الموضوع الروائي هو الموضوع التاريخي في روايات الواقعية التاريخية عند نجيب الكيلاني، ويدور حول نشر الدعوة الإسلامية ومجاهدة الأعداء، والتعرف على طبائعهم وأخلاقهم وكشف تصرفاتهم وأفعالهم.
إن الروايات التاريخية الواقعية لدى نجيب الكيلاني تسعى لتأصيل الوعي بتاريخ الدعوة الإسلامية، ودور المسلمين في مقاومة خصومهم وأعدائهم، وأثر الخلافات بين المسلمين في إضعافهم وتشويه صورة الإسلام، ودور الشعوب المسلمة في مواجهة الغزاة الأجانب الذين احتلوا الأوطان وأذلوا أهلها ونهبوا ثرواتها وخيراتها في القرون الأخيرة.
وفي إطار هذا الجهاد المقدس، تبرز الشخصيات المؤمنة والمرابطة، والشخصيات الخائرة والخائنة، أصحاب الإيمان القوي في الدفاع عن الدين والوطن، وأرباب السلامة والجبن والهرب، من يضحون في سبيل الله عن طيب نفس ورضا بما وعدهم الله بعد الشهادة من جنة عرضها السماوات والأرض، ومن غفلوا عن ذكر الله وظنوا أن البعد عن ميدان القتال سيحميهم ويصون أموالهم وأعراضهم ويؤخر موتهم أو يطيل أعمارهم، من أصروا على مواجهة الأعداء وإعداد ما يستطيعون من قوة ثقة في نصر الله الذي وعد، ومن يظنون أن المقاييس المادية هي الفيصل الوحيد في المعارك فيولون الأدبار أو ينحازون إلى العدو.
هناك أعداء طبيعيون ومباشرون للدعوة الإسلامية مثل مشركي قريش أو الوثنيين، وهؤلاء يقاومون الدعوة؛ لأنها تغيِّر واقعهم وتنقله من وضع ألفوه وعاشوا به أزماناً طويلة، إلى حالة جديدة لا أصنام فيها ولا تفرقة عنصرية، ولا ولاء إلا لله الواحد الأحد.
وهناك أعداء محتملون، وهم أصحاب العقائد السماوية السابقة على الإسلام، وهم أهل كتاب، وهؤلاء لم يتعرضوا للمسلمين في أول الأمر بأذى، بل هناك من آمن ودخل راضياً إلى ساحة الدين الجديد، بيد أن هؤلاء كانوا أشد قسوة على الإسلام والمسلمين منذ نزول الوحي حتى اليوم، فقد تآمر اليهود على الدعوة وصاحبها عليه الصلاة والسلام، ودبَّروا المكائد والمؤامرات؛ حرضوا القبائل، وخانوا العهود والمواثيق، وجاهروا بالعداوة والأذى، وغدروا بالمسلمين في أحرج المواقف، وبعد انتصار الإسلام بدأت الحروب المنظمة والاحتلال من جانب الروم أو الفرنجة أو الصليبيين أو الاستعمار الغربي، وما زالت حتى اليوم.
روايات الواقعية التاريخية تعالج فكرة الصراع مع العدو، وتوضح معالم تكوينه العدواني، وأسسها المؤذية في إطار سردي شائق يجسم الأفكار ويستبطن النفوس، ويبرز المعاني الإنسانية في إطار التصور الإسلامي القائم على التوحيد والعدالة والأخوة البشرية.
مسيرة النور
فرواية «نور الله» تتناول هجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة، ثم إلى يثرب (المدينة المنورة)، والصراع بين المسلمين المهاجرين وأهل مكة، وتظهر شخصية عمر بن الخطاب وهو يعادي الدعوة في أول الأمر، ثم يعلن إسلامه ويدعم الدعوة وينافح عنها بسيفه ولسانه.
وفي الرواية يدور الصراع بين الدعوة وخصومها على امتداد المسافة بين مكة والمدينة المنورة، فهناك الغزوات التي دارت في «بدر»، و»أحد»، و»الخندق» (حول المدينة) بين المشركين من قريش والقبائل من ناحية، والمسلمين من ناحية أخرى، وهناك أيضاً المؤامرات اليهودية التي تمثلت في الخداع والغدر والتحريض على الدعوة ونقض العقود والمواثيق في أشد اللحظات حرجاً، فكان عقاب اليهود في بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة؛ نتيجة ما اقترفوه من جرائم، ولحق بهم يهود خيبر الذين أعلنوا الحرب على المسلمين بغية القضاء على الإسلام.
ثم كان بناء الدولة الإسلامية وتأمينها في شتى الاتجاهات، واكتمال التشريع مع ردع مصادر التهديد والعدوان في المدينة وما حولها وعلى الحدود الشمالية للجزيرة العربية، وتنتهي الرواية بفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وتبرز الرواية مفاهيم التوحيد والعبادة وقيم الإسلام وبطولات المسلمين واستشهادهم وتواضعهم حتى حققوا الانتصار العظيم.
ويتوسع الكاتب في تفصيل بعض القضايا، خاصة ما يتعلق بالتآمر اليهودي ضد الإسلام والمسلمين، فيكتب رواية «على أبواب خيبر»، وتتناول غزوة خيبر وتصفية آخر معاقل الخطر اليهودي على الإسلام والمسلمين في الجزيرة العربية.
وتقع خيبر في الجنوب الشرقي للمدينة المنورة، وتعد مدينة محصَّنة تحصيناً قوياً، حيث تتعدد الحصون الحربية فيها، ويملك سكانها اليهود الكثير من الأموال والذهب والكنوز، فضلاً عن المزارع والبساتين والتجارة.
