السينما التركية الجديدة.. قراءة في ضوء إستراتيجيات القوة الناعمة

بات مفهوم النهضة في العصر الحديث شاملاً للثقافة والفنون، فلا معنى لأي تقدُّم دون رعاية الإبداع الوطني ليكون معبراً عن هوية المجتمع الصاعد وثقافته؛ ولتحمل الفنون وازدهار الآداب رسالة الشعب

إلى العالم بقيمها وأخلاقها ورؤاها. 

 يعد مصطلح «القوة الناعمة» (Soft Power)، الذي عمّقه منظّر السياسة والعلاقات الدولية «جوزيف ناي» في العديد من كتبه، أحد مكونات القوة في الدولة، فقوة الدولة ليست القوة العسكرية والاقتصادية فقط، وإنما تتسع لتشمل مختلف القدرات العلمية والإبداعية والفنية المعبرة عن خصوصية المجتمع، التي هي قوة مضافة تتخطى حدود الدول لتؤثر في ثقافات الشعوب الأخرى.

ويحدد «ناي» المصطلح أكثر بأن القوة الناعمة في معناها الأساسي تعني تحقيق هدف ما دون إكراه أو تكلفة مادية، بل يشير إلى أن هناك قطاعات تتطلب القوة الناعمة مثل قطاع السياحة، الذي يحتاج إلى سردية جذابة تُرَوَّج بواسطة أعمال سينمائية وتلفازية، وهي مهمة لن تقوم بها بأي حال القوة الصلبة (العسكرية والاقتصادية).

فالقضية ليست في كثرة الإنتاج، ولا ضخامة التمويل، وإنما في نوعية القيم والثقافة التي ستحملها هذه الفنون إلى شعوب العالم، فلا بد أن تكون قيماً سامية، وأخلاقاً راقية، تعبر عن ثقافة المجتمع وهويته، وتكون نابعة من نظام سياسي له مصداقية في خطابه، وشرعية سياسية مستمدة من إرادة الشعب، وليست سلطة جبرية أو قسرية.

وهو ما يؤكده علي حسين باكير عن القوة الناعمة التركية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وقد نتجت عن إصلاحات سياسية واقتصادية وحقوقية في بنية السلطة ومنظومتها؛ ضمن سعي تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وقد تلكّأ الأخير –ولا يزال- في قبول تركيا عضواً به؛ مما دفع قادة حزب العدالة والتنمية إلى تبني إستراتيجية الانطلاق إلى المحيط الجغرافي شرقاً وجنوباً؛ ففي الشرق تحركت القوة الناعمة التركية نحو شعوب الأوروآسيوية القاطنة شمال ووسط وغرب أوراسيا، المتحدثة بلغات تنتمي لعائلة اللغات التركية، ومنها الآذريون والقرغيز والكازاخ والتتار والقرقيز والتركمان والأويجور والأوزبك، وكذلك السلاجقة والخزر والمماليك.

وفي الجنوب، نشطت السياسة نحو الأقطار العربية السُّنية، التي كانت تابعة للدولة العثمانية سابقاً، واستغلت تركيا في ذلك موقعها الجيوستراتيجي، بوصفها جسراً رابطاً بين الحضارات والأديان والقوميات والمصالح الاقتصادية بين آسيا وأوروبا، وفق إستراتيجية واضحة المعالم والأهداف، وبأطر سياسية واقعية، لتضع أسساً للتعاون الإقليمي، ورافق كل هذا قفزات اقتصادية وعسكرية هائلة، لتصبح التجربة التركية مصدر إلهام للنهضة للشعوب العربية والإسلامية قاطبة (تركيا في ظل التحولات الجيوبوليتيكية في الشرق الأوسط: أفول القوة الناعمة وصعود القوة الصلبة، علي حسين باكير)، خاصة أن الفكر الإسلامي هو المرجعية الفكرية والقيمية في تنظيرات حزب العدالة والتنمية.

