التطبيع العربي الصهيوني لم يتم في يوم وليلة، ولا سنة أو اثنتين، بل هي خطة دقيقة، ترتسم أبرز خطوطها على القارة السمراء، تهدف لتطويق العالم العربي، وحيث المزايا العديدة التي تمتلكها القارة الأفريقية على المستوى الاقتصادي والسياسي والعسكري، توغل الكيان الصهيوني في القارة بخطوات متئدة، يسير بحذر، وينتشر في شرق القارة وغربها وجنوبها ووسطها، في الخفاء تارة وفي العلن تارة أخرى، خلف نوايا المصلحة الاقتصادية أو حماية يهود المنطقة.
وهذا التاريخ العريض من صناعة النفوذ الصهيوني داخل أفريقيا، كان ذلك إحدى أدوات الصراع العربي- الصهيوني، وإحدى دعائم عملية التطبيع الحالية؛ فكيف كانت أفريقيا أداة من أدوات التطبيع؟ وكيف تغيرت نظرة أفريقيا للكيان الصهيوني عبر التاريخ؟ وما مصالح الطرفين من هذه العلاقة؟ وما مدى تأثير الغياب العربي في أفريقيا على توغل الكيان الصهيوني في المنطقة؟
في هذا التحقيق تتناول «المجتمع» هذه القضايا.
الكيان الصهيوني.. الصديق والعدو:
عاشت العلاقات الصهيونية- الأفريقية ربيعها المزدهر منذ بداية الخمسينيات، حيث كان للكيان الصهيوني علاقات دبلوماسية بدول القارة كافة، عدا الدول العربية منها، حتى حرب يونيو 1967م؛ إذ أدى العدوان الصهيوني على مصر وسورية والأردن إلى تغيير صورة الكيان الصهيوني من دولة فتية ومسالمة، لا طموحات استعمارية لديها في نظر الأفارقة، إلى دولة قوية عدوانية وتوسعية، وبهذا شكلت حرب عام 1967م مساراً لقطع العلاقات شمل آنذاك 4 دول فقط، هي: غينيا، وأوغندا، وتشاد، والكونغو.
أما الدول الأفريقية الأخرى فقد استمرت علاقتها بالكيان الصهيوني حتى نشوب حرب أكتوبر 1973م، حين اتخذ المجلس الوزاري لمنظمة الدول الأفريقية، الذي عقد في نوفمبر 1973م، قراراً بقطع العلاقات الدبلوماسية بالكيان الصهيوني، ومطالبته بالانسحاب من الأراضي المحتلة، ومنح الشعب الفلسطيني حق تقرير المصير، وقد استجابت لهذا القرار الدول الأفريقية كافة.
يقول خبير الشؤون «الإسرائيلية»، أنس أبو عرقوب، لـ«المجتمع»: إن دولة الكيان الصهيوني منذ نشأتها وهي منبوذة من معظم الشعوب التي كانت تناضل لتحقيق استقلالها، وفي تلك الفترة ارتبطت معظم حركات التحرر الأفريقية بعلاقات تراوحت بين التعاطف والتحالف مع حركات التحرر الفلسطينية، ومنح ذلك الفلسطينيين تأييداً وشرعية على الصعيد الدولي، وساهم بتكريس رأي عام شعبي بحق تقرير مصيرهم واستعادة بلادهم.
انتهى عقد السبعينيات بتغييرات عديدة على مستوى القارة الأفريقية، وعلى مستوى الصراع العربي- الصهيوني، وكان هناك عدة عوامل ساعدت على عودة الكيان الصهيوني إلى القارة الأفريقية، أهمها:
أولاً: توقيع مصر اتفاقية «كامب ديفيد»، وخروجها من ساحة المواجهة مع الكيان الصهيوني، وقد كان احتلال الكيان لأراض مصرية يمثل مرتبة أولى في الموقف الأفريقي من هذا الكيان المحتل.
ثانياً: الصراعات الإقليمية على مستوى القارة، حيث كانت بعض الدول العربية طرفاً رئيساً فيها، مثل: ليبيا- تشاد، والسودان- إثيوبيا، وقضية إريتريا، وقضية الصحراء الغربية، وقد سببت هذه الصراعات انقسامات بين الدول الأفريقية، وأحدثت شرخاً في العلاقات العربية الأفريقية، وأدت في النهاية إلى نوع من الشلل على مستوى مؤسسات التنسيق العربي الأفريقي.
