يُعد تحديد الهدف والغاية من أهم الأمور لدى المؤسسات الخيرية، وليس الإشكال في تحديد ذلك؛ فكل المؤسسات الخيرية -تقريبًا- تولي كتابة (رؤيتها، ورسالتها، وأهدافها، وقيمها) الاهتمام الأول، وهذا أمرٌ حسنٌ، والمشكلة -حقيقة- في أمرين؛ هما:
الأمر الأول: عدم أو ضعف تمثُّل الرؤية من قبل الجهة ككل، أو ضعف إدراكها أو فهمها أو العمل عليها من قبل أفراد فريق العمل في المؤسسة… فلا أظن أن أحدًا يقول بأن المقصود من كتابة الرؤية هو مجرد كتابتها وتسطيرها في لوائح وأدبيات المؤسسة، أو حساب ذلك -فقط- من الترف الثقافي والفكري والأدبي، وربما عُدَّ ذلك أحد الأدلة المؤسسية التي تدل على مؤسسيَّة الجهة، ومدى ترتيب أمورها! بل الغرض الأول والأخير هو تركيز بوصلة السيْر والعمل والجهد والنشاط حول تلك الرؤية، والانطلاق منها. وفي هذا نسأل: ما مدى تمثُّل المؤسسة للرؤية التي كتبتها في أدبياتها؟ هل كل فردٍ في فريق عمل المؤسسة يعرف تلك الرؤية ويحفظها ويفهمها، ويشعر أنه يسهِم في تحقيقها؟
أعتقد أن هناك تقصيرًا في تحقُّق تلك الضروريات.
وفقًا لمقال نشر في “ Harvard Business Review“، بعنوان: “عندما يتحدث الرؤساء التنفيذيون عن الاستراتيجية؛ هل يستمع أي شخص؟ تستشهد المقالة بأبحاث تقول: إنه حتى في الشركات عالية الأداء التي لديها “استراتيجيات عامة واضحة”؛ يمكن لـ29٪ فقط من موظفيها تحديد إستراتيجية الشركة بشكل صحيح من بين ستة خيارات، هذا يعني أن 70٪ (7 من 10) من جميع الموظفين (حتى موظفيك) غير متوافقين -عن غير قصد- مع التوجه الاستراتيجي لشركتك؛ حيث يؤدي الاختلال إلى إبطاء مؤسستك بأكملها، وهذا يعني -أيضًا- أنه إذا كانت الرؤية غير واضحة؛ فإن 70٪ من مؤسستك لا يعرفون ما الذي يسعون لتحقيقه، ويعملون بناءً على افتراضات خاطئة.
وعليه فإن فريقك سيتحرك ببطء ودفاعية بدلًا من السرعة والاستباقية، والأسوأ من ذلك كله أن المؤسسة ستبدو متوقفة عن العمل بينما هي تعمل؛ لأنها تهدر طاقتها في الاتجاه الخاطئ، وبالطبع فإنه إذا تم الفهم الواضح للأولويات الاستراتيجية؛ فسيتحرك الأشخاص بسرعة ليقربوك من تلك الأهداف.
وبالرغم من أن هذه الدراسة قديمة نوعًا ما؛ إذ يعود تاريخها إلى 2013م؛ إلَّا أننا ما زلنا نعيشها اليوم واقعًا واضحًا، فيه الكثير من اللبس؛ مما يدل على وجود المشكلة واستمرارها، ومن الأهمية بمكان اتخاذ الخطوات العملية البديعة للتغلب عليها، والانتقال إلى صناعة مُستهدفات واضحة مشتركة.
وبشكل عام؛ فمن المهم للمؤسسة أن تراجع أعمالها وتوجهاتها وخططها الاستراتيجية والتشغيلية، كما أنه من المهم أن تعمل على إدراك ذلك لدى كل موظفٍ لديها، وفي سبيل ذلك تفكر في كيفية استيعاب فريقها لرؤيتها، وجعلها لديهم ديْدَنًا يبدؤون به عملهم وبه ينتهون.
ومن الوسائل المُقترحة لتحقيق ذلك ما يلي:
- التذكير بالرؤية في بداية كل فعالية.
- كتابة الرؤية بخطٍ واضحٍ، وتصميمٍ جميل، وتعليقها في الأماكن البارزة في المؤسسة.