وكان الملمح الأهم لها هو التصالح مع الماضي العظيم المتمثل في تاريخ الدولة العثمانية، وبطولاتها وفتوحاتها، وامتدادها في ثلاث قارات، ممتزجاً بالاعتزاز بالهوية القومية التركية بدلالته الإيجابية (الشيخ الرئيس مؤذن إسطنبول ومحطم الصنم التركي، شريف تغيان)، بعيداً عن المفهوم العلماني العنصري الأتاتوركي في نظرته للقومية وفق المنظور الغربي، الذي يجعلها عنصرية ذميمة وتكبراً مقيتاً، في سعيه لعلمنة تركيا وتغريبها، وتغييب ماضيها الإسلامي العريق.

العصر الذهبي

جاء صعود السينما التركية الجديدة في العقد الأول من الألفية الثالثة متواكباً مع تركيا الصاعدة، لتعيش السينما التركية عصرها الذهبي، من خلال إنتاج مئات الأفلام سنوياً، خاصة أنها لاقت دعماً غير محدود من أجهزة الثقافة الرسمية، عبر بناء قاعات السينما وشركات الإنتاج والكوادر الفنية، كما تواصل عرض الأفلام في قنوات التلفزيون المحلية التي بلغ تعدادها 281 قناة، تشمل 265 قناة خاصة، و16 قناة حكومية، بما يؤكد قدرتها على إشباع الذائقة الشعبية والنخبوية للشعب التركي، مع تمتع هذه القنوات بقدر كاف من التمويل الحكومي لتعزيز القوّة والنفوذ الجيوسياسي لتركيا، وتنفيذ برامج القوة الناعمة ممثلة في منح جوائز ومساعدات مالية سخية لدعم المنتجين والمخرجين، لإيجاد منتجات درامية وإعلامية داعمة لصورة تركيا كقوّة اقتصادية ووجهة سياحية لدى المتلقي الأجنبي (الدراما التاريخية التركية: تحليل مضامين ومرتكزات القوة الناعمة، سهام الدريسي).

وواكب ذلك انتعاش قطاع الإعلان، وتنوّع موضوعات الأفلام، وجودة الصناعة، خاصة بعدما حُلَّت المشكلات الفكرية المتعلقة بهوية الدولة الإسلامية وقيمها، بما لا يتعارض مع مبادئ العلمانية الحديثة في صورتها الإيجابية، في دعم الحريات وحقوق الإنسان، حيث خضعت السينما التركية منذ نشأتها في أوائل القرن العشرين إلى الرؤية العلمانية المعادية لروح الإسلام والتاريخ العثماني وهوية الشعب.

ولذا، اهتمت المسلسلات التركية المدعومة من الدولة بتقديم صورة رائعة للتاريخ العثماني، مثل مسلسل «قيامة أرطغرل» (2014م) في أجزائه العديدة المعبّر عن مراحل تأسيس الدولة العثمانية على أسس الإسلام والتمدد ونشر الإسلام غرباً في أراضي الدولة البيزنطية وأوروبا، وكذلك مسلسل «السلطان عبدالحميد (2015م)، الذي أبانَ روح الوحدة الإسلامية بشكل ملحمي، ورسّخ قيمة الجهاد للدفاع عن أراضي الأمة ومقدساتها، والسبل القويمة في إدارة الشأن العام بالحق والعدل، من خلال  استعراض مسيرة شخصيات قيادية فذة في التاريخ العثماني.

والمفارقة أن هذا الإنتاج الدرامي الضخم عاد بأرباح هائلة على الدولة التركية قُدِّرت بـ350 مليون دولار عام 2015م، متوازياً مع أرباح السينما التركية المتدفقة، وليمثّل قطاعا التلفاز والسينما مجالين للاستثمار المربح، وباتت تركيا الدولة الثانية عالمياً في تصدير المسلسلات؛ وذلك عائد إلى إدارة هذين القطاعين برؤية اقتصادية واعية، جمعت ما بين الحفاظ على الهوية وترويج قيم الدولة وسياستها، مع نشر صورة رائعة عن تركيا الحضارة والنهضة والسياحة، وأيضاً قدمت محتوى فنياً راقياً، بعيداً عن الإسفاف والابتذال وترويج أنماط الحياة الغربية.

