ1(دار القلم- دمشق- 2006).

Exit mobile version