- كتابة الرؤية في روزنامة التقويم السنوي الذي يوضع في مكتب كل موظف؛ لتكون أمامه على الدوام.
- ربط الإنجازات -بمختلف أنواعها- بالرؤية؛ حتى يدرك كل فردٍ أهمية تحقيق الرؤية وحضورها في كل عمل صغير أو كبير.
- إطلاق المسابقات بالتركيز على الرؤية وإدراكها واستيعابها.
- وضع الرؤية كــ”ترويسة ثابتة” على بطاقات الدعوات الخاصة بالفعاليات والأنشطة الموجهة للموظفين.
- وضع الرؤية كـ”ترويسة ثابتة” في مختلف الخطابات والأعمال والوسائل المُتبادلة بين الموظفين؛ مثل: برامج العمل الإلكترونية والورقية، والإيميلات، وما شابه.
- إيجاد جوٍ من التوافق الدائم بين مختلف الإدارات والوحدات والموظفين؛ يكون التركيز فيه على أُسس وجود المؤسسة (الرؤية، الرسالة، الأهداف، القيم).
وبالإمكان ضم (الرسالة، والأهداف، والقيم) لذلك الإيضاح بتلك الوسائل، ولكن بشكل مُرتَّبٍ ومُختصر وجاذب، كما أنه بالإمكان توسيع الفكرة، فبذلك -أيضًا- يتم استهداف أصحاب العلاقة بالمؤسسة (الداخليين والخارجيين)، وابتكار الوسائل اللطيفة لإيصالها إليهم، وإيصالهم إليها، وبهذا تكون المؤسسة حاضرة بقوة في كل مناسبة تقريبًا، ولدى كل شخصٍ معنيٍّ وله علاقة، بالإضافة إلى قيامها بحملاتٍ تسويقية دائمة بشكلٍ غير مباشرٍ، وبلا تكاليف أو جهود.
الأمر الثاني: في الرؤية نفسها، التي تكتبها المؤسسة الخيرية لذاتها؛ هل هي -فعلًا- الرؤية الصحيحة؟ وعلى أي أساس تم وضعها؟ هل المؤسسة بحاجة إلى تحرير رؤيتها؟ وبناءً على ماذا يلزم كتابة الرؤية؟
في هذا المقام أنقل كلامًا جميلًا لــ “Robert L. Payton and Michael P. Moody“، من كتابهم “فهم العمل الخيري”، وهم يتكلمون عن الرسالة والرؤية؛ يوضِّحون: “إن رسالة أي منظمة يمكن أن نجدها في إجابتها المحددة عن السؤال: لماذا نحن موجودون؟ والرسالة على وجه التحديد هي المسألة أو المشكلة الاجتماعية المُلِحَّة التي تستدعي وجود استجابة لها، وأي رسالة تبدأ بقولنا: أن نفعل …إلخ، فهي مرفوضة؛ لأن الرسالة شيء يتعلق بالمجتمع، وليس شيئًا يتعلق بالمنظمة.
وعليه يمكن لمنظمات العمل الخيري عندئذ أن تستقي استراتيجيات برامجها لتنفيذ رسالتها، والبُعد الأخلاقي هو البُعد الأكثر أهمية وتميزًا من بين كل أبعاد العمل الخيري، كما أن هذا المنظور يفسر المبرر المنطقي الأخلاقي لوجود العمل الخيري، ولا تكون الرسالة المُتبنَّاة واضحة بشكل دائم أيضًا؛ فهي أحيانًا تتطلب الاستخدام المبدع للمخيلة الأخلاقية من أجل رصد/رؤية مشكلة ما تحتاج إلى استجابة خيرية ما.
وعليه فإن الرسالة المُتبنَّاة المميزة للهوية أحيانًا؛ تتطلب وجود رؤية استثنائية لدى المؤسسة، وغالبًا ما تتطلب وجود شخص متبصِّر (كثير الرؤى)”.
وأعتقد أن هذه الإشارة كافية للمؤسسات الخيرية لمراجعة رؤيتها ورسالتها على ضوء سبب نشأتها ووجودها.
مصادر:
- فهم العمل الخيري، Robert L. Payton and Michael P. Moody
- https://cutt.us/QAAKo
- كاتب وباحث يمني.