من البرازيل واليونان إلى فنزويلا.. قرابين على مذابح قروض الاستعمار

يفقرونهم فيقرضونهم، ثم يتحكمون في قراراتهم، وفي النهاية وإن رحلوا بجيوشهم فهم باقون في كل تفاصيل حياتهم، مستعمرون يمصون دماء الشعوب بمؤسساتهم النقدية الربوية.

تلك هي معادلة الاستعمار الجديدة، بعد عقود من استعمار الجيوش الذي لم يعد السياق يحتمله.

فعلى مدار سنوات طويلة، كانت الدول تتعثر، وكثيراً ما كانت الديون هي الحل الوحيد لإنقاذ هذه الدولة أو ذلك الكيان الاقتصادي الضخم من عثرته، وكلما اشتدت الحاجة إلى ذلك، كان الحل الأول هو صندوق النقد والبنك الدوليين.

فكيف طأطأت هذه المؤسسات رقاب الدول وتحكمت في قراراتها؟ وما الدول التي عانت ويلات هذا الإقراض؟ وهل من بدائل يمكن لدولنا العربية والإسلامية الاستعاضة بها؟ نستعرض ذلك في هذا التحقيق.

في البداية، يقدم د. مختار الشريف، أستاذ الاقتصاد بجامعة المنصورة، نماذج صارخة للدول التي انهارت رغم ما أمدتها به مؤسسات إقراض دولية.

تحدث شريف عن الاقتصاد اليوناني قبيل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مؤكداً أنه كان في أضعف حالاته مقارنة ببقية الدول الأوروبية، حتى إن المستثمرين عزفوا عن العمل فيه، وتوقع الجميع تحسناً بعد انضمامها للاتحاد الأوروبي، إلا أن ذلك لم ينجح في إنقاذها من أزمتها المالية.

قروض صندوق النقد والبنك الدوليين فشلت في انتشال اليونان من أزمتها وألقت بها في جحيم الإفلاس

ويتابع: فقد قامت منظمات التمويل الدولية بإقراض اليونان، وتم الانهيار عام 2009م، وزادت نسبة الدين بالنسبة للناتج المحلى الإجمالي، وفشلت قروض البنك وصندوق النقد الدوليين في انتشال اليونان من أزمتها رغم تنفيذها شروطهم، وأهمها التقشف الشديد، وكانت النتيجة أن أفلست اليونان وأعلن صندوق النقد الدولي عجزها عن سداد ديونها البالغة أكثر من مليار ونصف مليار يورو.

وأوضح الشريف أن تجربة أخرى بدأت من ثمانينيات القرن الماضي مع صندوق النقد الدولي، مؤكداً أنها لا تقل مأساوية عن تجربة اليونان وهي تجربة البرازيل.

وقال: وصل الأمر إلى إفلاسها، وبدأت المأساة حين أقرضها صندوق النقد الدولي لسداد القروض القديمة التي بلغت 148 مليار دولار منها 90 مليار دولار لفوائد القروض الأجنبية، وتسببت سياسات صندوق النقد في هجرة 4 ملايين برازيلي من الريف إلى للمدن.

في البرازيل وصل الأمر لتدخل مؤسسات الإقراض الدولية في وضع الدستور والتحكم بالقرار السياسي

وأكد أن البنك الدولي تحكم في وضع الدستور البرازيلي، ووصل الأمر لحدوث مظاهرات شعبية لأن البنك الدولي وصندوق النقد تسببا في رفع أسعار الفائدة وتدخلا في سيادة الدولة، مما زاد التضخم وفقد كثير من العمال وظائفهم في حين تم خفض أجور آخرين.

وشدد الشريف على أن الاقتصاد البرازيلي لم يتعافَ من أزمته –خلال رئاسة «لويس لولا دي سيلفا»- إلا بعد تحرره من هيمنة المؤسسات الدائنة ومحاولة إصلاح الخلل، حيث تؤكد الأمم المتحدة أن 20% من السكان في البرازيل يسيطرون على 80% من ثرواتها؛ بل إن 1% من سكانها يمتلكون نصف دخلها القومي، وتعاني غالبية الشعب من الفقر والبطالة، وهذا أكبر مظهر للفساد والرأسمالية المتوحشة التي تحميها سياسات المؤسسات المالية الدولية، مثلما حدث في غانا؛ حيث اشترط صندوق النقد الدولي على صناع القرار فيها رفع التعريفة الجمركية عن السلع الغذائية المستوردة، وكانت النتيجة إغراق المنتجات الأوروبية أسواق غانا، مما أصاب فلاحيها في مقتل لأن الأغذية الأوروبية دمرت المنافسة.

