نافذة على أوروبا

أوروبا.. بين الشعبوية والإرهاب (الجزء الأول):

 

عقد الاتحاد الأوروبي قمة افتراضية مصغرة يوم الثلاثاء 10 نوفمبر، بعد الاجتماع بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار النمساوي سيباستيان كورتس، في قصر الإليزيه، بنفس اليوم، والهدف من الاجتماع -الذي عقد بعد أسبوع من هجوم فيينا وسبقته أحداث قتل في فرنسا- مناقشة مواضيع تتعلق بـ”الدفاع عن القيم الأوروبية، وتعزيز التعاون بين أجهزة الشرطة والعدالة والاستخبارات في دول الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة، وتعميق مكافحة الدعاية الإرهابية على الإنترنت، وتعزيز الحماية على الحدود الخارجية لأوروبا”.

أسطول أمني لمكافحة الإرهاب

ولكن، ألم تنفق أوروبا أموالاً طائلة من أجل مكافحة الإرهاب؟ ألم تضع على مدى السنوات العشرين الماضية أجهزة وأدوات وسياسات على مستوى الاتحاد الأوروبي بهدف تعزيز قدرته على العمل في مواجهة موجات الهجمات المتتالية؟ وعلى سبيل الذكر، تم إنشاء وتعزيز سلطات مؤسسة “يوروجست” (Eurojust) (العدالة الأوروبية) في عام 2002، التي أصبحت وكالة أوروبية تهدف إلى تنسيق التحقيقات القضائية وتسهيل التعاون بين السلطات، علاوة على تبني مذكرة التوقيف الأوروبية، المعمول بها منذ عام 2004، كما تم إنشاء منصب منسق الاتحاد الأوروبي لمكافحة الإرهاب في عام 2007، إلى جانب مراجعة عملية تبادل المعلومات بين السلطات في عام 2013 عندما انتقل نظام معلومات “شنغن” (SIS) الذي تم إنشاؤه في عام 2006 إلى المستوى الثاني (SIS II)، وهو الآن مرتبط بقواعد بيانات أوروبية أخرى، مثل “Eurodac” أو نظام المعلومات الخاصة بالتأشيرات (VIS)، الذي يجمع بيانات طالبي التأشيرات وطالبي اللجوء عن طريق البصمات، وتتم إدارة قواعد البيانات هذه بواسطة “eu-LISA”، وهي وكالة أوروبية تعمل منذ 1 ديسمبر 2012، علاوة على التركيز بشكل أساسي على مسألة تبادل البيانات باعتماد نظام بيانات “PNR” (سجل اسم المسافر) الأوروبي في عام 2016، إذاً؛ أين المشكل والحال أنه تعددت الأدوات والجهات الفاعلة في مكافحة الإرهاب بأوروبا؟

إخلالات في التنسيق الأمني

هناك حديث عن إخلالات في التنسيق الأمني بين بلدان الاتحاد الأوروبي.

في هذا السياق، عبّر رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، خلال زيارته لفيينا بعد العملية الإرهابية، عن رغبته في “تبادل بشكل سلس” للمعلومات بين أجهزة المخابرات المختلفة، كما تطرق إلى أهمية وضع “إستراتيجيات مراقبة مشتركة” في التعامل مع الأشخاص العائدين إلى أوروبا بعد أن قاتلوا في صفوف ما نعتهم بـ”الجهاديين”.

من ناحيته، أعلن الرئيس الفرنسي عن رغبته في مضاعفة عدد أفراد مراقبة الحدود الفرنسيين، وإجراء إصلاح شامل لقواعد سير منطقة “شنغن” (منطقة التنقل الحر للأشخاص والبضائع بين الدول الأوروبية)، معتبراً أن مكافحة الهجرة غير القانونية مثلت جزءًا من مكافحة الإرهاب.

بيد أن بعض الاخلالات الأمنية لا يمكن وحدها أن تفسّر تصاعد العمليات الإرهابية.

إن المسكوت عنه هو الازدواجية في التعامل مع الشعبوية على مستوى الخطاب السياسي والإعلامي والديني داخل الفضاء الأوروبي من ناحية، وارتفاع منسوب المظالم التي تعيشها شعوب عانت من الاستعمار الأوروبي تاريخياً ولم تجد اليوم نصيبها من الرفاه والحرية والعيش الكريم وامتلاك سيادة القرار بسبب حجم التبعية بقوى خارجية من ناحية أخرى.

