كيف نجحت الحضارة الإسلامية في توظيف شبابها؟

– الإسلام حرك في الشباب وازع الفاعلية ونقلهم من مجتمع الغثاء إلى أمة الشهادة على الناس

– الذين التفوا حول الدعوة في بواكيرها الأولى وأسهموا في التمكين لها جلهم من الشباب

– زيد بن ثابت أتقن لغة اليهود في 15 يوماً فقط امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم

– عبدالرحمن الداخل ركب البحر ودخل بلداً أعجمياً ومصّر الأمصار وجنَّد الأجناد وأقام ملكاً عظيماً بعد انقطاعه

– محمد الفاتح تمكن من فتح القسطنطينية في الرابعة والعشرين من عمره بعد أن استعصت قروناً على المسلمين

– رغم أن سيبويه مات بعد الثلاثين بقليل فإنه خرج على الأمة بكتابه «الكتاب» الذي يعد عمدة العربية

 

حثت تعاليم الشريعة المترسمين خطاها على اغتنام عمر الشباب قبل هجوم الشيخوخة، ثم أمرت بالحفاظ على العمر والوقت، وجعلت المستظلين بظل العرش بعضهم شاب نشأ في عبادة ربه، فلم تمله الأهواء ولم تجرفه الشهوات، ولم ييأس من روح الله، فروح اليأس بمستوياته المختلفة التي تدب في أوصال الشباب اليوم لا مبرر لها، فلسنا نتعبد لله تعالى على شرط التمكين والظهور في الأرض، وإن كنا نسعى لهذا بكل سبيل، لكننا نتعبده بالأصالة بأداء ما علينا، والقيام بحقه تعالى في كل الأزمنة، وأعظم ما ينبغي اغتنامه في هذه الأزمنة أن يسلك المرء سبيل الظاهرين على الحق الذين لا يضرهم من خذلهم، وأن يعيش في متن الحياة لا في حواشيها وأطرافها، وأن يخلع رداء اليأس ويسلك طريق الجد حتى يظفر بواحدة من المكرمتين؛ إما حياة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدا.

المتتبع للسيرة النبوية يتأكد أن دعوة الإسلام التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم لم تسر بين مَن بُعث فيهم سرياناً سهلاً، بل وجد معارضة حامية الوطيس، شملت كل أنواع الصدود والمدافعة بكل سبيل تمكن منه أعداؤه.

وهنا تطرح الأسئلة نفسها على مسار الدعوة على النحو التالي:

هل كان انتصارها وإقامة الدولة وفق معجزات تذلل الصعاب؟ أم سارت وفق تدبير وتخطيط وإدارة وإرادة كانت تسري في حملة الدعوة؟

وهل كان توظيف طاقات الشباب ووضعها في مكانها هو الأساس، أم كانت هناك معايير أخرى؟

وهل استثمرت الدعوة الطاقات المعطلة وأعادت لها الفاعلية الخليقة بها؟ وهل استجاب الشباب عبر التاريخ الإسلامي للفاعلية، أم ركنوا للدعة والراحة، وانتقلوا بالحياة من كونها وسيلة إلى أن جعلوها غاية حتى استعبدتهم الأمم؟

يهمنا في هذا السبيل أن نرصد كيف أسست الدعوة في نفوس الشباب قيمة استثمار العمر، وتحولت بالمؤمنين الجدد من أناسٍ يعيشون على هامش الحياة ويلهثون خلف الشهوات إلى قادة يصنعون التاريخ.

لقد كان تأثير الشباب في بداية الدعوة بالغ الأثر، إذ حرك فيهم الإسلام وازع الفاعلية، ونقلهم من مجتمع الغثاء إلى أمة الشهادة على الناس، وانتقلت بهم الدعوة من عادات مجتمع أبي جهل وأبي لهب وحمالة الحطب، إلى مجتمع المثل العليا التي صارت واقعاً حياً في حملة الدعوة الرجال والنساء على السواء، وكان لهذه النماذج الدور الفاعل في صناعة الأمة.

جعفر بن أبي طالب ورفاق «مؤتة»:

أسلم جعفر بن أبي طالب وهو في الحادية والعشرين من عمره، وترأس وفد المسلمين في الحبشة، وكانت حكمته سبباً مباشراً في استقرار المهاجرين هناك، وما إن قدم حتى فرح النبي صلى الله عليه وسلم بمقدمه قائلاً: «والله ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر»(1)، ثم لم يلبث أن كان أحد القادة في غزوة «مؤتة» التي استشهد فيها وهو في الحادية والأربعين، وكان ذهابه مع جيش «مؤتة» بعد قدومه بعام من الحبشة.