وأنهى الشريف كلامه بالتأكيد أن مأساة الاقتراض المدمر من المؤسسات المالية الدولية عانت منها الأرجنتين التي تضاعفت معاناة شعبها بعد قرار صندوق النقد الدولي باقتطاع أكثر من 3 مليارات دولار من الإنفاق الحكومي للوفاء بفوائد القروض الخارجية، واختفت الطبقة المتوسطة وزاد عدد الفقراء وانهارت قيمة البيزو الأرجنتيني مقارنة بالدولار الأمريكي، وهرب أصحاب رؤوس الأموال، وحدث انهيار اجتماعي بسبب هذه الإجراءات الاقتصادية التي أشرف عليها البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ولا شك أن مثل هذه النماذج المأساوية التي كان فيها الاقتراض من المؤسسات الدولية وسيلة لممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية على صناع القرار في مختلف الدول التي تعاني من الديون.

مؤسسات الإقراض تنفذ خطة لإحكام هيمنة الدول الكبرى على مقدرات الشعوب خاصة بأفريقيا وأمريكا اللاتينية

هيمنة استعمارية

من جهتها، أشارت د. زينب الأشوح، أستاذة ورئيسة قسم الاقتصاد بكلية التجارة للنبات– جامعة الأزهر، إلى أن مؤسسات الإقراض تنفذ خطة لإحكام هيمنة الدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية على مقدرات الشعوب في قارات العالم وخاصة أفريقيا وأمريكا اللاتينية، ومع هذا فقد نجحت بعض الدول من كسر قيود هذه الهيمنة التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب والاستعمار بأشكاله الجديدة.

وأكدت الأشوح أن تركيا وماليزيا وإندونيسيا تمكنت من كسر هذه الدائرة الجهنمية، عن طريق تطبيق خطط بديلة قائمة على الاعتماد على الذات والتعاون مع الدول المجاورة والدخول في كيانات اقتصادية.

ونصحت رئيسة قسم الاقتصاد الدول التي تعاني من مشكلات اقتصادية بتجنب المؤسسات المالية الدولية التي –عادة- ما تقوم بإغراء تلك الدول بحتمية الإصلاح عن طريق خطط وردية، وعندما تتمكن من اقتصادها تفرض شروطها الابتزازية، وتتدخل في شؤونها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.

وأشارت إلى أن التجارب العملية لمؤسسات التمويل الدولية تؤكد أنها تنفذ أجندات استعمارية حديثة، ومن مصلحتها جعل اقتصاد الدول التي تستعين بها أقرب للمريض الموجود في غرفة العناية المركزة وعلى أجهزة الإنعاش.

وأنهت الأشوح مؤكدة أن المؤسسات المالية الدولية لا تراعي معايير إنسانية على الإطلاق، ولعل هذا ما دفع بعض علماء الاقتصاد المنصفين العاملين بالأمم المتحدة -وعلى رأسهم «ألفريد دي زاياس»- إلى دعوة هذه المؤسسات المالية الدولية لمراعاة الحقوق الإنسانية للطبقية الفقيرة والمتوسطة بدلاً من ارتباطها بطبقة الأثرياء في ظل حرصها على تطبيق سياسة الخصخصة والتقشف، وفرض شروط تراعي مصالح الدائنين فقط؛ ما يؤدي في الغالب إلى إضافة مزيد من الفقراء.

الاعتماد على الذات

من جهة أخرى، أكد د. محمد بلتاجي، رئيس جمعية التمويل الإسلامي، أن غالبية الدول التي حصلت على قروض من صندوق النقد أو البنك الدوليين لم تتمكن من إعادة اقتصادها إلى الحالة التي كان عليها والاحتفاظ باستقلال قراراتها السياسية والاقتصادية، بل إنها (القروض) تعجز الدول عن تحقيق نهضة اقتصادية أو تنموية حقيقية ومستدامة؛ لأن الاقتراض قد يدمر الاقتصاد الوطني، ويؤدي لتآكل الطبقة الوسطى لتنضم للفقراء، وتزداد طبقة الأغنياء ثراء.