ثالثاً: تفاقم الأزمات الاقتصادية في الدول الأفريقية له دور بارز في تراجع العلاقات العربية الأفريقية؛ إذ حُمِّلَت الدول العربية بعض المسؤولية عن هذه الأزمة، بسبب ارتفاع أسعار النفط بعد الحظر الذي فرضته الدول العربية المصدرة للنفط بعد حرب أكتوبر 1973م، وعلى الرغم من المساعدات العربية لدول أفريقيا، فإنها لم تكن كافية لعدم تحميل الدول العربية مسؤولية تفاقم الأزمات الاقتصادية.
لقد تضافرت كل هذه المتغيرات الدولية وكانت لمصلحة عودة العلاقات الصهيونية الأفريقية، ففي عام 1981م، تم توقيع اتفاقية التعاون الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية التي أطلقت بموجبها يد الكيان الصهيوني في أفريقيا.
ويرى أبو عرقوب أن نجاح دولة الكيان الصهيوني بإنهاء هذه المقاطعة فتح أمامها المجال للتظاهر كأنها دولة طبيعية وليست دولة قامت على تشريد شعب، ويترجم الكيان الصهيوني هذه الحالة بإقامة علاقات تجارية واستخبارية؛ يجري استثمارها لحصار الفلسطينيين والدول العربية؛ التي ترى في الكيان الصهيوني عدواً رغم وجود علاقات سلام معه.
الكيان الصهيوني.. وخطة تطويق العالم العـربي:
نظرت دولة الكيان الصهيوني من البداية إلى أفريقيا باعتبارها قادرة على القيام بدور محوري في تسوية محتملة للصراع العربي الصهيوني، وذلك استناداً إلى عدة حقائق، أبرزها:
– الصداقة المتبادلة بين أفريقيا والعرب والصهيونيين.
– تحرر أفريقيا من الأبعاد النفسية والأخلاقية الخاصة بطبيعة الصراع العربي في الشرق الأوسط، وبالفعل كانت قد طُرِحت عدة مقترحات أفريقية للوساطة بين العرب والكيان الصهيوني، غير أنها باءت جميعاً بالفشل.
إن العلاقات المتينة بين دول أفريقيا والكيان الصهيوني تأتي في إطار المحاولة للالتفاف على حالة العداء العربي لها، وهي الإستراتيجية التي بلورها أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني «دافيد بن غوريون»، وهي تقوم على تعزيز العلاقات مع الدول غير العربية المحيطة بالدول العربية، والانطلاق منها إلى إثارة النعرات الطائفية والعِرقية والدينية في المجتمعات العربية؛ من أجل إشغالها عن الصراع العربي الصهيوني، واستنفاد قدراتها في صراعات أخرى، وقد تجلَّى ذلك بوضوح عبر الدور الصهيوني في السودان، ودعم الحركة الشعبية التي وجدت ملاذاً لها للانطلاق من كينيا وأوغندا وغيرهما من دول المنطقة.
وفي هذا السياق، صرح أبو عرقوب، لـ«المجتمع»، بأن الكيان الصهيوني يمارس دوراً شديد الخطورة في أفريقيا لخدمة مصالحه في الصراع العربي الصهيوني، والآن التغلغل الصهيوني في أفريقيا يتيح له إغراق مصر في أزمة مائية عبر علاقاته مع إثيوبيا، وفي حال تم إنجاز اتفاق التطبيع مع السودان سيقطع الكيان الصهيوني طريقاً مهماً لتهريب السلاح لقطاع غزة ينطلق من الخرطوم.
