أوروبا.. و”الطلاق بالتراضي” مع بريطانيا

وأخيراً، انتهى المخاض الطويل -الذي شهد مواقف متباينة ومفاوضات عسيرة- بخروج المملكة المتحدة (بريطانيا) من كتلة الاتحاد الأوروبي (بريكست) عملياً بداية من يناير 2021، بعد خمسة عقود من العضوية.

ما أهم محطات مسار “بريكست” المتعرجّ؟ وما أهم تداعياته على العلاقات البريطانية الأوروبية؟ وعلى الوضع الأوروبي عموماً؟

استفتاء 2016 المؤيد لـ”بريكست”

كان يوم 23 يونيو 2016 يوماً تاريخياً في بريطانيا، حيث صوّت 51.9% من الناخبين البريطانيين بتأييد خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، في استفتاء نظم بعد فوز المحافظين في الانتخابات التشريعية عام 2015.

وللإشارة، فإن النتيجة تتضمن دلالة جلية على تقارب كبير لدى الرأي العام البريطاني بين مؤيد ومعارض للخروج، ولم يُخْفِ البعض ندمه من التصويت لفائدة “بريكست”، مشيراً إلى الآلة الإعلامية الضاغطة التي استخدمها معسكر الخروج للإقناع بفوائد الخروج.

ولم ينجح رئيس الوزراء في ذلك الوقت ديفيد كاميرون عن حزب المحافظين في الإقناع بأهمية البقاء في الفضاء الأوروبي، لذلك قدّم استقالته، وخلفته في منصب رئاسة الوزراء تيريزا ماي عن حزب المحافظين أيضاً التي قامت، في 29 مارس 2017، بإرسال رسالة إلى رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك تفعّل المادة (50) من اتفاقية لشبونة، لتبدأ بذلك عملية خروج المملكة المتحدة من الاتحاد (بريكست)، على أن تنجز بعد سنتين وتحديداً في 29 مارس 2019، لكن عملية التفاوض بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا تعثرت، خاصة وأن الاتفاق بين الطرفين الخاص بترتيب الخروج لم يجد، يوم 15 يناير 2019، الموافقة من النواب البريطانيين، وفي مارس ثم في أبريل، وافق الاتحاد الأوروبي على إرجاء “بريكست”، وحدد موعد الخروج في 31 أكتوبر، ثم تأجل إلى 31 يناير 2020.

جونسون رئيساً للوزراء يعطي دفعاً قوياً لملف “بريكست”

وما بين الموعدين، حدثت أزمة سياسية في بريطانيا انتهت باستقالة تيريزا ماي وخلفها، يوم 24 يوليو 2019، بوريس جونسون عن حزب المحافظين والمؤيد لتنفيذ “بريكست” في موعده مع اتفاق أو بدونه.

أعطى تولّي جونسون رئاسة الوزراء دفعاً قوياً لملف “بريكست”، ورغم أنه توصل إلى اتفاق جديد حول هذا الملف مع بروكسل، في 17 أكتوبر 2019، كان العائق الكبير أمامه تشرذم التركيبة البرلمانية، حيث إن النواب البريطانيين في ذلك الوقت أرجؤوا التصويت على نص الاتفاق؛ لذا تحرك جونسون بكل ثقله وصبّ كل جهوده على إنجاح ملف “بريكست” وافتكاك الموافقة البرلمانية على الاتفاق الأوروبي البريطاني الذي يرتب ملف الخروج. 

نُظمت انتخابات تشريعية مسبقة، يوم 12 ديسمبر 2019، وكانت حاسمة من حيث المشهد السياسي وموضوع العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، حيث انهزم حزب العمال صاحب فكرة إعادة الاستفتاء حول علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي (202 مقعد فحسب من مجموع 650 مقعداً)، في حين فاز حزب المحافظين بقيادة جونسون بغالبية ساحقة (365 نائبًا من أصل 650). 

تمكن جونسون من تمرير مشروعه متسلحاً بالقوة البرلمانية، وفي 9 يناير 2020 تم إقرار نص الاتفاق تشريعياً، ولم يعد التحدّي من داخل البرلمان البريطاني، وإنما من الكيان الأوروبي الذي يبحث عن صيغة للحفاظ على مصالحه بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وحتى وإن دخلت عملية “بريكست” حيز التنفيذ، في 31 يناير 2020، إلا أن المملكة المتحدة ظلت رغم ذلك تتبع قواعد الاتحاد الأوروبي لفترة انتقالية مدتها 11 شهراً، بمعنى أن الخروج العملي بقي معلقاً في انتظار إنهاء مرحلة انتقالية حتى 31 ديسمبر 2020 قابلة للتمديد، مع رفض لندن لأي تمديد بعد نهاية العام، تأكيداً لتصوّر جونسون المؤيد لتنفيذ “بريكست” في موعده مع أو بدون اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يفسّر المخاض الذي شهدته المرحلة الانتقالية بسبب الصعوبات الكبرى في الاتفاق بين لندن وبروكسل على تحديد أسس علاقتهما المستقبلية لا سيما على الصعيد التجاري.

