“تيفريت”.. قرية علمٍ موريتانية تحاصرها النفايات والسرطانات

تيفريت والعقبة قريتان وديعتان تُطلان على منطقة تاركة وتنتشفلين، حيث بركة المرعى وعذوبة المياه ونقاء الهوى منذ الأبد، تقع الحاضرتان على بعد 25 كلم شرق نواكشوط، حيث أسستهما منذ عقود جماعة عرفت بالعلم والصلاح والورع والشعر والأدب والمروءة والكرم والحكمة والشهامة.. جماعة من أحفاد فحول الشعراء العلماء، أمثال محمد بن الطلبة، عاشق القاموس، وناظم مختصر خليل، ومؤلف “تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد” في النحو، ومولود بن أحمد الجواد اليعقوبي مؤلف “الطالع على شرح الكوكب الساطع”.

بهذه الكلمات افتتح الكاتب الموريتاني محمد عبدالله البصيري مقالاً له بعنوان “محنة تيفريتْ والعقبة”، متأسِّفاً على الواقع الذي تعيشه القرية بسبب النفايات المسرطِنة التي تجلها “مجموعة نواكشوط الحضرية” -المعنية بنظافة العاصمة- إلى مكبٍّ في القرية، ومذكراً بأن تيفريت كانت قرية وادعة مطمئنة، ومنتجعاً آمناً للعديد من سكان نواكشوط، وقبلة للسياسيين ورجال الأعمال، وموطناً للعلماء والفقهاء والشعراء والأدباء، أما اليوم فأصبحت قرية محاصرة بالنفايات التي تسبب السرطانات وأمراض الجهاز التنفسي.

سكان تيفريت: إغلاق المكب ومعالجة آثاره قضية حياة أو موت لا تقبل أنصاف الحلول 

عقد من النفايات والسرطانات

معاناة سكان قرية تيفريت الصغيرة مع مكبِّ النفايات ليست جديدة، بل تعود لأكثر من 10 سنوات، وقد دأب السكان خلال هذه الفترة على تنظيم الاحتجاجات السلمية من أجل إيجاد حل نهائي لهذه النفايات التي تسببت في انتشار أمراض الجهاز التنفسي والسرطانات بين سكان القرية حسب دراسة أعدها خبير بيئي قبل فترة، الأمر الذي جعل سكان تيفريت يستميتون في نضالهم السلمي من أجل إيقاف هذا المكبِّ الذي يرون أنه يشكل خطراً على حياتهم، فقدموا ملفاً للقضاء الموريتاني وحكم لصالحهم في 22 أكتوبر الماضي، وتبيَّن أن مكبّ النفايات مخالف للقانون رقم (045-2000).

لكن يبدو أن القرار الصادر عن القضاء الموريتاني بهذا الخصوص لم يتم تنفيذه، إذ بقيت النفايات تزداد يوماً بعد يوم في مكبّ تيفريت، وقد دفع هذا التزايد المقلق في النفايات السكانَ إلى الدخول في اعتصام مفتوح من أجل إنهاء معاناتهم مع هذه النفايات التي تؤرقهم وتنشر السرطانات في صفوفهم، لكن الأمن الموريتاني واجه المحتجين بالقوة مساء أمس الأول السبت، وقام بفض اعتصامهم السلمي، واعتقل حوالي 16 شخصاً، ونكَّل بالأطفال والنساء والشيوخ، من أجل إرغامهم على التوقف عن الاحتجاجات المناهضة لمكبّ النفايات الموجودة بالقرية.

عمدة بلدية عرفات: من المؤسف أن يجمع على أهل تيفريت الإضرار ببيئتهم وقمعهم 

التفاف على قرار القضاء

وفي بيان بهذه المناسبة، قال الحراك المناهض لمكب النفايات تيفريت: في الوقت الذي كان المتضررون من مكب النفايات بتيفريت ينتظرون بفارغ الصبر البدء في معالجة النفايات المفرغة بشكل سطحي ونقلها من تلك المنطقة، تفاجؤوا بعودة الشاحنات المحملة بالنفايات والمسيرة تحت حراسة أمنية وأثناء سريان حظر التجول وذلك لإفراغها في المكب، في التفاف جليّ على قرار السلطات العليا المتخذ منذ 22 أكتوبر الماضي والقاضي بالتوقف نهائياً عن استغلال المكب والتزامها بمعالجة آثاره استجابة لقرار قضائي قضى بإغلاقه ومعالجة آثاره.