وكانت تلك مشكلة السينما التركية في الحقبة العلمانية، التي أسسها «كمال أتاتورك» بحزب علماني واحد، حيث ساير الإنتاج السينمائي -كما يذكر «يوسف كابلان»- الأيديولوجية الرسمية للدولة التي أجبرت الكتّاب والمثقفين على إيجاد مجتمع متخيل يعكس الأبنية الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع الغربي، ومنعت هذه النزعة وجود سينما قومية حقيقية، تستند إلى هوية الشعب وخصوصيته الثقافية، مما أعاق تطور السينما التركية، في ظل قانون رقابة مشدد، مستوحى من النموذج الفاشي الإيطالي، مما كان له الأثر المقيد والمدمر على السينما التركية (السينما التركية، يوسف كابلان).

وقد تبدل الوضع في حقبة رئيس الوزراء «عدنان مندريس» (1950 – 1960م)، مع نشوء التعددية الحزبية، وارتفاع سقف الحريات، فتضاعف الإنتاج السينمائي من 100 فيلم عام 1957م، إلى 150 فيلماً، ثم 200 فيلم؛ ليكون برهاناً على أن انتعاش الفنون، ونهضة الإبداع، وتميّز المبدعين مرتبط باتساع منظومة الحريات، ودعم الديمقراطية، خاصة أن «مندريس» سعى لإعادة الهوية الإسلامية.

إلا أن السينما التركية عانت من الإسفاف والتسطح والابتذال الأخلاقي، بعد الانقلاب العسكري في عام 1960م، حيث شهد المجتمع صراعات ثقافية وفكرية، والإمعان في التغريب والاستبداد، وانتشار الإحباط واليأس، مما أفضى إلى حرب أهلية استمرت حتى أواخر السبعينيات، شهدت السينما فيها انتكاسة غير مسبوقة.

السلطان الفاتح

نقول ذلك، ونحن نتطلع الآن إلى السينما التركية الجديدة، التي رسّخت هوية ثقافية مميزة لها بين الشرق والغرب، وأوجدت مكانة راقية في السينما العالمية، بجانب التميز الهائل في تقنيات التصوير والإخراج، وكتابة السيناريو المحكم، وكانت ذروة الإنتاج في الأفلام التاريخية التي جسّدت منجزات الدولة العثمانية في أوج مجدها، مثل فيلم «السلطان الفاتح» (2012م)، من إخراج «فاروق آكصوي»، الذي يؤرخ لفتح السلطان محمد الثاني لمدينة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية المحصنة المنيعة، ويُعَدُّ هذا الفيلم الأعلى تكلفة في تاريخ السينما التركية، حيث بلغت تكلفته أكثر من 18 مليون دولار.

ونشاهد في الفيلم بسالة محمد الفاتح وذكاءه العسكري، على الرغم من رفض الصدر الأعظم للدولة (رئيس الوزراء) هذه المحاولة؛ خوفاً من نقمة أوروبا المسيحية ضد الدولة، ولكن محمد الفاتح يعلنها جهراً: «إما أن آخذ القسطنطينية وإما أن تأخذني هي»، ومن ثم يعدّ حملته، مستعيناً بالمهندس المجري «أوربان»، الذي يعصي أوامر الإمبراطور البيزنطي ويتعاون مع محمد الفاتح في تصنيع مدافع ضخمة لدك أسوار القسطنطينية، وقد استنجد الإمبراطور الأرثوذكسي المذهب بالبابا وبملوك أوروبا الكاثوليك مما أغضب جمهور الأرثوذكس وجعلهم يقومون بأعمال مضادة لقراره، وقد فضلوا حكم المسلمين المتسامح على التعصب المذهبي الكنسي، وأخيراً انتصر محمد الفاتح، ويأتي الفيلم التاريخي العظيم «ديليلر» (Dililer) (2018م) معبراً عن تسامح العثمانيين مع البلدان الأوروبية المفتوحة في القرن الخامس عشر، حيث تقع أعمال شغب ومظالم وفتنة عظيمة في إحداها، فيرسل محمد الفاتح سبعة من أفضل محاربيه لوأد الفتنة، ومعاقبة المفسدين، معلياً قيمة الإسلام، وتدور في ذلك معارك ملحمية بتصوير وإخراج مذهلين، ليدرك العالم رسالة الإسلام التي تحمي غير المسلمين، وتحترم عقيدتهم، دون إكراه، وليعاد تقديم التاريخ العثماني في أزهى مراحله ومحطاته، بدلاً من التشويه المتعمد، وتصوير الدولة العثمانية على أنها دولة رجعية متخلفة مستبدة. 

