أوروبا.. وتنامي الاهتمام باللغة العربية

يوافق الثامن عشر من ديسمبر اليوم العالمي للغة العربية بقرار من منظمة الأمم المتحدة أصدرته عام 1973، يتم بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في هذه المنظمة، ومنذ ذلك التاريخ، والاهتمام باللغة العربية يتزايد رسمياً وشعبياً في مختلف القارات، بل اللافت للانتباه الاهتمام الخاص بالعربية خارج إطار العالم العربي، في حين يُلاحظ نوع من الترهّل في استخدام اللغة العربية الفصحى داخل الفضاء العربي مقابل انتشار اللهجات العامية في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، بل حتى في برامج التعليم، ومقابل إدخال لغات أجنبية إما في شكل خليط من اللغة المزدوجة أو بالتخاطب باللغة الأجنبية بما يُضعف قيمة اللغة العربية لدى الأجيال الصاعدة وما ينجرّ عن ذلك من تداعيات ثقافية سلبية.

مكتبات أوروبية تزخر بمخطوطات عربية

أما في القارة الأوروبية، فإن الاهتمام باللغة العربية قديم؛ إذ يرى فيليب دي طرازي، مؤلف كتاب “اللغة العربية في أوروبا”، أن ظهور اللغة العربية في أوروبا يعود إلى القرون الوسطى، وتحديداً إلى القرن العاشر للميلاد.

ويقول في هذا الصدد: “فمنذ ذلك الحين أخذ الأوروبيون يحشدون في خزائنهم ما ألَّفه العرب في الطب والفلسفة والرياضيات والطبيعيات والكيمياء والأدب واللغة، وجعلوا يترجمونها إلى لغاتهم، ولا سيما إلى اللغة اللاتينية التي كانت وما برحت لغة العلم عندهم، ثم ازداد هذا الاهتمام على أثر احتكاك الإفرنج بالشعوب الشرقية في أثناء الحروب الصليبية (1096 – 1291)، فكانوا يبتاعون ما تقع عليه عيونهم من المخطوطات الشرقية؛ لاعتبارهم إياها من الآثار القديمة الغريبة الشكل واللسان والمجهولة في بلادهم”.

وعلى ذكر المخطوطات، فإن مكتبات أوروبا تزخر بكنوز من هذه المخطوطات، ومن بينها المكتبة الأمبروزيانية في ميلانو بإيطاليا (Biblioteca Ambrosiana).

وقد تركت الحقبة التاريخية في العلاقات الأوروبية- الإسلامية بصمات ثقافية واضحة على المستوى الثقافي الحضاري الأوروبي، سواء من حيث تأثر اللغات الأوروبية باللغة العربية أو من حيث الجاذبية التي تُحدثها العربية لدى نسبة من الرأي العام، ولعل الاهتمام بجمالية الخط العربي دليل على تناغم ثقافي بين العقلية الأوروبية المُحبّة للفن الجمالي وروح الإبداع، وما تمثله اللغة العربية من حاضنة للمخزون الحضاري الذي أشع على أوروبا منذ القرون الوسطى، وللعلم؛ فإن اللغة المالطية المستعملة اليوم في جزيرة مالطا وسط البحر المتوسط تحتوي على الكثير من الكلمات والمصطلحات العربية، وذلك ناتج عن الفتح العربي الإسلامي عام 870م على يد الأغالبة فاتحي جزيرة صقلية.

الحضور الإسلامي في أوروبا وعودة الاهتمام بالعربية

وبتطور الزمن، ظهرت معطيات جديدة أثرت في النظرة الأوروبية للغة العربية، وعلى رأسها كثافة الحضور الإسلامي في أوروبا منذ الستينيات، وما ترتب عنه من احتكاك أبناء العرب والمسلمين بأبناء الأوروبيين في المدارس والجامعات، وعلاقات الجوار والعمل، وانتشار المداس العربية الخاصة، وظهور قنوات وإذاعات عربية يديرها عرب في أوروبا، علاوة على كثافة العلاقات الاقتصادية والاستثمارية الأوروبية مع البلاد العربية وما يترتب عنها من صفقات تجارية وعسكرية، كل ذلك أثار اهتمام النخبة الفكرية والسياسية الأوروبية باللغة العربية، وتم إنشاء مؤسسات أهمها معهد العالم العربي في باريس عام 1980 الذي يهدف إلى تطوير معرفة العالم العربي وبعث حركة أبحاث معمقة حول لغته وقيمه الثقافية والروحية.