اتفاق تجاري لمرحلة ما بعد “بريكست”

يوم الخميس 24 ديسمبر، وقبل أسبوع فقط من نهاية المرحلة الانتقالية، توصل المفاوضون الأوروبيون والبريطانيون إلى اتفاق تجاري لمرحلة ما بعد “بريكست”.

وبموجب هذا الاتفاق التجاري، سيتم التفاوض على الوصول إلى المياه البريطانية الغنية بالثروة السمكية على أساس سنوي بعد انقضاء الفترة الانتقالية، وأفاد مسؤول أنه سيكون على الصيادين الأوروبيين التخلي عن ربع الثروة السمكية التي يحصلون عليها حاليًا في المياه البريطانية خلال السنوات الخمس ونصف سنة المقبلة.

لقي الاتفاق ترحيباً واسعاً من الطرفين، حيث أشار رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى أن الاتفاق سيصب في مصلحة الطرفين على ضفتي بحر الشمال (المانش)، مشددًا على أن بلاده ستبقى حليف أوروبا وسوقها الأول.

وأفادت وزيرة التجارة الدولية البريطانية اليزابيت تروس بأن الاتفاق سيؤدي إلى «علاقة تجارية قوية» مع بروكسل وشركاء آخرين حول العالم.. من الجهة الأوروبية، رحب البرلمان الأوروبي بالاتفاق التجاري لما بعد “بريكست” الذي تم التوصل إليه بين لندن وبروكسل.

بدورها، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين أن لندن والاتحاد الأوروبي توصلا إلى «اتفاق جيد ومتوازن» و«منصف» للطرفين.

وبالرغم من عبارات الترحيب الواسع بهذا الاتفاق من الطرفين، فإن الخلاف البريطاني الأوروبي لم ينته بالاتفاق التجاري، فهذا الاتفاق يخفي تجاذبات بين الطرفين حول الاستفادة من الثروة السمكية في ظل سياسة صارمة بريطانية تقوم على التشدد في استعمال مياهها الإقليمية.

ارتباط مصلحي

ثم إن موضوع العلاقة البريطانية الفرنسية يتصف دائماً بطابع التوتر، ومن بين عوامل التوتّر، الثقافة السائدة في بريطانيا الميّالة إلى الفضاء الأنجلوساكسوني على حساب الشعور بالانتماء الأوروبي، وسيادة هذه الثقافة لدى البريطانيين تحرج بقية الأوروبيين في علاقتهم مع بريطانيا لشعورهم بأن هذه الأخيرة تبحث -من خلال تواجدها في الفضاء الأوروبي إلى وقت قريب- عن مصالحها وليس عن المصالح الأوروبية المشتركة.

ولعل مثل هذا التخوف هو الذي دفع الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول إلى الاعتراض على دخول المملكة المتحدة إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، في 14 يناير 1963، بعد طلب رئيس الوزراء البريطاني المحافظ هارولد ماكميلان الذي تقدّم، يوم 9 أغسطس 1961، بأول ترشيح لبلده للانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، بل وضع ديغول “فيتو” جديداً على ذلك، في 27 نوفمبر 1967، وبالرغم من “الفيتو” الفرنسي، تمكنت لندن من الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، في 1 يناير 1973، بالتزامن مع أيرلندا والدنمارك.

وفي 30 نوفمبر 1979، طالبت رئيسة الوزراء المحافظة مارجريت تاتشر (المرأة الحديدية التي اشتهرت بعبارة «أريد استعادة أموالي») بحسم مقابل مشاركة بلادها في الميزانية الأوروبية، ولبّى الأوروبيون طلبها في عام 1984، ولم ينتزع رئيس الوزراء البريطاني المحافظ جون ميجور مصادقة البرلمان على معاهدة “ماستريخت”، يوم 23 يوليو 1993، إلا بعدما هدد بالاستقالة، رغم أن بريطانيا مُنحت يوم التوقيع على المعاهدة يوم 27 فبراير 1992 بندًا استثنائيًّا (opting-out) يسمح لها بعدم الانضمام إلى العملة الموحدة.

وهكذا دأبت بريطانيا في تعاملها مع الاتحاد الأوروبي: ارتباط جدّ محدود بما يخدم مصالحها.

عودة الاستقطاب الفرنسي الألماني

وبخروجها من الكتلة الأوروبية واقترابها أكثر من الكتلة الأنجلوساكسونية (وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية)، تكون بريطانيا قد ساهمت في إضعاف الوزن الإستراتيجي للكيان الأوروبي المتعثر في ظل وضع إقليمي ودولي معقد وتصاعد المنافسة الدولية، لكنها من ناحية أخرى، فتحت الباب أمام عودة الاستقطاب الفرنسي الألماني واشتداد التنافس بينهما على قيادة القاطرة الأوروبية.

Exit mobile version