كان الذين التفوا حول الدعوة في بواكيرها الأولى وأسهموا في التمكين لها جلهم من الشباب، كان أول سفراء الدعوة هو مصعب بن عمير فتى قريش المترف، الذي عانق الدعوة في بداياتها وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى، ولما قدم أرسله النبي لأهل المدينة يعلمهم، فكان خير سفير، ثم حمل اللواء يوم «بدر»، ويوم «أُحد» فلقي الله فيه شهيداً، فتلا فيه النبي قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً {23}) (الأحزاب)، فلقد ذهب وما نال من الدنيا شيئاً سوى أن رضي الله عنه واختاره شهيداً في ريعان عمره.

كان شباب الإسلام يضربون المثل الأعلى في الشجاعة والجسارة والعطاء والتضحية بالنفس، وكان ميدان الجهاد أبرز الميادين لهذا البذل: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى «أُحد» وعرض عليه أصحابه رد من استصغر منهم، وكان ممن ردّهم سمرة بن جندب، وأجاز رافع بن خديج، فقال سمرة بن جندب لربيبه مري بن سنان: يا أبت، أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج وردَّني! وأنا أصرع رافع بن خديج، فقال مري بن سنان: يا رسول الله: رددت ابني وأجزت رافع بن خديج، وابني يصرعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لرافع وسمرة تصارعا»، فصرع سمرة رافعاً فأجازه(2).

بطبيعة الحال يذكر التاريخ أسامة بن زيد، حيث تولى بأمر رسول الله قيادة الجيش، وكان ابن ثماني عشرة سنة، ورجع من غزوته مظفراً منصوراً، كما يذكر التاريخ فتوحاً قام بها الشباب من أمثال محمد بن القاسم الثقفي الذي وصف بأنه كان واحداً من عظماء الرجال في كل العصور، حيث كاد أن يصل إلى الصين فاتحاً وقد تولى القيادة وهو في السابعة والعشرين من عمره.

زيد بن ثابت اجتهاد يبلغ الذروة:

يقدر بعض علماء النفس السوفييت أنه لو أتيح للإنسان استعمال 50% من قدراته العقلية لاستطاع أن يتعلم 40 لغة، وأن يدرس في فصل واحد مساقات دراسية في عشرات الكليات(3)، هذا النموذج الذي لا يمكن تصوره كانت نماذجه حية في شباب الدعوة، نجد منهم زيد بن ثابت، فحين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان زيد ابن إحدى عشرة سنة، وفي هذه السن المبكرة أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم لغة اليهود العبرية، وكان زيد قد عرضه قومه على النبي صلى الله عليه وسلم، ليسمع منه بعض ما يحسنه يقول: فقرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعجبه ذلك، وقال: «يا زيد، تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمنهم على كتابي».

قال: فتعلمته، فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، وكنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كتب إليهم.

خمسة عشر يوماً هي مجموع ما احتاجه زيد ليتقن لغة اليهود قراءة وكتابة! لا شكَّ أنها همم طهر الإسلام نفوسها، وحرك كوامن القدرة فيها.

وإنا لنرى في دنيا الناس عشرات ممن يقبلون على الإسلام، وهم من غير العرب، فما تمضي عليهم شهور قليلة إلا وحفظوا كتاب الله كأبناء الإسلام، فالعبرة إنما تكون في العزيمة الصادقة والهمة التي تبغي الأجر وتريد السبق.

صقر قريش وتأسيس دولة الأندلس:

كانت دولة بني أمية قد سقطت وعبد الرحمن الداخل في التاسعة عشرة من عمره، ففر هارباً من موطن الخلافة خوفاً من تتبع العباسيين له، حتى وصل للمغرب، وظل يثابر حتى أقام لبني أمية إمارة كبيرة في الأندلس سنة 138هـ؛ أي أنه سيطر على الأندلس وجعلها مقراً لملكه وهو في الخامسة والعشرين من عمره، لم يسانده جيش، ولم تدعمه قوة، سوى أنه أعمل الحيلة وأحسن الإدارة، كان أبو جعفر المنصور يصفه بأنه «صقر قريش»، قائلاً: تخلص بكيده عن سن الأسنة وظباة السيوف، يعبر القفر، ويركب البحر، حتى دخل بلداً أعجمياً منفرداً بنفسه، فمصّر الأمصار، وجنَّد الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكاً عظيماً بعد انقطاعه، بحسن تدبيره وشدة شكيمته(4).

