عن الأسرة في الكيان الصهيوني

لا تقل أهمية المعرفة بمجتمع العدو عن أهمية المعرفة بثكناته العسكرية وأسلحته؛ فالعنصر البشري بما يحمله من قيم وتصورات ومعتقدات، وفي سعيه لتكوين وحدة مجتمعية كالأسرة يمثل أخطر وأهم ما في المعادلة.

ومن هنا، كانت هذه المحاولة لمعرفة كيف تعيش الأسرة في المجتمع الصهيوني؛ ما أهم القيم التي تستند إليها؟ كيف يربى النشء؟ وكيف يتعلم؟ وكيف تتم رعايته؟ وما مفردات خطاب الكراهية التي ينشأ عليها؟ وما العقيدة المزيفة التي يتلقاها؟ وكيف تعيش الأسرة العربية داخل هذا المجتمع العنصري؟ وما مستقبل الحرب الديمغرافية الدائرة هناك؟

المرأة الخاسر الأكبر في الزواج اليهودي حيث يغالي الحاخامات كثيراً في الأحكام المرتبطة بهذا الزواج

إذا كانت الصهيونية استعارت الأساطير اليهودية لشعب الله المختار وأرض الميعاد والماشيح اليهودي، واستعارت رموز هذه الأساطير كالنجمة السداسية والطاليت (شال الصلاة) والمينوراه (الشمعدان السباعي) وغير ذلك لكي تمنح معنى ما لعقيدتها الاستعمارية، بينما كان مؤسسوها الكبار مجرد ملحدين كـ»هرتزل»، و»بن جريون»، فإنه لم يكن من الممكن لهذا الكيان أن يستمر دون التماهي مع يهودية الأسرة ومن ثم يهودية الدولة.

ففي هذا الكيان لا يوجد ما يسمى بالزواج المدني، وكل محاولات الأحزاب اليسارية لطرح ما يسمى بالزواج المدني تنتهي بوصولها للسلطة، حيث لا تسمح الأحزاب الدينية المشاركة (والمؤثرة بصورة متصاعدة) في الائتلافات الحاكمة بطرح الموضوع للمناقشة، رغم أن 10% من زيجات هذا الكيان هي مدنية، ولكنها تعقد بالخارج خاصة في قبرص.

تبدو المرأة هي الخاسر الأكبر في هذا الزواج اليهودي؛ حيث يغالي الحاخامات كثيراً في الأحكام المرتبطة بهذا الزواج، يكفي في هذا الصدد أن نتحدث عن معاناة المعلقات اللاتي هجرهن الأزواج، ورغم ذلك لا يستطعن الحصول على الطلاق لسنوات طويلة جداً؛ حيث لا يمكن تطليق المرأة في المحاكم الحاخامية (وهي المحاكم المختصة بكل ما يرتبط بالزواج والطلاق والأسرة) إلا بإرادة الزوج، وعندما يصر على الرفض يتم الضغط عليه وربما سجنه أو تجريده من حقوقه المدنية حتى يقوم بالتطليق، وحتى تصل المحكمة لهذه النقطة فلا بد أن يكون الزوج مجرماً حقاً؛ فحتى الزنا لا يعد جريمة ما دام لم يكن بامرأة يهودية، ومن الشائع هناك مشاهدة هؤلاء اليهود المتدينين في القدس -وهم الذين يرتدون الزي التقليدي الأسود ليهود شرق أوروبا في القدس- وهم يعرضون العلاقة على السائحات دون أي شعور بالذنب أو تلقي اللوم من الآخرين.

تعد المرأة في الثقافة اليهودية ملكية خاصة لزوجها، حتى إن الأرملة التي لم تنجب طفلاً لا تستطيع الزواج من رجل آخر سوى بعد اجتيازها للطقس المسمى «حليتساه» (تعني الكلمة في معناها الحرفي المعجمي «خلع، نزع، قلع»، أما معناها الديني اليهودي فهو «مراسيم خلع حذاء أخي الزوج الذي توفي دون أن يخلف ذرية من أرملته، وذلك دليلاً على أنها أعفت أخا زوجها من التزوج منها، وبذلك تصبح هي أيضاً حرة في الزواج من شخص آخر)(1).

