إذا ما كان هناك شعار مختصر يكثف الملامح العامة لتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا على مدى السنوات الطويلة التي حكم فيها البلاد، فلعله يكون «مكافحة أنظمة الوصاية»، يصلح ذلك في الشؤون الداخلية؛ مثل مواجهة أنظمة الوصاية العسكرية والقضائية والإعلامية وغيرها، مثلما يصلح للوصاية الخارجية عليها من المحور الغربي الذي انتمت له طويلاً.
صحيح أن الحزب تحول مع الوقت لحزب حاكم، ومهيمن على الحياة السياسية التركية خلال العقدين الأخيرين دون منافس حقيقي حتى اللحظة، بما يعني أنه قد يكون تحول في بعض المساحات إلى نظام وصاية نسبي بالنسبة لآخرين، وصحيح أن مساره الإصلاحي قد تراجع مؤخراً، إلا أن ذلك لا يغير من حقيقة أنه واجه أنظمة الوصاية وغيّر في واقع بلاده الكثير.
انضمت تركيا للكتلة الغربية برغبة ملحة منها، ولأسباب داخلية وأخرى خارجية، فقد أسست الجمهورية التركية الوليدة على أنقاض الدولة العثمانية التي تفككت بعد الحرب العالمية الأولى، وعلى يد مجموعة عسكرية رأت في امتدادات الدولة العثمانية وعلاقاتها العربية والإسلامية أحد أسباب الخسارة والانهيار، فاتجهت للغرب بشكل سريع وكامل.
كما أن أطماع الاتحاد السوفييتي السابق في مضائقها وبعض مناطقها الشرقية دفعتها للبحث عن الحماية الأمريكية، وقد تناغم ذلك مع مسار التغريب والتحديث الذي بدأه «أتاتورك» وسارت عليه الحكومات التركية المتعاقبة.
وهكذا دفعت عوامل داخلية وخارجية أنقرة للسعي نحو الانضمام للكتلة الغربية، فقدمت في عام 1950م طلباً للانضمام لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، لكن الأخير رفضه، قبل أن تعود للطلب مجدداً عام 1952م إثر مشاركتها في الحرب الكورية، لتصبح عضواً في «الناتو» منذ ذلك الوقت.
وعلى مدى عقود طويلة، رأت أنقرة نفسها ضمن المحور الغربي، لكن دون أن تتمتع بأي قدر من الاستقلالية، بل كانت مجرد رأس حربة حلف «الناتو» وجناحه الشرقي في مواجهة خطر توسع الاتحاد السوفييتي السابق؛ ولذلك تستضيف تركيا على أراضيها عدداً من القواعد العسكرية الأمريكية والأطلسية حتى يومنا هذا.
وخلال هذه الفترة، أظهرت أكثر من أزمة أن «الناتو» كان ينظر لأنقرة نظرة وظيفية بحتة وكأداة تنفذ سياساته، ولعل أهم مثال على ذلك أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962م التي كان يمكن أن تؤدي لحرب نووية عالمية انطلاقاً من الأراضي التركية، وهي الأزمة التي أنهتها واشنطن مع موسكو دون حتى التنسيق معها.
متغيران
لعقود طويلة، بقيت محاور السياسة الخارجية التركية تدور في الفلك الغربي، فكان الاتحاد الأوروبي محور العلاقات الاقتصادية، و»الناتو» محور العلاقات العسكرية، والولايات المتحدة محور العلاقات السياسية، وكل ما دون ذلك يجيّر لهذه المحاور أو يخضع لها.
لكن متغيّرين مهمين بدَّلا الكثير على هذا الصعيد؛ أولهما: نهاية الحرب الباردة في تسعينيات القرن الماضي، التي دفعت المحور الغربي للتشكيك في أهمية تركيا بالنسبة لـ»الناتو» بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ودفعت تركيا لإعادة اكتشاف مكانتها ودورها الخاص بها، ولعل أحد أبرز معالم هذا البحث كتاب رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو «العمق الإستراتيجي» الذي قدّم تأطيراً نظرياً لسعيها كي تكون «دولة مركز» في محيطها.
والمتغير الثاني: كان وصول حزب العدالة والتنمية للحكم، وهو الذي أتى بتفسيرات وتصورات مختلفة حول تركيا ووعيها بنفسها ودورها في المنطقة والعالم، متناغمة إلى حد كبير مع تنظيرات داود أوغلو، الذي أدى أدواراً مهمة في حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة وصولاً لرئاسة الحزب والحكومة.
بيد أنه من المهم القول: إن العدالة والتنمية لم ينقلب تماماً على الإرث السابق للجمهورية التركية، فبقيت محاور السياسة الخارجية للبلاد غربية في معظمها كما كانت سابقاً، بل كان السعي للانضمام للاتحاد الأوروبي بوصلة السياسة الخارجية التركية الأوضح خلال سنوات العدالة والتنمية الأولى، ما فعله العدالة والتنمية أنه وضع تصوراً جديداً للسياسة الخارجية لبلاده، فيها الكثير من الذاتية والسعي نحو الاستقلالية.