محمد الفاتح عبقرية التخطيط:

ظلت الأجيال المسلمة تتحرك وفق أفق ما قرؤوه من نصوص الوحي، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش»(5)، استعصت القسطنطينية قروناً على المسلمين، لكن اليقين بفتحها لم يتطرق إليه شك في نفوسهم، حتى حان تحقيق النبوءة، وكانت على يد السلطان محمد الفاتح الذي ولد عام 833هـ، وتنازل له والده عن الحكم عام 855هـ، في الثانية والعشرين من العمر بدأت بالفاتح حياة حافلة بالجهاد والمثابرة.

وكان الأفق الذي يتحرك به محمد الفاتح هو فتح المدينة التي صاحبتها البشارة النبوية، كان فتحها بنبوءة صادقة، عمل على تحقيقها تخطيطاً ومثابرة وجهداً، فحين حصّنها أهلها ومنعوا دخول السفن كان محمد الفاتح يمهد للسفن طريقاً برياً تتجاوز السلاسل الموضوعة لمنع السفن، بأن مهد الأرض وسوى في ساعات قليلة الطريق وأتى بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة يسهل بها انزلاج السفن وجرها، وبهذه الكيفية أمكن نقل نحو سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من البيزنطيين، فتفادى بتمرير السفن براً الحاجز الحديدي الذي يمنع مرورها بالماء.

ويعقب مؤرخ غربي يسمى «دوكاس» على ذاك قائلاً: «ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الفاتح يحول الأرض إلى بحار تعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الإسكندر الأكبر»(6).

تمكن محمد الفاتح من فتح المدينة عام 857هـ، وحولها عاصمة الدولة، وكان عمره وقتئذ 24 سنة.

لم يكن محمد الفاتح شذوذاً عن قاعدة، بل كان امتداداً لأمة أنجبت قطز ابن التاسعة والثلاثين صاحب صيحة «وإسلاماه» الشهيرة، يقول صاحب قصة الحضارة تعقيباً على انتصاره في «عين جالوت»: «زفّت البشرى إلى كل مكان في بلاد الإسلام وفي أوروبا نفسها، وابتهجت نفوس الناس على اختلاف أديانهم ومذاهبهم.. وكانت عاقبتها أن هزم المغول، ونجت بلاد الشام للمماليك، ولعلها أيضاً احتفظت للمسيحية بأوروبا» (7).

تولى بيبرس بعد مقتل قطز العائد من انتصاره وكان عمره 38 سنة، فقد ولد عام 620هـ، وتقلد السلطنة عام 658هـ، وتقول المصادر: إنه أحيا خلال حكمه الخلافة العباسية في القاهرة بعد ما قضى عليها المغول في بغداد(8)، وأنشأ نُظُماً إدارية جديدة في الدولة، اشتهر بيبرس بذكائه العسكري والدبلوماسي، وكان له دور كبير في تغيير الخريطة السياسية والعسكرية في منطقة البحر المتوسط.

لم يتوقف عطاء الشباب في ظل القيادة، بل كان عطاء الشباب أوفر وأكثر في ميادين العلم قاطبة؛ علوم معارف الوحي والفلسفة وسائر العلوم الأخرى.

سيبويه عالم العربية الأكبر:

تتلمذ سيبويه على يد عالم العربية الخليل بن أحمد، ولما مات الخليل سعى سيبويه إلى عليَّ بن نصر الجهضمي، فقال له: يا عليُّ، تعالَ نتعاون على إحياء علم الخليل فتقاعس عليٌّ، وخذَل سيبويه فيما أراده.. فانبَرَى بكُلّ ما في قلبه من الديانة والأمانة والحب والإخلاص، وجمع أشتات علم الخليل وخرج على الأمة بكتابه «الكتاب» الذي يعد عمدة العربية، فإذا علمنا أن سيبويه مات وقد جاوز الثلاثين بقليل، فكم كان عمره حين طلب العلم، وكم هي أمة عظيمة حين حمل لغتها وأتقنها وأتقن قواعدها من ليس من جنسها، وحين تلقت منه كتابه شاكرة له حاملة لجميله، دون أن تنظر لا لجنسه ولا لقوميته ولا لعمره.

 

_______________________________

(1) أخرجه الحاكم (4249) وصححه، ووافقه الذهبي.

(2) تاريخ الأمم والملوك: 2/61.

(3) Frank Globe the Third Force، «New york: Pocket Books، 1970»، P.159. نقلاً عن: أهداف التربية الإسلامية، لماجد الكيلاني، ص 94.

(4) البيان المغرب، للمراكشي: 2/59.

(5) الحاكم (8300) وصححه، ووافقه الذهبي.

(6) تاريخ الدولة العثمانية، يلماز أوزنتونا، ص 135، نقلاً عن الدولة العثمانية للصلابي، ص 143.

(7) قصة الحضارة، ول ديورانت: 14/260.

(8) السلوك لمعرفة دول الملوك، للمقريزي.

Exit mobile version