وتضم مكتبة المعهد رصيداً مهمّاً من المصادر التراثية للثقافة العربية والمتعلقة أيضاً بالعالم العربي المعاصر، يشمل 65 ألف كتاب ووثيقة، من بينها 1880 كتاباً بالعربية هي أمّهات الثقافة العربية التراثية والمعاصرة، وتتراوح بين الدين والفلسفة والأدب والتاريخ ودلائل المخطوطات، و1360 مجلّة، و24 ألف مقالة تشمل جميع ميادين الفكر والاختصاص، و60 طريقة وأسلوب لتعليم اللغة العربية الفصحى، مرفَقَة بأشرطة مسجَّلة.

الشعبوية المتصدية للعربية

بيد أن هذا الاهتمام باللغة والثقافة العربيتين يجد تصدياً كبيراً من أنصار الشعبوية المتنامية في أوروبا، ويتمثل جوهر المشكل في ربط هؤلاء مسألة اللغة بالدين الإسلامي، وبالتالي يضغطون من أجل تهميش اللغة العربية بكل الوسائل ومنع تبني وزارات التعليم لتوجه يوحي بتقدير خاص بهذه اللغة، والنتيجة تعطل مشاريع لإدراج اللغة العربية ضمن اللغات الحية التي يتم تدريسها للطلبة وغيرها من المشاريع، ولئن تعتبر البلدان الإسكندنافية الشمالية أكثر انفتاحاً على التعددية الثقافية مقارنة بالبلدان اللاتينية وجنوب القارة الأوروبية، فإن موجة الشعبوية العنصرية والشوفينية (المنغلقة على النزعة القومية) المصحوبة بنزعة دينية متعصبة للمسيحية تمثل تحدياً كبيراً أمام الانتشار الطبيعي للعربية في الفضاء الأوروبي.

لكن منطق الدولة والعلاقات الدولية وحجم المصالح المتبادلة بين أوروبا والعالم العربي الإسلامي يدفع باتجاه البحث عن صيغة توفيقية بين الاهتمام باللغة العربية انطلاقاً من قناعة بدورها كأداة تواصل مع الحرص على عدم إبراز الأبعاد الثقافية والحضارية والدينية لهذه اللغة، في هذا السياق؛ تسعى الدول الأوروبية ذات الوزن الإستراتيجي إلى فتح قنوات تواصل مع العالم العربي من أجل إيصال رسائل لمنطقة تقع في قلب العالم وتمتلك مقدرات كبرى، ومن الأمثلة إحداث قناة تلفزية بالعربية مثل “فرانس 24″، وغيرها من القنوات لمخاطبة الشعوب العربية.

ظاهرة إقبال أبناء العرب والمسلمين على العربية

أما على مستوى الحضور الإسلامي في أوروبا، فإن تنامي الاهتمام باللغة العربية بارز من خلال اهتمام الأولياء المتزايد بتعليم أبنائهم هذه اللغة، إما بدافع ديني انطلاقاً من كون العربية هي لغة القرآن الكريم، أو بدافع ثقافي للحفاظ على عنصر التواصل مع ثقافة البلد الأصل للوالدين.

كما يُلاحظ إقبال نسبة من أبناء العرب والمسلمين على تعلّم اللغة العربية وشغفهم بها في إطار صحوة دينية في صفوف الشباب أساساً، وشعورهم بأهمية اللغة العربية كعنصر مهمّ في إثبات هويتهم الإسلامية، ويتجلى ذلك من خلال ظاهرة انتشار تعليم العربية داخل المساجد في نهاية الأسبوع، أو إنشاء المدارس والمؤسسات التعليمية الحرة، وتزامن تنامي مثل هذا الاهتمام مع مراجعات كبرى في مناهج تعليم العربية بما يجعلها مواكبة للبيئة الأوروبية بعد أن كان الاعتماد سابقاً على مناهج مستوردة من البلاد العربية التي تبيّن مع الزمن تباينها مع عقلية أبناء تربّوا وترعرعوا في بيئة أوروبية لها خصوصياتها، وما يستوجبه من عملية تقويم في الطرق البيداغوجية والمنظومة التعليمية شكلاً ومضموناً؛ الأمر الذي يفسر الحاجة إلى دورات تكوينية متواصلة لمدرّسي اللغة العربية من أجل اكتساب مهارات متقدمة.

وفي الجملة، يمكن القول: إن المخاض الحضاري الذي يعيشه العالم -وأوروبا جزء منه- يقود الكتلة الأوروبية المرتبطة مصالحها كثيراً بالمنطقة العربية إلى البحث عن آليات للاهتمام باللغة العربية في ظل تدافع داخلي بين دعاة تهميش هذه اللغة خوفاً من أبعادها الدينية والثقافية والحضارية، وبين دعاة الانفتاح على التعددية الثقافية والتفاعل مع جمالية هذه اللغة بما يثري المنظومة الثقافية الأوروبية.

Exit mobile version