اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا وبريطانيا.. مجرد اتفاق تجاري أم تحالف إستراتيجي؟

ببرجماتية منقطعة النظير، وقَّعت كل من تركيا والمملكة المتحدة أكبر اتفاقية تبادل تجاري حر بين البلدين، والواقع أن البلدين قد توصلا للاتفاق منذ وقت ليس بالقصير، ولكن الإعلان عنه تأجل حتى تغلق إنجلترا كامل ملفاتها مع الاتحاد الأوروبي، فما الدافع لدى البلدين لهذا الاتفاق؟ وما العائد على كلا البلدين من ورائه؟ وما تأثيراته السلبية والإيجابية على الاتحاد الأوروبي؟

عندما تتصالح المصالح

لأن المصالح تتصالح، ولأن المملكة المتحدة البرجماتية تعلم قدر تركيا وقيمتها الاقتصادية والجيوسياسية على المستويين الإقليمي والدولي، حافظت بريطانيا منذ سنوات على مسافة من سياسة الاتحاد الأوروبي في التعامل مع تركيا، بل عززت علاقاتها معها، وكان من النادر أن تساهم لندن في أي قرارات أو بيانات ضد تركيا، على العكس من فرنسا التي ما زالت تتحكم فيها وتسيطر عليها غطرسة الاستعمار القديم، وما زالت تحركها أحقاد الماضي.

وقد أدى الاتفاق التجاري الأخير بين تركيا وبريطانيا لارتياح كبير بين النخب السياسية ونخب رجال الأعمال في كلا البلدين.

فأبدت وزيرة التجارة البريطانية ليز تروس رضاها عن إتمام هذا الاتفاق، وقالت: إن الاتفاق يمهد الطريق نحو التوصل إلى اتفاقية جديدة أكثر طموحاً مع تركيا في المستقبل القريب، كما يندرج في إطار خططنا لوضع بريطانيا في وسط شبكة من الاتفاقيات العصرية مع الأنظمة الاقتصادية الديناميكية.

ردود فعل متفائلة على الجانبين

وقالت حكومة المملكة المتحدة، في بيان، عقب التوقيع على الاتفاق: إن الصفقة تغطي تجارة تزيد قيمتها على 18 مليار جنيه إسترليني (24.3 مليار دولار)، وجاء في البيان أن “البلدين التزاما أيضًا بالعمل نحو اتفاقية تجارة حرة أكثر طموحًا في المستقبل، ستذهب إلى أبعد من الاتفاقية الحالية”.

وأشارت الحكومة البريطانية، في بيانها، إلى أن سلاسل التوريد الحيوية بين المملكة المتحدة وتركيا ستحمي مصنعي السيارات، مثل “Ford”، التي توظف 7500 شخص في المملكة المتحدة.

وتعليقًا على الصفقة، قال ستيوارت رولي، رئيس شركة فورد في أوروبا: إن “فورد” ترحب بالإعلان عن اتفاقية تجارية بين البلدين، وتدعو للسرعة في إبرامها لأهمية الاتفاقية في تعزيز الازدهار الاقتصادي للبلدين.

كما أكد آندي بورويل، مدير التجارة الدولية والاستثمار في اتحاد الصناعة البريطانية (CBI)، أن الاتفاقية التاريخية ستعزز سلاسل التوريد الرئيسة في العديد من الصناعات بعد عام من الاضطرابات الوبائية.

من ناحيتها، قالت وزيرة التجارة التركية: إن الصفقة الجديدة، التي تغطي جميع السلع الصناعية والزراعية، من المقرر أن تدخل حيز التنفيذ في اليوم الأول من العام الجديد.

وقالت الوزيرة روهصار بكجان، في كلمة ألقتها في حفل التوقيع في العاصمة التركية أنقرة: هذا يوم تاريخي للعلاقات التركية البريطانية، وأكدت بكجان أن الاتفاق التاريخي سيضمن تجارة أقوى بين تركيا والمملكة المتحدة في الأيام القادمة.

وقالت بكجان: نحن نتخذ الخطوة الأولى نحو تعميق علاقاتنا مع الحفاظ على مكاسب 25 عاماً من الاتحاد الجمركي، في إشارة إلى الاتحاد الجمركي التركي مع الاتحاد الأوروبي عام 1995، الذي تقوم بريطانيا بالخروج النهائي منه هذا الأسبوع.

ووصف الرئيس رجب طيب أردوغان الاتفاقية الموقعة بأنها أهم اتفاق منذ اتفاق الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي الذي تم توقيعه عام 1995.

وأشاد ممثلو صناعة السيارات في تركيا، التي تشكل نحو 3 مليارات دولار في التجارة الثنائية، بالصفقة.

وقال حيدر ينيجون، رئيس رابطة مصنعي السيارات في تركيا، في بيان: إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان عملية يمكن أن يكون لها آثار مدمرة على صناعة السيارات في كلا البلدين، حيث يمثل قطاع السيارات 16% من إجمالي حجم التجارة بين المملكة المتحدة وتركيا.

