فرنسا.. عقلاء يصرّحون: لا معنى لحرية تعبير تزرع الكراهية وتستفز المشاعر الدينية

لم يهدأ الجدل في فرنسا حول مبدأ حرية التعبير وحدودها منذ أن عمدت صحيفة “شارلي إيبدو” إلى إعادة نشر الرسوم المسيئة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بمناسبة محاكمة متورطين في أعمال إرهابية قبل خمس سنوات لها علاقة بنشر نفس الرسوم، علماً بأن إعادة نشرها تسببت في أعمال إرهابية جديدة، والدخول في حلقة مفرغة من الاستفزاز والعنف.

الجديد هذه المرة، تزامُن هذه الأحداث مع مشروع خطة تعدّ لها دوائر القرار في فرنسا تحت مسمى دعم العلمانية وتثبيتها في سياق دعوة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إلى محاربة ما وصفه بالانعزالية أو الانفصالية، وخلال ذلك؛ تصاعدت وتيرة الخطاب السياسي والإعلامي في إشارات واضحة إلى المكوّن الإسلامي، الأمر الذي نتج عنه توتر الأجواء داخل فرنسا، وتوتر العلاقات الفرنسية مع العالم الإسلامي.

يعود جوهر المشكل والجدل الدائر حول نشر الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم بفرنسا إلى تفاوت المواقف في مسألة حدود حرية التعبير، مع الاتفاق بين كل الأطراف على أن حرية التعبير من حيث المبدأ لا نقاش فيها، وأنها ركن من أركان وقيم الجمهورية الفرنسية كما يُرَوّج له سياسياً وإعلامياً.

وهنا نتطرق إلى مواقف لعقلاء من أوساط دينية وسياسية ومثقفة، باعتبارها نماذج للجدل بشأن حرية التعبير وتداعياتها.

على المستوى الديني: 

صرح رئيس أساقفة تولوز الأب “لو غال” (Le Gall): لا يمكن أن نسخر من الأديان دون عواقب وخيمة، وأضاف أن نشر الرسوم الكاريكاتيرية لـ(النبي) محمد خطير، ويرقى إلى صب الزيت على النار، وعبّر عن استنكاره لحرية الاستهزاء بكل الأديان في فرنسا، وقال: إن حرية التعبير لها حدود مثل كل حرية يتمتع بها الإنسان، مدافعاً بدلاً من ذلك عن حرية أن نكون معاً، وأن نتحدث معاً، وأن نكون إخوة معاً.

وفي مقابلة مع صحيفة “نيس ماتين”، يوم السبت 31 أكتوبر الماضي، صرّح أسقف نيس الأب “أندريه مارسو” (André Marceau) بقوله: هناك هويات لا يمكن الاستهزاء بها بسهولة، في إشارة إلى الهوية الدينية، وأضاف: لا، أنا لست شارلي (إشارة إلى صحيفة “شارلي إيبدو” التي نشرت الرسوم السيئة للرسول صلى الله عليه وسلم)، أنا أندريه مارسو، دعونا نكُن نحن بقناعاتنا، وقال: إن هذه الرسوم ليست مشكلتي، بالطبع إن حرية التعبير مقدسة في فرنسا، لكن لنتحمل مسؤولية ما نعبّر عنه.

وفي تصريح لصحيفة “لوباريزيان”، أوضح الأب “جان لويس جيوردان” (Jean-Louis Giordan)، وهو مسؤول سابق في كاتدرائية نوتردام دي نيس، أنه غاضب من “شارلي إيبدو”، وأولئك الذين يشجعون على نشر رسومهم الكاريكاتيرية ضد الأديان، في هذه الحالة الإسلام ورسوله، وأضاف: أنا لست شارلي، وأنا غاضب من هذه الخطب التي تتستر بالدفاع عن العلمانية وحرية التعبير؛ فتجعل الأديان قذرة، وينتهي بها الأمر إلى إثارة مجانين، لكنه ردّ على من يلجأ إلى العنف للتعبير عن غضبه بقوله: إذا رسمت “شارلي إيبدو” صورة كاريكاتيرية للمسيح (وهو ما حدث بالفعل في عدة مناسبات)، سأكون آسفاً، لكن إذا شعرنا بالصدمة نذهب إلى المحكمة.

على المستوى السياسي:

قالت “مانون أوبري” (Manon Aubry)، النائبة الفرنسية في البرلمان الأوروبي عن حزب “فرنسا المُستعصية” في مقال نشر في الموقع الإخباري الفرنسي “ميديا بارت”: إن العلمانية ليست ذريعة ومبرراً لإثارة كراهية المسلمين في الصباح والظهيرة والمساء، وشددت “أوبري” على ضرورة الرد على وزير الداخلية الفرنسي “جيرالد دارمانان” الذي قال: إن بيع المنتجات الحلال يسبب التطرف، وكذلك على وزير التعليم “جان ميشيل بلانكار” الذي يرى أن الجامعات هي المكان الذي يوجد فيه أساتذة “إسلاميون”.

وذكرت “أوبري” أن فرنسا تشهد حالياً وبشكل غير مسبوق شرعنة للخطابات العنصرية، يعززها السياسيون اليمينيون، وغيرهم من وسائل الإعلام المتحيزة، على حد تعبيرها، وأعربت عن استنكارها لإغلاق الحكومة للجمعيات الإسلامية، من بينها منظمة “بركة سيتي”، وجمعية “التجمع ضد الإسلاموفوبيا بفرنسا” (CCIF)، معتبرة أن ذلك يصب في مصلحة اليمين المتطرف، وأنه بذلك لا يمكن محاربة الإرهاب بمعزل عن الأسس القانونية.