وقال بلتاجي: يكفي أن نذكر ما توقعه صندوق النقد الدولي من وصول نسبة التضخم في فنزويلا إلى أكثر من 2300%، وهذا يتنافى مع الأهداف التي أنشئ من أجلها الصندوق كوكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة بموجب معاهدة دولية للعمل على تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي، ومنع وقوع الأزمات الاقتصادية والمالية، ومتابعة الأوضاع الاقتصادية الدولية، وإقراض الدول التي تعاني أزمات ومساعدتها في علاج مشكلاتها الاقتصادية، وتصحيح مسارها.

ولكن الواقع يؤكد أن المؤسسات المالية خرجت عن الأهداف التي تأسست من أجلها؛ فأصبحت أكثر شراسة وأنانية، وتسييساً، وتراجعت عن النهج النبيل الذي أنشئت من أجله، وزاد الطين بلة أنها في بعض الأحيان تقوم بالمتابعة الخاطئة، وتفرض شروطاً ظالمة تُحدث أزمات أكبر للشعوب؛ حيث فرض «روشتة» للإصلاح الاقتصادي دون مراعاة واقع غالبية الشعوب التي تعاني من الفساد والبطالة والفقر.

وقال: يكفي أن هذه المؤسسات المالية الدولية تبدأ مفاوضاتها باشتراط تقليل معدلات الدعم للسلع الأساسية؛ ما يؤدي لعجز الفقراء ومحدودي الدخل عن الوفاء بمتطلبات حياة اليومية وتزيد دائرة الفقر، في حين يمثل الاهتمام الأول والأخير للمؤسسات الدائنة فرض دائرة الأمان لنفسها، وضمان قدرة الدولة على السداد بالحصول على الضمانات الكاملة لتنفيذها؛ ما يزيد الآثار السلبية للاقتراض؛ حيث تصبح الدولة تعاني من مطرقة موعد الأقساط، وسندان احتياجات المواطنين وتجنب ثورات غضبهم.

رئيس جمعية التمويل الإسلامي: بضرورة الاستعاضة عن التعامل مع المؤسسات المالية بمزيد من التعاون الاقتصادي المشترك

وفي الأخير، طالب رئيس جمعية التمويل الإسلامي بضرورة استعاضة العرب والمسلمين عن التعامل مع المؤسسات المالية بمزيد من التعاون الاقتصادي المشترك عن طريق إنشاء آليات اقتصادية فعالة وقوية تابعة لمنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية، وتطبيق آليات الاقتصاد الإسلامي -خاصة الصكوك- وخلق نوع من المشاركات الاقتصادية، بدلاً من الاقتراض الربوي الذي يزيد من مشكلات الدول الفقيرة.

ودعا بلتاجي إلى الاستفادة من التجارب الناجحة لبعض الدول الإسلامية مثل ماليزيا بقيادة مهاتير محمد التي استطاعت تفعيل الاعتماد على الذات، وتنمية الموارد الذاتية حتى إنها في عام 1997م، وعقب الأزمة الاقتصادية التي عانت منها اقتصاديات جنوب شرقي آسيا؛ رفضت ماليزيا توصيات صندوق النقد الدولي، واتخذت إجراءات إصلاحية حافظت على عملتها من الانهيار، وتم خفض الفائدة، عكس نصائح صندوق النقد وزاد معدل النمو، وأصبح الاقتصاد الماليزي من الاقتصاديات القوية عالمياً وليس في جنوب شرقي آسيا فقط.

ولفت بلتاجي إلى اعتراف «جوزيف ستيغليتز»، كبير الاقتصاديين في البنك الدولي، والحائز على جائزة «نوبل»، بأن قروض صندوق النقد الدولي إلى الدول النامية الفقيرة غالباً ما تكون ضارة في حالات كثيرة، فضلاً عن أنه يتبنى سياسات رأسمالية تساعد على السوق الحرة.

Exit mobile version