مسايرة الشعبوية المتطرفة

على مستوى الفضاء الداخلي، تشهد أوروبا في السنوات الأخيرة نزعة انكماشية بسبب تصاعد موجة الشعبوية وأحزاب أقصى اليمين المتعصّبة، وقد تمكنت هذه الأحزاب من طرق باب السلطة مستغلة النظام الديمقراطي الأوروبي، وهي تنادي بحماية مسألة الهوية المسيحية للمجتمعات الأوروبية على رأس أولوياتها، ولا تتوانى في استعمال خطاب استفزازي للمسلمين الذين يُنظر إليهم كعنصر أجنبي ودخيل ومغاير بل ومعادٍ للثقافة الأوروبية، وأفرز هذا الخطاب مجموعات متطرفة وصل بها الأمر إلى حد الاعتداء على الأفراد والهجوم على أماكن العبادة، والإشكال يتمثل في مسايرة قيادات سياسية لمطرقة الشعبوية بحثاً عن مصالح سياسية عن طريق كسب أصوات اليمين المتطرف.

علاوة على ذلك، انبرت بعض المنابر الإعلامية وبعض الأصوات في الأوساط المثقفة إلى التهجم على الإسلام والمسلمين بخطاب لا يقل شعبوية عن الأحزاب اليمينية المتطرفة، ولكن دون رادع؛ بحجة حرية التعبير المكفولة بالقانون، ولعل الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم أحد مظاهر هذه الحملة، وهنا أيضاً لم تضغط بعض القيادات السياسية في اتجاه التوازن بين حرية التعبير وروح المسؤولية وعدم استفزاز المشاعر الدينية.

شعبوية على مستوى الخطاب الديني

في المقابل، تنامت في سياق الصحوة الإسلامية التي سادت العالم الإسلامي وكذلك الحضور الإسلامي في الغرب شعبوية على مستوى الخطاب الديني لدى شريحة من أبناء المسلمين تنظر للغرب بأنه كافر وعدوّ للأمة الإسلامية، وتحرّم التصويت في الانتخابات وغيرها من الفتاوى المتنطعة التي تنم عن فهم منحرف للإسلام ولأسلوب تطبيقه في بيئة غير مسلمة.

والإشكال هنا أيضاً هو نوع من التغاضي الرسمي عن بعض الدعاة في بلاد الغرب الحاملين لخطاب متشدد للدين ينم عن الكراهية لغير المسلمين، وقراءة للعلاقات بين الإسلام والغرب تُختزل في نظرية المؤامرة، والسؤال: لماذا تم غض الطرف عن مثل هذا الخطاب الشعبوي في أوساط شريحة من المسلمين؟ ولعل الهدف منه التنفير من الإسلام من أجل التقليص من ظاهرة اعتناق الدين الإسلامي من طرف الأوروبيين.

من هنا، تُفهم بعض الإجراءات التي قامت بها جهات سياسية أوروبية لمحاصرة أصحاب الفكر الوسطي المعتدل الداعين إلى التعايش المشترك السلمي مع المجتمعات الأوروبية/ الغربية، واحترام الاختلاف الديني والثقافي والحرص على المواطنة التي لا تعني مساواة في الحقوق والواجبات فحسب، وإنما تعني أيضاً المصير المشترك في السراء والضراء مع مكونات المجتمع، ولم يجد أصحاب هذا الفكر الرصين والهادئ والمعتدل الاهتمام والرعاية الكافيين من أصحاب القرار بسبب حسابات ضيقة خوفاً من انتشار الإسلام في أوساط الأوروبيين.

والنتيجة ميل بعض الشباب إلى التشدد والتطرف في السلوك في ظل تصاعد موجة “الإسلاموفوبيا”، وفي ظل الشعور بالتهميش الاجتماعي، ولا يُستغرب فيما بعد أن ينبري بعضهم -إما بتلقاء نفسه أو بمفعول الاستقطاب- للقيام بأعمال عنف وإجرام وإرهاب، والحال أنهم لم يجدوا التأطير المطلوب الذي يزودهم بالفهم الصحيح للإسلام عقيدة وسلوكاً.

يتبع..

Exit mobile version