ويقود اليهود في خيبر نفر من مشاهيرهم، منهم: كنانة بن الربيع زوج صفية بنت حيي بن أخطب، وسلام بن مشكم زوج زينب بنت الحارث، والحجاج بن علاط وهو تاجر يهودي مشهور، وهؤلاء الزعماء على صلة بالمنافق الأشهر أو رأس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول، الذي يسكن المدينة ويتعامل مع المسلمين في الظاهر بوجه مسلم، ومع اليهود بوجهه اليهودي الخفي، كان دوره هو التحريض الخفي ضد المسلمين مما شجع يهود بني قينقاع والنضير وقريظة والقبائل على نقض المعاهدات مع المسلمين والغدر بهم في أثناء مواجهة قريش وحلفائها.
وكان اليهود يظنون أنهم أقوى قوة في الجزيرة العربية، وأنهم قادرون بما يملكون من مال وذهب ونفوذ على تحدي المسلمين وسحقهم والقضاء عليهم، وقد خاطبوا القوى الأخرى التي يمكن أن تساعدهم في حربهم ضد الإسلام وتصفيته، فقد ذهبوا إلى الروم، وتحدثوا مع أبي سفيان، زعيم قريش، وقبيلة غطفان، والقبائل الساخطة على المسلمين، وكانوا يظنون أيضاً أن التخطيط لشن هجومهم سيستغرق وقتاً، ولكن الرسول، صلى الله عليه وسلم، حين علم بغدرهم ونقضهم للعهد، سبقهم وسيَّر إليهم الجيش، ومع أن الفارق كان كبيراً، والقوى غير متكافئة، حيث يملك اليهود إمكانات أكبر؛ فقد استطاع المسلمون بفضل الله ثم إخلاصهم واستبسالهم أن يحققوا النصر، وأن يقضوا على أكبر مراكز الخطر اليهودي وآخرها، وغنموا أموال الغادرين وممتلكاتهم.
العمل الوثائقي
ولأن الطبيعة اليهودية نكدة على مدى التاريخ، والخلق اليهودي يؤمن بالغدر والأذى، فقد خصَّص الكاتب روايته «حارة اليهود» ليكشف الطبيعة اليهودية والخلق اليهودي بعد عشرة قرون تقريباً منذ القضاء على خطرهم في صدر الإسلام.
وتتناول الرواية حادثة حقيقية جرت في دمشق عام 1840م، حيث قام اليهود القاطنون بحارة اليهود في دمشق بذبح الأب المسيحي البادري توما، والعامل الذي يساعده إبراهيم عمار، وفصد دمهما لصناعة ما يسمى الفطير المقدس عند اليهود.
الحادثة لها وثائق رسمية عبارة عن محاضر تحقيق مع المتهمين اليهود واعترافاتهم التفصيلية بذبح رجل الدين المسيحي وتابعه، وتقطيع جسده ودق عظامه، والتخلص من الأجزاء المتبقية (اللحم والعظام في أحد المصارف المائية)، كما تضم بعض القرارات والفرمانات التي صدرت عن مسؤولين في دمشق وعن محمد علي، حاكم مصر والشام في ذلك الحين، فضلاً عن كتب اليهود مثل التلمود التي كتبها أحبارهم وتحض على كراهية غير اليهود واستحلال دمائهم وأموالهم وممتلكاتهم، بوصفهم أميين (غير يهود) لا حق لهم ولا واجب، ولا مسؤولية.
ويسجل الكاتب في بداية الرواية والختام بعض الصور الزنكوغرافية من صفحات المحاضر والوثائق المتعلقة بالحادث.
وقد عبر الكيلاني عن صعوبة تحويل عمل وثائقي مثل هذا إلى عمل روائي شائق يحافظ على طبيعة الحادث، وفي الوقت نفسه يقيم بناء فنياً له مقتضياته وأسسه.
إن الوثائق غالباً ما تأتي جافة مباشرة، ولا تهتم إلا بالحقائق المجردة، مليئة بالصيغ التقليدية، والعبارات الركيكة المتداولة، وإذا كانت الوثائق تبرز الحقائق الأولية، فإنها لا تكترث بالأبعاد النفسية للشخصيات، وقد تغيب في ثناياها بعض الدوافع المهمة والأسس الخطيرة.
هذا الوضع قد يتعارض مع مستلزمات الفن القصصي، ويخرج به عن دائرة الإبداع المطلوب، والإجادة المرجوة، ومن ثم فلا طريق للفنان سوى أن يضع قاعدة عريضة وأساساً متيناً، يقيم عليهما بناءه الفني؛ ألا وهو الحقائق الكلية، والاستعانة ببعض الوقائع المبتكرة، وتعني الوقائع المبتكرة محاولة رسم الخلفية الاجتماعية والعاطفية والنفسية للحدث.
إن زوجة داود هراري (كاميليا) مثلاً لم يقصد بها سوى إبراز التناقض الحاد، والعفن الاجتماعي، والاضطراب العاطفي؛ الذي تبرزه التعاليم الزائفة المستقاة من شروح التلمود، وتعززه القيم الفاسدة، التي درج عليها المجتمع اليهودي بما يسيطر عليه من جشع وأنانية ومادية مفرطة، «كاميليا» رمز حيوي متحرك وتجسيم لمأساة الضلال اليهودي القديم، وصورة صادقة للعقد النفسية التي ينضح بها التاريخ لملة أصابها الزيف والشطط عبر العصور، وقِسْ على ذلك ما قد يرد من حوار موضوع، أو مواقف متخيلة، لا تتنافى وطبيعة القضية المطروحة، ولا تخرج عن إطار الحدث المثير.