وأضاف أن الصفقة هي هدية العام الجديد لصناعتنا، ونود أن نشكر جميع المسؤولين وممثلي الصناعة في كل من بلدنا والمملكة المتحدة الذين ساهموا في هذه العملية، وخاصة وزارة التجارة لدينا.   

وتتوقع العديد من القطاعات التركية تأثيراً إيجاباً لاتفاقية التجارة الحرة التي وقعت بين أنقرة ولندن، حيث تعد بريطانيا أحد أهم الشركاء التجاريين لتركيا، وتعد اتفاقية التجارة الحرة هي الأولى لبريطانيا مع تركيا، بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.

وأكد اقتصاديون أتراك أن بريطانيا التي تعد الدولة الثانية الأكثر استيراداً من تركيا، ستحتل المركز الأول بدلاً من ألمانيا، وأضافوا أن الاتفاقية ستساهم بشكل إيجابي في الاقتصاد التركي على الأمد القصير والطويل، من خلال مختلف القطاعات من الصناعة والسيارات والصلب والملابس والإلكترونيات والأغذية والزراعة.

وبلغت الصادرات التركية إلى بريطانيا خلال الأشهر العشرة الأولى من العام الحالي 8.8 مليار دولار، في حين بلغت الواردات 4.4 مليار دولار، لتحقق فائضاً تجارياً بقيمة 4.4 مليار دولار لصالح تركيا.   

ليس مجرد اتفاق تجاري

من ناحية أخرى، قالت صحيفة “دويتشه فيتشافت” الألمانية، في تقرير لها: إنّ البلدين انتهيا من وضع اللمسات الأخيرة على نص اتفاق يؤكد تواصل شروط التجارة الحالية بين أنقرة ولندن، وإن الاتفاقية تتضمن إنشاء تحالف اقتصادي واستخباراتي وعسكري بين البلدين، وتعتبر لندن وأنقرة بمثابة أبرز الداعمين لطريق الحرير الجديد للصين في أوروبا.

تحالفات ما بعد “البريكست”

كانت بريطانيا تعتبر أن وجودها في الاتحاد الأوروبي قيد حريتها على المستوى التجاري والإستراتيجي، ومعروف أن بريطانيا لم تندمج بشكل كامل في الاتحاد الأوروبي، ولم تغير عملتها إلى اليورو كما فعلت باقي الدول في الاتحاد، ولهذا تتجه بريطانيا لعمل تحالفات اقتصادية وإستراتيجية تتجاوز الاتحاد الأوروبي.

وتقول بريطانيا: إن الاتفاقية مع تركيا هي خامس أكبر اتفاق تجاري تفاوضت عليه وزارة التجارة بعد اتفاقياتها مع اليابان وكندا وسويسرا والنرويج.

وأشارت وزيرة التجارة البريطانية إلى أن “الاتفاقية (مع تركيا) هي جزء من خطة لوضع المملكة المتحدة في مركز شبكة من الاتفاقيات الحديثة ذات الاقتصادات الديناميكية، مضيفة أن هناك إمكانات تجارية أكبر في مجالات التمويل والتكنولوجيا الحيوية، حيث صرحت الوزيرة أن بريطانيا تستعد لاتفاقية موسعة أكثر طموحًا، تشمل الخدمات على وجه الخصوص إضافة لتجارة التكنولوجيا الأسرع نموا في الوقت الحاضر.

تحالف تركي أوكراني بريطاني

هناك حديث عن تحالف تركي بريطاني أوكراني بعد التقارب التركي الأوكراني، وتصريحات وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا لـ”بي بي سي” أنه إذا هبطت القوات البريطانية هناك وبقيت، فلن نمانع أيضاً، فمنذ اليوم الأول للعدوان الروسي على أوكرانيا كانت بريطانيا قريبة وقدمت دعماً عملياً وليس عسكرياً فقط.

وهناك أنباء متفرقة عن دعم تكنولوجي وفني من قبل كل من المملكة المتحدة وأوكرانيا لإنتاج الطائرة الشبحية التركية، وهي طائرة يمكن أن تتفوق على الطائرة الأمريكية “إف35″، وهذه تحالفات تزعج ليس فقط اليونان وفرنسا والكيان الصهيوني، ولكنها قد تزعج أيضاً الاتحاد الأوروبي وروسيا وأمريكا.

والخلاصة أن اتفاق المملكة المتحدة، التي يقودها اليوم رئيس الوزراء بوريس جونسون الذي يفخر بكون جده كان وزيراً عثمانياً، مع تركيا ليس مجرد اتفاق تجاري، ولكنه أكبر من ذلك بكثير، ويبدو أن العالم قد بدأ بالفعل في مراجعة تحالفاته.

Exit mobile version