ثورة يناير والانقلاب الخفي

ثلاثون عامًا ظن النظام المصري بعدها أنه في مأمن من غضبة الشعب الذي أثقله بأعباء المعيشة وارتفاع الأسعار وكبت الحريات وانتشار الفساد في مؤسسات الدولة، حتى كان المواطن ينام ويصحو على قهر وذل وخوف.

غير أن الأجيال التي رفعت مبارك على الأعناق وعاشت سنوات الذل في عهد عبدالناصر لم تكن حائط صد قوياً لنظام مبارك، حيث خرجت أجيال شبت عن الطوق والتحمت مع بعضها، وزاد تلاحمها الانتشار الواسع لاستخدام الإنترنت الذي حول العالم لقرية صغيرة يعرف القاصي أخبار الداني وقت وقوعها.

شعر مبارك بعدم ثقة في المحيطين حوله، كما استشعر القلق من زيادة صيحات الشباب المطالبة بالإصلاح ببعض الحريات، مما دفعه للتترس خلف رجالات أمنه –التي وضع بذرتها عبدالناصر بعد انتفاضات فبراير ونوفمبر 1968م وأكد عليها السادات بعد انتفاضة الشعب ضد ارتفاع أسعار السلع الإستراتيجية ومن بينها الخبز عام 1977م-  إلا أنهم في لحظة تحولوا للدبة التي قتلت صاحبها بسبب تصرفاتهم المهينة في مختلف صفوف الشعب الذي ظل يئن طيلة ثلاثين عامًا من ويلات قانون الطوارئ.

عمد مبارك منذ بداية تسعينيات القرن العشرين إلى إغلاق جميع نوافذ الحرية، ففرض الحراسة على النقابات، وزور الانتخابات المحلية والبرلمانية، واعتقل كل صوت ينادي بالإصلاح ويندد بالممارسات القمعية.

ظهرت كثير من القوى والحركات متضامنة على هدف واحد ألا وهو المطالبة بالإصلاح والتصدي لتوريث الحكم الذي بدأ النظام يعد العدة له، فكان قمع انتفاضة القضاة عام 2006م، ثم تكميم الأفواه، وبيع ثروات البلاد بثمن بخس للكيان الصهيوني، وتفشى الفساد، حتى كانت القشة التي قصمت ظهر البعير في انتخابات مجلس الشعب عام 2010م التي لم ينجح فيها من المعارضة أحد، بل إن أحمد عز سافر لبعض الدوائر لفرض مرشح بعينه على القضاة، والتقت هذه الممارسات مع عنصرية الشرطة ضد الشعب حتى إن قيادات الداخلية في إحدى الدوائر هدد الجميع بقوله: “معي قوات تنيم المدينة من المغرب”، في إشارة إلى أن ما يريدونه هو ما سيكون.

كانت النيران مشتعلة تحت الرماد حتى هبت الرياح التي أزاحت هذا الرماد لتشتعل نيران الغضب، وينتفض الشباب مطالبين بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، حيث بلغت هتافاتهم يوم 25 يناير عنان السماء، فالتقفتها قلوب متحمسة في كل مكان، فاشتعلت الميادين وزحف الجميع من كل حدب وصوب في تلاحم أخرج النظام من سكرته ونشوته وطمأنينته التي نطق بها تحت قبة البرلمان: “خليهم يتسلوا”؛ فتحولت تسليتهم إلى واقع مخيف أخذ يتجسم أمام مبارك ونظامه، فحاول بكل وسائله ومؤسساته وأمواله صد هذا السيل المنهدر ضدهم، لكن كان الوقت قد مضى، وتدحرجت كرة الثلج التي لم يستطع أحد صدها.

خرجت جموع الشعب بمختلف أطيافها يوم جمعة الغضب 28 يناير بعدما خلعت عنها ثوب الخوف، فتلقت رصاصات الظلم بصدور عارية أفزعت النظام وجعلته ينسحب شارع تلو شارع ومؤسسة تلو مؤسسة حتى اضطر لإطلاق العنان لقوته العسكرية للسيطرة على الموقف وللتخطيط المناسب لهم في ظل تسارع الأحداث.

لا ننكر أن صيحات الثوار تلاقت مع رغبات العسكر في إزاحة النظام الذي كان يشرعن للتوريث من واحد خارج مؤسستهم، فكانت ثورة يناير فرصة سانحة لإعادة بسط نفوذهم على الدولة من جديد وكان بداية الانقلاب الذي جاء على ظهر الثوار دون أن يشعروا.

ظل الجميع مترابط ومتلاحم، يقتسمون لقمة العيش، ويتشاركون الغطاء هربًا من البرد، ويتناوبون الحراسة تأميناً للميدان، إلا أنه كان واضحًا أن أيدي الثورة المضادة قد بدأت في وضع خططها لتفتيت هذا التلاحم.

وبالفعل جاءت كلمات عمر سليمان، نائب الرئيس، كومضة، إلا أن الجميع وقتها لم يتلفت لها ولم يأخذها أحد على محمل الجد –وها نحن في الذكرى العاشرة للثورة نتجرع مرارتها– لقد قال لمن التقى معه من القوى السياسية: “إما التفاوض وإما الانقلاب”، وحينما رفض الجميع التفاوض والتمسك بمطلب رحيل مبارك، بعدها بدأت كلمات التخوين بين الجميع حينما غمز ولمز البعض القوى التي شاركت في الجلوس مع عمر سليمان، وأحمد شفيق، ووقتها اتخذت الثورة المضادة قرارها بالانقلاب، لكنه انقلاب مغلف بنشوة انتصار الثوار حينما رقصوا عندما أعلن عمر سليمان في 11 فبراير تنحية مبارك عن الحكم وتسليم إدارة البلاد إلى المجلس العسكري فكان الانقلاب الذي هدد به عمر سليمان.

رقص الثوار ورقص الشعب وتعالت الهتافات وفتحت الفضائيات أبوابها لكل من ادعى أنه ثوري يتكلم ويحكي ويزيد عن بطولاته وبدأت كلمات التخوين تزداد وتزداد، حتى تجلت صورة الثوار منقسمة، بل حملت جميع الأطراف السلاح في وجه الآخر وتحول الميدان لساحة حرب بينهم، وبعدما كانوا رفقاء أصبحوا الإخوة الأعداء، ومن وقتها نجح الانقلاب في إدارة رقاب العباد حتى الآن.. فهل يستفيق الجميع ليعيدوا لكل شهيد ضحى بنفسه في الثورة ما كان يرنو إليه، أم سيظل انقسام رفقاء يناير هو المسيطر على المشهد؟

Exit mobile version