يمكننا القول: إنه كلما كانت الأسرة اليهودية أكثر تديناً قلت منزلة ومكانة المرأة فيها، حتى إن امرأة الحريديم (جماعة من اليهود المتشددين الذين يغالون في الطقوس الدينية ويعيشون حياتهم اليومية وفق التفاصيل الدقيقة للشريعة “الهالاخاه”) تعد منبوذة كلياً أثناء فترة الحيض؛ فهي “نيدا” لا يكاد يكلمها زوجها ولا يلمسها، حتى إنه يحرم عليه أن يتناول كوب شاي من يدها؛ فهي تعد نجسة ممنوعة من ذكر اسم الله تنجس أي مكان تلمسه، وينجس من يلمس أغراضها ولا تطهر بعد انتهاء الحيض مباشرة، بل عليها أن تنتظر أسبوعاً كاملاً بعد ذلك وبعدها تغتسل وتطهر.

دعم الأسرة

تتلقى الأسرة الصهيونية دعماً حكومياً لا محدوداً حتى تستقر في تربة الاستيطان، ومن ذلك توفير مساكن شعبية وتقديم قروض إسكان بشروط ميسرة، ويتم تقديم دعم ومعونة مالية للزوج العاطل عن العمل والإعفاء من دفع رسوم التأمين الوطني والصحي وتخفيضات كبيرة على الخدمات البلدية مثل فاتورة الكهرباء ونحو ذلك.

كما تمنح حكومة الكيان مسكناً شعبياً للمطلقات والعائلات أحادية الوالدية، كما تدفع حكومة الكيان تعويضات للأمومة ومنحاً للولادة، ومنذ العام 1959م تدفع للعائلات علاوات شهرية استناداً لعدد أطفال كل عائلة.

أما العائلة العربية داخل الخط الأخضر التي تتجاوز 20% من عدد السكان ولا تملك سوى 3% من الأراضي؛ فإن 60% منهم بحاجة ماسة لوحدة سكنية خاصة مع ارتفاع معدل البطالة بينهم، حيث تصل لنحو 20%؛ وهو ما انعكس على مستوى معيشة الأطفال العرب الذين يعاني أكثر من ربعهم من الفقر المدقع.

بالنسبة للتعليم، لا تتجاوز نسبة الإنفاق على الطالب العربي داخل الخط الأخضر في الميزانية الصهيونية ربع ما يحصل عليه الطالب اليهودي؛ ومن ثم ازدادت الفجوات بين نتائج الطلاب بحسب نتائج الامتحانات في القراءة والعلوم والرياضيات، حيث وصل الفارق بين التلاميذ اليهود والعرب إلى مئات النقاط.

اليهود الغربيون يرفضون الاختلاط بالتعليم مع اليهود الشرقيين ويصرون على مدارسهم الخاصة

وهي خطة مقصودة لتهميش العائلة الفلسطينية بحرمان أطفالها من التعليم اللائق، وهي خطة تبدأ مبكراً جداً؛ حيث لا يلتحق إلا 44% من الأطفال العرب برياض الأطفال، مقابل 95% من الأطفال اليهود في سن الثالثة.

على أن التمييز في التعليم داخل الكيان لا يقتصر على الطلاب العرب فحسب، فكثيراً ما يرفض اليهود الغربيون (أشكيناز) الاختلاط في المدارس مع اليهود الشرقيين (سفرديم)، ويصرون على أن يكون لهم مدارس منفصلة أكثر تميزاً، وهي إحدى أهم نقاط الضعف والخلل في البنية المجتمعية لهذا الكيان.

