يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119).

إن الصدق دليل الإيمان ولباسه، ولبُّه وروحه؛ كما أن الكذب بريد الكفر ونَبْتُه وروحه، والسعادة دائرة مع الصدق، والشقاوة دائرة مع الكذب، والصدق من الأخلاق التي أجمعت الأممُ على مر العصور، وفي كل الأديان، على الإشادة به، والصدق هو خُلق من أخلاق الإسلام الرفيعة، وصفة من صفات عباد الله المتَّقين؛ ولذلك فقد وصف الله نبيَّه محمدًا – صلى الله عليه وسلم – بأنه جاء بالصدق، وأن أبا بكر وغيره من المسلمين هم الصادقون، قال تعالى: (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (الزمر: 33).

كما أن التحلي بالصدق كان من أوَّليات دعوتِه صلى الله عليه وسلم، كما جاء مصرحًا بذلك في قصة أبي سفيان مع هرقل، وفيها: أن هرقل قال لأبي سفيان: “بماذا يأمركم؟” يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو سفيان: “يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة” (رواه البخاري ومسلم).

كما أن الصدق سمة من سمات الأنبياء والمرسلين، وجميع عباد الله الصالحين، قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا” مريم: 41، وقال عن إسحاق ويعقوب عليهما السلام: “وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا”. مريم: 50، وقال عن إسماعيل عليه السلام: “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا”. مريم: 54، وقال عن إدريس عليه السلام: “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا”. مريم: 56، وقال عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”. الأحزاب: 23.

وقد أنزل الله في شأن الصادقين معه آيات تتلى إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، فقد ثبت عن أنس أن عمه أنس بن النضر لم يشهد بدرًا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فشق ذلك على قلبه، وقال: أول مشهد شهده رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – غبتُ عنه، أمَا والله، لئن أراني الله مشهدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَرَينَّ الله ما أصنع! قال: فشهد أُحدًا في العام القابل، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا أبا عمر، إلى أين؟ فقال: واهًا لريح الجنة! إني أجد ريحَها دون أُحُد، فقاتل حتى قُتِل، فوُجِد في جسده بضع وثمانون ما بين رمية وضربة وطعنة، فقالت أخته الرُّبَيِّع بنت النضر: ما عرفتُ أخي إلا ببنانه، فنزلت هذه الآية: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ”. الأحزاب: 23 – رواه البخاري.

ويكفي الصدقَ شرفًا وفضلاً أن مرتبةَ الصدِّيقية تأتي في المرتبة الثانية بعد مرتبة النبوة؛ قال الله – تعالى: “وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا”. النساء: 69.

وقد أمرنا الله تعالى بأن نتحلى بهذا الخُلق العظيم، وأن نكون مع الصادقين، فقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ” التوبة: 119.

وجاء في حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يَهْدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدقُ ويتحرَّى الصدق حتى يُكتَب عند الله صدِّيقًا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا” متفق عليه.

من ثمرات الصدق:

أولاً: الصدق أصل البر، والكذب أصل الفجور، كما ورد في الحديث السابق.

ثانيًا: انتفاء صفة النفاق عن الصادقين؛ ففي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث مَن كُنَّ فيه كان منافقًا: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمِن خان” متفق عليه.

ثالثًا: تفريج الكربات، وإجابة الدعوات، والنجاة من المُهلِكات، دل على ذلك قصة أصحاب الغار التي أخرجها البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أنه قال بعضهم لبعض: “…إنه والله يا هؤلاء، لا ينجيكم إلا الصدقُ، فليدعُ كلُّ رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه”، فدعا كل واحد منهم ربَّه بما عمِله من عمل صدَق فيه لله، وأخلص له فيه، فكان أن جاء الفرج، ففرج لهم فرجة بعد أخرى، حتى خرجوا من تلك المحنة.

رابعًا: التوفيق لكل خير، كما يدل عليه قصة كعب بن مالك في تخلُّفه عن تبوك، كما في البخاري ومسلم، وفيها أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لكعب: “ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعتَ ظهرك؟”، قال: قلت: يا رسول الله، إني والله، لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطِه بعذر، ولقد أُعطيتُ جدلاً – أي: فصاحةً وقوة في الإقناع – ولكني والله، لقد علمت لئن حدثتُك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليَّ فيه – أي: تغضب عليَّ فيه – إني لأرجو فيه عفو الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر في حين تخلفت عنك، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: “أمَّا هذا، فقد صدق”، فلما صدق مع الله ومع رسوله، تاب الله عليه، وأنزل فيه وفي صاحبيه آيات تتلى إلى قيام الساعة، فقال تعالى: “لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ”. التوبة: 117 – متفق عليه.

خامسًا: حسن العاقبة لأهله في الدنيا والآخرة؛ قال صلى الله عليه وسلم: “إن الصدقَ يَهدِي إلى البرِّ، وإن البر يَهدِي إلى الجنة”. متفق عليه.

سادسًا: ثقة الناس بالصادقين، وثناؤهم الحسن عليهم، كما قال تعالى ذلك عن أنبيائه الكرام: “وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا”. مريم: 50.

وفي المقابل: أمرنا الله تعالى بتجنب الكذب، وحذَّر منه؛ لما فيه من المفاسد، ومن ذلك:

أولاً: الكذب من خصال المنافقين، ففي الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان” متفق عليه.

ثانيًا: مَن تكرر منه الكذب حتى صار عادة، يُكتَب عند الله في صحائف الكذَّابين، وهذا من أقبح وأشنع ما يكون، جاء في الحديث: “وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا”، فالمسلم لا يرضى أن يصنف من قِبَل أهله وأصحابه في قائمة الكذابين، فكيف يرضى أن يكون عند خالقه كذلك؟!

ثالثاً: ذكر ابن القيم رحمه الله جملة من مفاسد الكذب فقال: “وكم قد أزيلت بالكذب من دول وممالك، وخربت به من بلاد، واستُلِبت به من نِعَم، وتعطَّلت به من معايش، وفسدت به مصالح، وغُرست به عداوات، وقُطعت به مودات، وافتقر به غني، وذل به عزيز، وهتكت به مصونة، ورُميت به محصنة، وخَلَت به دُور وقصور، وعُمِّرت به قبور، وأزيل به أُنس، واستجلبت به وحشة، وأفسد به بين الابن وأبيه، وغاض بين الأخ وأخيه، وأحال الصديق عدوًّا مبينًا، ورد الغنيَّ العزيز مسكينًا، وكم فرَّق بين الحبيب وحبيبه، فأفسد عليه عيشته، ونغَّص عليه حياته، وكم سوَّد من وجوه، وطمَس من نور، وأعمى من بصيرة، وأفسد من عقل، وغيَّر من فطرة، وجلب من معرَّة، وقطعت به السبل، وعفَت به معالِم الهداية، ودرست به من آثار النبوة، وخفِيت به من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهذا وأضعافه ذرَّة من مفاسده، وجَناح بَعُوضة من مضارِه ومصالحه، ألا فما يجلبه من غضب الرحمن، وحرمان الجنان، وحلول دار الهوان، أعظم من ذلك، وهل ملئت الجحيم إلا بأهل الكذب الكاذبين على الله وعلى رسوله وعلى دينه، وعلى أوليائه، المكذبين بالحق حمية وعصبية جاهلية؟ وهل عمرت الجنان إلا بأهل الصدق الصادقين المصدقين بالحق؟ قال تعالى: “فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ”. الزمر: 32 – 34(1).

 

____________________________________

(1) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة 2/ 74.

Exit mobile version