بين الفلسفة والتاريخ

كما ظهرت أفلام فكرية فلسفية، عبرت عن واقع الحياة المحلية في تركيا، ومشاعر الإنسان التركي وأفكاره، وهو ما تجلى في فيلم «البيات الشتوي» (Sleep Winter) (2014م)، وحصل على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، وهو من إخراج «نوري بيلجي جيلان»، وهو أحد المخرجين الموهوبين المتميزين منذ حقبة التسعينيات، ويصور الفيلم الحياة في فندق قرية جبلية خلال فترة الشتاء، حيث يذهب إليها الممثل المسرحي «آيدن»، الراغب في كتابة كتاب، ومعه زوجته «نيهال»، وشقيقته «نيكيلان»، التي تطلقت مؤخراً، وتعاني من آثار الطلاق، وفي الصقيع الشتوي، تخرج مكنونات الإنسان، ومشاعره المكبوتة، مع اصطدام الشخصيات، ويشتد نقاشهم حول الأمور المتواجدة في المجتمع مثل الفقر، ثم الخير والشر وكيفية تعامل الإنسان مع مواقفهما.

ويمثّل فيلم «آيلا» قمة الإبداع السينمائي التركي بوصفه دراما حرب تاريخية، وقد حصل على جائزة أفضل فيلم أجنبي في جوائز الأوسكار الأمريكية (2017م)، وتدور قصة الفيلم حول الرقيب التركي «سليمان ديلبيرليغ»، الذي شارك مع القوات التركية في الحرب الكورية عام 1950م، حيث عثر في إحدى الغابات على طفلة كورية عمرها أربعة أعوام شبه عارية، تكاد تتجمد من الصقيع، وقد قتل والداها في الحرب، فأخذها إلى معسكره، واعتنى بها، وأسماها «آيلا» (معناه القمر باللغة التركية)، فقد كان وجههاً مستديراً ومضيئاً كالقمر، وعلمها اللغة التركية، وباتا كلاهما صديقين، واعتادت البنت على الحياة في المعسكر التركي، وعاملها الجنود كابنة لهم، ثم اضطر سليمان إلى إيداعها أمانة لدى أسرة كورية، بعدما اضطر إلى المغادرة مع قواته التركية.

الفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية، وأبطالها أحياء إلى يومنا، وكان «سليمان» قد أخرج صورة لـ«آيلا» في زيارة له إلى القنصلية الكورية في إسطنبول، وروى قصته معها، فهي حية في قلبه، مما دفع السلطات الكورية للبحث عنها، ووصلوا إليها، وعمرها 65 عاماً، وقد أصبحت أماً لولدٍ، وجدّةً لحفيدين وتعمل في مصبغة، وحدثت المفارقة حينما قامت «آيلا» بزيارة والدها المعنوي «سليمان» في مستشفى بإسطنبول، حيث روى الطبيب الخاص بـ«سليمان» الذي كان فاقداً الوعي لإحدى القنوات التركية أن «سليمان» لم يكن ليستجيب لأحد أبداً، إلا أنه استجاب لملامسة «آيلا» له عندما زارته، في مشاعر أبوية جياشة.

وهكذا، تحمل السينما التركية الجديدة قيماً إنسانية رفيعة، عنوانها الرحمة والتسامح والمؤاخاة، التي هي لب الإسلام ديناً وفكراً وقيماً وحضارة.

Exit mobile version