وأضاف الحراك أنه يرفض بشكل قاطع الالتفاف على تنفيذ القرار القضائي بعودة إغراق المنطقة من جديد بالنفايات، ويعتبر أن قرار السلطات المصرح به في 22 أكتوبر الماضي بإغلاق المكب حق مكتسب لا رجعة فيه، كما أن إغلاق المكب ومعالجة آثاره قضية حياة أو موت لا تقبل أنصاف الحلول، فإما أن يتم إغلاق المكب طبقاً للقرار القضائي وقرار السلطات السابق وإما أن يتواصل الاحتجاج السلمي المدني مهما كانت النتائج المترتبة عليه.

ولد منصور: ما يجري في قرية تيفريت ظلم 

تيفريت بين القمامة والكمامة

اهتم عدد من المثقفين والمدونين الموريتانيين بأزمة تيفريت، معربين عن تضامنهم مع سكان القرية المحاصرة بنفايات نواكشوط، حيث كتب المفكر الإسلامي محمد جميل منصور قائلاً: إن كان ما يجري في تيفريت بإرادة رسمية، فهذا ظلم والقائمون عليه ظالمون، وإن كان بإرادة نافذين أو باحثين عن الربح ويوظفون أجهزة الدولة فتلك مصيبة أعظم، فتكون الجهات الرسمية جمعت مع الظلم الارتهان، معتقلون ومصابون ومعتدى عليهم لا لشيء إلا لأنهم رفضوا أن يكونوا مكباً للنفايات والقمامات.

بدوره، قال باب ولد حرمة، مراسل قناة “الجزيرة” في موريتانيا: الدولة الفاشلة لا تعجز عن تأمين الخدمات الأساسية وحسب، بل تحرم الناس مما توفره الطبيعة من هواء نقي! أما الشاعر الموريتاني أدي ولد آدب فكتب بيتين أعرب فيهما عن تضامنه مع أهل سكان قرية تيفريت، وتساءل: كيف يمكن أن يتنفس الإنسان حين يحبس بين الكمامة والقمامة؟ وذلك عندما قال:

بين القمامة والكمامة أحبسُ ** في “تيفريت”.. فكيف لي أتنفسُ؟

أتلَوثون هواءنا.. وترابنا ** ونسامُ خسفاً.. حين نشكوا.. نعطسُ؟

ولد حرمة: الدولة الفاشلة لا تعجز عن تأمين الخدمات الأساسية وحسب بل تحرم الناس مما توفره الطبيعة من هواء نقيٍّ

مطالب بحل أزمة مكبّ تيفريت

بدورهم، اهتم بعض عمد نواكشوط بأزمة تيفريت، حيث كتب الحسن ولد محمد، عمدة بلدية عرفات، مقالاً تحت عنوان “أزمة تيفريت من منظور أوسع”، قال فيه: من المؤسف أن يجمع على أهل تيفريت الإضرار ببيئتهم وقمعهم، لذلك فإن التضامن معهم حق لا منة فيه، مؤكداً أن أزمة تيفريت تثير لدى عمد نواكشوط شجون قضية أوسع هي نظافة العاصمة التي هي اختصاص حصري للبلديات منذ إنشائها على غرار جميع بلديات العالم.

وبهذا الخصوص، اقترح ولد محمد ثلاثة مقترحات، هي: إغلاق مكب تيفريت والبحث عن بدائل مؤقتة تجنب السكان الضرر في انتظار حل جذري للمشكلة، وأن تتحمل الحكومة الموريتانية المسؤولية وتناقش مع البلديات بناء مراكز طمر خاصة بكل ولاية وفق الشروط الصحية، وإلغاء العقد غير القانوني بين الخصوصيين والحكومة وإسناد المهمة للبلديات.

من جانبه، قال محمد ولد شعيب، عمدة بلدية توجنين: ما يتعرض له المتظاهرون السلميون في تيفريت عمل مدان وغير مقبول، ومطالبهم المشروعة برفع الضرر والأذى عنهم كان الأولى أن تقابل بالاستجابة والمبادرة بمعالجة أصل المشكلة بما يحقق الهدف المطلوب، كل التضامن مع أهل تيفريت.

Exit mobile version