وقد نشطت الدبلوماسية الصهيونية بالسنوات الماضية في أنحاء القارة السمراء، ففي صيف عام 2016م، زار «نتنياهو» أربع دول في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، هي: أوغندا وكينيا ورواندا وإثيوبيا، حيث تشكِّل هذه الدول أهمية إستراتيجية بالنسبة للكيان الصهيوني، باعتبارها تمتلك ممرات ومنافذ بحرية حيوية مطلة على المحيط الهندي والبحر الأحمر؛ حيث يمر %20 من هذه التجارة أمام سواحل القرن الأفريقي وفي مضيق باب المندب، الذي يعتمد عليه الكيان في تجارته مع أفريقيا وآسيا وأستراليا، وإقامة علاقات دبلوماسية مع أكبر عدد ممكن من الدول الأفريقية مقابل إضعاف التأييد الأفريقي للقضايا العربية، وكسب الرأي العام الأفريقي إلى جانبه؛ الأمر الذي قد يُفقد العرب رصيداً كبيراً من التأييد السياسي لهم، حيث يرى «يتسحاق شمير»، وزير الخارجية الصهيوني سابقاً، أن دول أفريقيا تتمتع بثقل دبلوماسي هائل، إذ تشكل أصواتها ثلث أصوات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتستطيع وحدها إذا أجمعت أن ترجح كفة أي قرار سلباً أو إيجاباً.
وإذا كان الكيان الصهيوني قد وضع ثقله في منطقة شرق أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي بما نسجه من علاقات مع الدول المذكورة وغيرها، فإن دبلوماسيته لم تقف عند هذا الحد، بل وجَّه نفوذه نحو أفريقيا الغربية؛ ففي أغسطس 2017م، رفعت السنغال وغينيا، وهما دولتان أغلبية سكانهما مسلمون، مستوى علاقاتهما الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، وقد اتفقت داكار والكيان على تطبيع العلاقات في ذات العام، بينما تعهدت السنغال بدعم ترشيح الكيان الصهيوني عضواً مراقباً في الاتحاد الأفريقي، كما أعادت غينيا علاقتها بالكيان المحتل، في يوليو 2016م، بعد 50 عاماً من القطيعة.
ومن المتوقع أن تزداد العلاقات الصهيونية الأفريقية قوة وانفتاحاً في الفترة القادمة بعد تطبيع بعض الدول العربية مع هذا الكيان الغاصب؛ حيث أعلنت «هيئة البثّ الصهيونية»، في سبتمبر الماضي، أن وفداً تشادياً وصل سراً إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، ليلتقي رئيس الوزراء الصهيوني «بنيامين نتنياهو»، وضمّ الوفد نجل الرئيس إدريس ديبي، ومستشار الأمن القومي التشادي، وتم بحث مواضيع تتعلق بتعزيز التعاون الاقتصادي بين الكيان الصهيوني وتشاد.
في حين كانت دولة جنوب أفريقيا من الدول المعارضة للتطبيع، وأكدت، في سبتمبر الماضي، دعمها للقضية الفلسطينية حتى إنهاء الاحتلال الصهيوني وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
ويُذكر أن جنوب أفريقيا قادت حراكاً دبلوماسياً، في عام 2017م، ضد محاولات الكيان الصهيوني تطبيع العلاقات مع الدول الأفريقية، بحسب ما ذكرت «القناة الصهيونية السابعة».
الدول الأفريقية.. ومآربها الأخرى:
عمل الكيان الصهيوني على إحداث نوع من المشابهة بين معاناة الشعبين الأفريقي واليهودي، مثل نفي اليهود وتشتت السود خارج بلادهم، والربط بين المحرقة وتجارة العبيد في أفريقيا، واستغلال الإبادة لقبيلة «التوتسي» في رواندا والتشابه بينها وبين محرقة اليهود، وروَّج لهذا بين الأفارقة، واستغل ما نُسب إلى العرب من دور في تجارة الرقيق بشرق أفريقيا؛ أي في جنوب السودان وأوغندا وكينيا وتنزانيا وشرق الكونغو؛ من أجل كسب ثقة الزعماء الأفارقة في المنطقة وتعاطفهم.
في هذا الصدد، يقول د. حمدي عبدالرحمن، أستاذ العلوم السياسية بجامعتي زايد والقاهرة، لـ«المجتمع»: إن الكيان الصهيوني دولة محدودة الموارد، ولكنها تستخدم قوتها الناعمة في أفريقيا، لما لها من قدرات هائلة، فترسل خبراء وفنيين في مجالات تحتاجها أفريقيا بشدة؛ مثل الري والزراعة والصحة، وتقوم بمشروعات وخدمات يحتاجها المجتمع، مثل المشروعات الزراعية المعتمدة على التكنولوجيا الملائمة، كل هذا يجذب قلوب وعقول الأفارقة، كما يروج الكيان الصهيوني أنه دولة نموذجية، وأن عملية بناء الدول الأفريقية تعتمد على الاقتباس من تجربته.