ملامح التغيير
طرأت تغييرات كثيرة على توجهات تركيا الإستراتيجية مع العدالة والتنمية فيما يخص العلاقة مع الغرب، أو بشكل أدق الهيمنة الغربية عليها، ذلك أنَّ أول وأهم ما فعله الحزب هو التحرر من التبعية الكاملة والشاملة للكتلة الغربية، من خلال إعادة الاعتبار للعمق الإستراتيجي لتركيا، وفي مقدمة ذلك الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز، ولعل الأدوار التي مارستها أنقرة في المنطقة فيما بعد عام 2010م مثال مهم على ذلك.
المتغير الثاني كان الخروج عن الإطار الغربي (وفي مقدمته حلف «الناتو») واعتماد سياسة خارجية تركية إلى حد كبير، بما تسبب بخلافات واختلافات وأحياناً صدامات نسبية بين الجانبين، أو بين أنقرة وبعض أعضاء «الناتو»، لا سيما فيما يتعلق بقضايا المنطقة، وفي مقدمتها سورية وليبيا.
ولعل من أهم مسارات التغيير في سياسات العدالة والتنمية هو اعتماد سياسة خارجية متعددة الأبعاد والمحاور والابتعاد عن حصرية التوجهات الغربية، أبرز الأمثلة على ذلك تحول تركيا وروسيا من العداوة التقليدية والحروب التاريخية إلى مسارات التعاون والتنسيق (رغم الاختلاف والتنافس)، وبما شمل المسارات الاقتصادية وأمن الطاقة والملفات الإقليمية، بل وحتى الأسلحة الإستراتيجية؛ حيث اشترت أنقرة من موسكو منظومة «S400” الصاروخية الدفاعية رغم اعتراضات الولايات المتحدة العلنية وتهديدها بعقوبات عليها.
أسبغ كل ما سبق على السياسة الخارجية التركية شيئاً من الاستقلالية النسبية والندية مع الكتلة الغربية، وبدا ذلك واضحاً عبر التوتر الدائم والتراشقات مع دولة مثل فرنسا، والمناورة على مساحات الخلاف الأمريكية– الروسية، وكذلك الخلاف مع القوى الكبرى حول معظم ملفات المنطقة من سورية إلى ليبيا، ومن شرق التوسط إلى قبرص، ومن الخليج إلى القوقاز.
مع “بايدن”
باختصار، يمكن القول: إن أنقرة خطت لنفسها مع العدالة والتنمية مشروعاً قومياً تركياً يحمل رؤية مستقلة عن الغرب، ويسعى نحو أهداف وأدوار وإستراتيجيات وسياسات تركية أو وطنية وقومية قدر الإمكان، لا تتصادم بالضرورة وبشكل دائم مع الغرب، لكنها متحررة من هيمنته والدور في فلكه بشكل ثابت.
ورغم ذلك، لا يمكن القول: إن تركيا قد خرجت تماماً من الكتلة الغربية، فمن جهة ما زالت علاقاتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية مرتبطة بشكل وثيق مع حلفائها التقليديين في الغرب، ومن جهة ثانية، ما زالت أنقرة مصرّة على الانضمام للاتحاد الأوروبي رغم إدراكها لصعوبة ذلك بل ربما شبه استحالته، ومن جهة ثالثة، ثمة مخاوف وهواجس تركية حقيقية بخصوص الأصدقاء الشرقيين الجدد، وفي مقدمتهم روسيا.
ذلك أن التقارب التركي مع روسيا كان –وما زال– مدفوعاً بتجاهل حلفائها الغربيين لها ولمصالحها أكثر مما هو مدفوع برغبة حقيقية منها للتحالف مع موسكو وتبديل الأرضية التي تقف عليها في الساحة الدولية؛ ما يعني أن التقارب مع موسكو تكتيكي ومؤقت رغم أهميته، وأن التحالف مع الكتلة الغربية إستراتيجي ودائم رغم تحدياته الكثيرة.
ومما يدعم هذا التوجه لدى أنقرة انتخاب «جو بايدن» رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وما يُقرأ في الملامح العامة لسياسته الخارجية المتوقعة، حيث سيعطي أولوية لاستعادة ثقة حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية وتماسك «الناتو» من جهة، ومواجهة التمدد الروسي من جهة أخرى.
ولذلك، فقد صدرت عن الرئيس التركي تصريحات تفيد هذا المعنى، حيث ركز على أن بلاده ترى نفسها جزءاً من أوروبا، وأنها ستبقى كذلك ما أرادها الأوروبيون، وأنها ما زالت تصر على عضوية الاتحاد الأوروبي والعلاقات الوثيقة مع حلفائها الغربيين، الذين أجبروها على خيارات أخرى، وفق «أردوغان».
في المحصلة، إذاً، ما زالت تركيا ترى نفسها جزءاً من العالم الغربي المتقدم، لكن على قاعدة استقلالية القرار وندية التعامل قدر الإمكان، وليس على قاعدة التبعية والانقياد كما كان سائداً خلال الحرب الباردة.
___________________________________
(*) محلل سياسي مختص بالشأن التركي.