على أن الكارثة الحقيقية هي في مضمون التعليم الصهيوني؛ فالكيان ينفق على المدارس الدينية ضعف ما ينفقه على المدارس العلمانية، وخريجو المدارس الدينية في الكيان هم من يقفون خلف المواقف والعمليات الإرهابية العنيفة التي نفذتها التنظيمات اليهودية؛ كالمحاولات المتكررة لهدم الأقصى والهجوم على الحـرم الإبراهيمي، بل إن طلاب المدارس الدينية في الكيان الذي يتبنون مثل هذه الأفكار يعتبرون الإرهابي «باروخ جولدشتاين» الذي ارتكب مذبحة الحرم الإبراهيمي قديساً، ويجعلون حتى الآن من قبره مزاراً يتبركون به! وصنعوا من جريمته كتاباً أسموه «باروخ البطل»، وهو يُدرّس كقصة تاريخية للصف الرابع الابتدائي بالمدارس الصهيونية، وقد جاء في الصفحة (23) منه: «إن العرب والمسلمين كالثعابين، ويجب قتلهم جميعاً؛ فلغة الحوار الوحيدة بين المسلمين واليهود هي الرصاص».

تحدي الصحة

إذا كانت الحرب الديمغرافية أو حرب الأرحام هي هاجس الكيان الصهيوني، فإنهم لا يكفيهم في ذلك سياسة الترحيل أو استقدام مزيد من اليهود أو هذه الضغوط التي تمارس على العائلة العربية حتى تقلل من خصوبتها؛ فوحشية الكيان تتمثل بشكل أوضح في تلك الفجوات الكبيرة في الوصول إلى الخدمات الصحية بين المواطنين العرب الفلسطينيين واليهود حتى ما قبل أزمة «كورونا»، حتى إن معدل وفيات الأطفال بين العرب وصل إلى 5.4 لكل ألف طفل مقارنة بـ2.4 لدى الأطفال اليهود.

وإذا علمنا أن 86% من الأسر العربية تبعد عن أقرب مستشفى بـ5 كم، وأن معدل ولادة اليهوديات في المستشفيات ضعف العربيات؛ أدركنا أن الدفع للمزيد من وفيات أطفال العرب هو عمل صهيوني مقصود.

وتشير الأرقام داخل الخط الأخضر إلى التفوق الواضح للمرأة اليهودية بمتوسط 4 أطفال مقابل 3 أطفال للعربية، وربما يعود ذلك للعديد من الأسباب؛ كالفقر والبطالة وخروج المرأة العربية للعمل في ظل ظروف غير مواتية، بينما حظيت اليهودية بكثير من الدعم والمساعدات والتعويضات من الحكومة.

لكن المستقبل الحقيقي للكيان يعتمد بشكل أساسي على خصوبة نساء الحريديم اللاتي مثلن رقماً صعباً في حرب الأرحام، حيث تنجب المرأة من 7 إلى 10 أطفال، وبينما لا يمثل اليهود الحريديم أكثر من 15% من عدد اليهود في اللحظة الراهنة، فمن المنتظر أن يتضاعف عددهم في السنوات القادمة، وهذا يعمل في اتجاهين؛ فمن ناحية تتغير طبيعة المجتمع الصهيوني العلماني، ومن ثم يخضع لمزيد من النفوذ الديني المتطرف ومزيد من الصراع والانقسام في المجتمع، ورغم ذلك يتم دعم هذا التيار لأنه المفتاح لمستقبل الكيان الديمغرافي للكيان وضمان ليهودية الدولة.

على أن المستقبل المجتمعي للكيان لا تشكله فقط الديمغرافيا ولا التيار الديني المتطرف؛ فالفساد الأخلاقي المستشري بين الشباب، وما يخلفه من أبناء زنا يصنع جيلاً لا يتحمل الخوف أو المعاناة؛ فيتحرك في اتجاه حركة هجرة عكسية.

 

 

____________________________________________

(1) نساء الكيان الصهيوني وغياب العدالة الاجتماعية: أوريت كامير، المشهد الإسرائيلي، نقلاً عن المركز الفلسطيني للإعلام.

Exit mobile version