وأضاف د. عبدالرحمن أن التعاون الأمني والاستخباراتي جانب يتميز فيه الكيان الصهيوني، لذلك كل الدول التي مرت بأحداث إرهابية وهجمات ضد المتشددين قامت بعلاقات مباشرة مع الكيان الصهيوني؛ مثل كينيا وإثيوبيا وغيرهما، كما أن هناك جانباً ثقافياً مهماً، حيث توجد جاليات يهودية كبيرة في أفريقيا، بصفة خاصة في دولة جنوب أفريقيا، و«يهود الفلاشا» في إثيوبيا، وهؤلاء يشكلون رابطاً ثقافياً بين أفريقيا والكيان الصهيوني.
تُسَوِّق دولة الكيان الصهيوني نفسها لأفريقيا على أن لديها خبرات أمنية متطورة في مكافحة الإرهاب، وأنها أنتجت وسائل تكنولوجية متطورة للمراقبة والتنصت، وأن لديها شركات خاصة في جيش الدفاع الصهيوني من شأنها أن تقوي وتطور أداء الحرس الرئاسي ووحدات النخبة في الدول الأفريقية، وبهذه المعطيات المغرية للأنظمة الاستبدادية يجد الرؤساء الأفارقة في الكيان الصهيوني مبتغاهم.
غياب النفوذ العربي.. الطريق نحو التطبيع:
من خلال التدقيق في العوامل التي أدت إلى قطع العلاقات الصهيونية الأفريقية، لا يشكل الدين عاملاً حاسماً في هذه العلاقات، فمثلاً غينيا التي تبلغ نسبة المسلمين فيها %80 لم يؤخرها هذا عن إعادة العلاقات بالكيان الصهيوني، وأيضاً السنغال التي تبلغ نسبة المسلمين %85، وهكذا باقي الدول الأفريقية، بينما اتضح أن عامل العلاقات بمصر أكثر أهمية، وبالتالي تشكل تجربة الدول العربية وغياب تأثيرها في أفريقيا عاملاً مساعداً في عودة العلاقات الصهيونية الأفريقية، بالإضافة إلى النجاح الصهيوني في تقديم تجربة ناجحة في تنفيذ مشاريع حيوية لا تزال تترك بصمتها على دول أفريقيا.
إن السياسة العربية تؤدي دوراً مهماً في كبح أو تسريع العلاقات الصهيونية الأفريقية، فإذا تمكنت من ترميم العلاقات وترميم المؤسسات الأفرو- العربية، بجدية أكبر في التعامل مع أزمات أفريقيا؛ يمكن أن تشكل عاملاً معرقلاً لتوغل الكيان الصهيوني، أما في حالة المراوحة وتراجع نفوذها في المنطقة؛ فمن الأرجح أن يتوغل الكيان الصهيوني أكثر ويزداد مكاسبه على كافة الأصعدة.
ويرى خبراء أن آفاق العلاقات الصهيونية الأفريقية مرهونة بعوامل تتعلق بمنحنى الصراع العربي الصهيوني من جهة، وبتحرك الدبلوماسية العربية من جهة أخرى، وفي حال خرج مسار للتسوية العربية الصهيونية، كبدء الحوار الفلسطيني الصهيوني مثلاً، فمن غير المستبعد أن تحسم الدول الأفريقية خيارها لصالح الكيان الصهيوني.
وختاماً، فإن التوجه الصهيوني للقارة الأفريقية يشكل جزءاً من الصراع العربي الصهيوني، وجزءاً من نظرية الأمن الصهيونية القائمة على اكتساب الشرعية والهيمنة والتحكم في المنطقة، ومقابل الإهمال العربي لأفريقيا شكَّل الكيان الصهيوني قبضة قوية حول الدول العربية، لا تملك بعدها إلا أن ترضى بتطبيع علاقاتها مع هذا الكيان بدلاً من الدخول في صراع معه وآخر أفريقي! فهل تستمر مشاهد التطبيع واحداً بعد آخر، أم سيَهُبّ العالم العربي لحماية مصالحه ووجوده والدفاع عن أراضيه المحتلة؟