من ناحيته، لم يتردد وزير التربية والتعليم السابق “ليك فارّي” (Luc Ferry) خلال مقابلة مع إذاعة وقناة “franceinfo” من انتقاد الرسوم الكاريكاتيرية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم من خلال استهداف “شارلي إيبدو” ضمنياً، رغم أنه أحد مهندسي قانون العلمانية المشهور عندما كان وزيراً للتربية عام 2004م في عهد الرئيس “شيراك”، الذي يمنع من إبراز الرموز الدينية في المؤسسات العامة ومن أهمها المؤسسات التعليمية.

وقد صرح السياسي والفيلسوف الذي لا يؤمن بالحرية المطلقة بقوله: لسنا ملزمين من أجل تعليم حرية التعبير بإظهار رسوم كاريكاتيرية تصل إلى حدّ الإباحية، علاوة إلى كونها حقيرة وفيها أشكال من الإهانة، وقال: لو كنت مدرساً لوضعت الرسوم التي نشرتها “شارلي إيبدو”، ولكن لكل من عيسى، وموسى، ومحمد (عليهم السلام)، أو لبدأت بتقديم رسوم نشرها الرسام “شارل فيليبون” يستهزئ فيها بآخر ملوك فرنسا “لويس فيليب” (وكانت هذه الرسوم قد تسببت في جدل كبير وأزمة إعلامية وسياسية وصلت إلى حد محاكمة الرسام، وتعبيراً عن استنكاره للحد من حريته في التعبير، قام الرسام يوم محاكمته في 14 نوفمبر 1831م بتصوير الملك في شكل إجّاصة). 

على مستوى النخبة المثقفة:

كما ارتفعت أصوات في أوساط المثقفين مستنكرة حرية التعبير غير المسؤولة، ومن بين هؤلاء عالم الاجتماع الفرنسي “رفائيل ليوجياي” (Raphaël Liogier)، أستاذ بمعهد الدراسات السياسية في “إيكس أون بروفانس” جنوب فرنسا.

يقول “ليوجياي”، في تصريح لوكالة “الأناضول” التركية: لا نستطيع أن نرى مدى عدوانية وعنف هذه الرسوم الكاريكاتيرية بالنسبة إلى المسلمين، وأوضح أن الرسوم الكاريكاتيرية بحق النبي محمد تشبه تلك التي رسمتها مجلات اليمين المتطرف أو المجلات الألمانية النازية بحق اليهود في ثلاثينيات القرن الماضي.

وتطرق “ليوجياي” إلى ظاهرة استسلام السياسيين للشعبوية بدلاً من التحلي بروح المسؤولية، إلى حدّ تبني سياسات معادية للإسلام ومؤيدة لليمين المتطرف، وشدّد على أن المسلمين في فرنسا يتعرضون لإهانات ممنهجة منذ 5 سنوات، رغم أنهم يريدون العيش بسلام في البلاد، لكن العلمانية أصبحت أداة للشعبوية منذ عام 2003م وحتى اليوم، وهذا أمر مقلق.

وذكر أن الجهات التي تدافع عن الحريات الدينية في البلاد يتم استهدفها، والمرأة التي ترتدي حجاباً في فرنسا ينظر إليها على أنها إرهابية محتملة، وقد باتت الوسائل الإعلامية تبحث عن المشكلة في المسلمين دون الحديث عن المصدر الأساسي للإرهاب، وتساءل: إذا كنا نعيش في عالم لا حدود فيه لحرية التعبير، فهل لي الحق في إهانة الناس وطلبة العلم؟ إذا كانت حرية التعبير غير محدودة، فإنه يجب أن أكون قادراً على القيام بذلك، لكنني لا أستطيع القيام بذلك اليوم، مشيراً إلى قضايا استثنائية يمنع الخوض فيها وإلا يتعرض صاحبها للمحاكمة.

وأضاف: هذا أمر سياسي بحت، وهو بالفعل يمثل مشكلة، يمكن انتقاد الأيديولوجيات السياسية، وإذا كانت حرية التعبير محدودة، فينبغي أن ينطبق هذا على الجميع، ويبدو أن حدود حرية التعبير لا تنطبق عندما يتعلق الأمر بالمسلمين.

من ناحيته، كتب “جون ميشال بران” (Jean-Michel Brun) على موقع “مسلمون في فرنسا” يقول: لكل حرية حدودها؛ بل لا يمكن أن توجد بدون هذه، وعلى سبيل المثال؛ تضمن حدود أي بلد الحرية للمواطنين من خلال حمايتهم من التهديدات الخارجية، كما أن القانون وقواعده تحمي حرية الأضعف بإلغاء قانون الأقوى، يتم تحديد حدود الحرية من خلال المبدأ المشهور الذي نادراً ما يتم تطبيقه: “تقف حرية البعض حيث تبدأ حرية الآخرين”، إن حدود حرية التعبير هي الاحترام، وبالأخص احترام شخص مختلف عنا.

هذه عينة من مواقف لنخبة من العقلاء في فرنسا من مختلف الأوساط، ارتفعت أصواتهم لتنبيه الرأي العام والمسؤولين إلى مخاطر الانحراف باسم حرية التعبير إلى حرية الاستفزاز خاصة ما يتعلق بالمشاعر الدينية، علاوة على التنبيه إلى عدم الخلط بين حرية الفكر أو التفكير المطلقة، وحرية التعبير المقيَّدة بروح المسؤولية.

Exit mobile version