إبداعات السينما الكويتية.. نبض الوطن والأمة واستشراف المستقبل

احتلت الآداب والفنون مكانة متميزة في نهضة الكويت الحديثة، التي بدأت في عقدي الخمسينيات والستينيات في القرن العشرين، وتتابعت منجزاتها لتصنع تراكماً وإبداعات ليست على المستوى المحلي ولا الخليجي فحسب، وإنما على المستوى العربي كله؛ فكانت نهضة سامقة، شارك فيها المواطن الكويتي، مع أبناء العروبة المقيمين داخل الكويت أو في أوطانهم، فملأت المطبوعات الصادرة عن الكويت أسواق النشر العربية، مُشكِّلة القوة الناعمة للكويت التي مكَّنت لها الصدارة في العالم العربي، وتبدت في إصدارات متميزة، مثل مجلتي “العربي”، و”الثقافة العالمية”، ودوريات “عالم الفكر”، وسلسلة كتب “عالم المعرفة”، مع عشرات الإصدارات والفعاليات الثقافية والفنية والفكرية، ناهيك عن ظهور مبدعين تألقوا في المسرح والدراما والفن التشكيلي.

يتوجب علينا ونحن نستشرف المستقبل أن نعي تميز الكويت؛ الوطن والإنسان والفنان، وعطاءها الإبداعي والثقافي والفني، الذي لم يكن علامة أو محطة مضيئة فحسب، وإنما قدّم تراكماً نوعياً، ومثّل رؤية سامية لحسن الاستثمار الثقافي والفني، وكما يذكر محمد حسن عبدالله، فإن الكويت لم تكن الدولة الوحيدة التي تملك المال في العالم العربي، وإنما كانت الدولة التي وظّفت الدعم المالي خدمةً لنهضة ثقافية ومعرفية محلياً وعربياً، دون انكماش على أبنائها، داخل حدودها(1)، فتحققت لها الريادة في خدمة الثقافة والإبداع، وأسست قاعدة ثقافية وفنية، سترتكز عليها مستقبلاً.

لقد تكوّنت مبكراً بيئة حاضنة للإبداع السينمائي؛ مُشاهدَةً وتلقياً وتفاعلاً، تمثّلت في إنشاء صالات السينما، لعرض الأفلام العربية والعالمية، بالإضافة إلى الإنتاج المحلي الذي وإن قلّ نسبياً، إلا أنه جاء متميزاً، كاشفاً عن كوادر فنية ومواهب كثيرة.

فأبرز ما يتميز به القرن الحادي والعشرون تلك الطفرة الهائلة في الفنون المرئية وعالم “الميديا”، فصارت الصورة المتحركة جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، تغزو فكرنا، وتشكّل وعينا، فلا يمكن النظر إلى المستقبل دون أن نضع صناعة السينما في اعتبارنا، فنتساءل: كيف يمكن إنتاج سينما تعبر عن هويتنا وذاتنا المحلية والعربية؟ وكيف يمكن استثمار طاقات صانعي السينما بوصفهم سينمائيي المستقبل، أملاً في إبداع سينمائي معبر عن الكويت شعباً وثقافة وهوية؟ وكيف يمكن الاستفادة من تقنيات فيديو “الديجيتال”، بكل إمكاناتها من أجل منح السينما الكويتية نبضاً جمالياً ودراميا؟(2)، ومن أجل توظيف أمثل لمواهب فناني الكويت، فلا نهضة دون إبداع وفن.

وكي نفهم تاريخ السينما في الكويت، لا يمكن الاقتصار على الأفلام الروائية الطويلة أو القصيرة، وإنما لا بد من شمولية الرؤية حول دور السينما في التوثيق والتوعية والتنوير، فقد عرفت الكويت السينما مبكراً -كما يشير عماد النويري- في العام 1946م، مع تصوير أول فيلم تسجيلي عن ضخ النفط من ميناء الأحمدي، وفي عام 1950م قامت دائرة المعارف (وزارة التربية الآن) بتأسيس قسم السينما والتصوير، وتمكنت من خلاله من إنتاج 60 فيلماً وثائقياً تعليمياً عن التعليم والصحة وغيرهما من أمور تتعلق بالحياة في الكويت، وفي عام 1964م تم افتتاح قسم السينما بـ”تلفزيون الكويت”، ثم مراقبة السينما عام 1981م بطاقة إنتاجية من 20 إلى 30 فيلماً في السنة(3)، ليتضح جلياً أن السينما وثّقت حركة النهضة والحداثة، واستمرت هذه الأفلام التوثيقية والتسجيلية إلى يومنا، مع تعدد جهاتها الإنتاجية، إما في المؤسسات الرسمية، أو بجهود السينمائيين الأفراد، أو بدعم من بعض المؤسسات الأهلية.

وفي العام 1954م، تأسست شركة السينما الكويتية التي أخذت على عاتقها إنشاء دور العرض السينمائي، وقد دأبت هذه الشركة على استيراد الأفلام العربية والعالمية، واضعة آلية للرقابة، تستبعد من خلالها الأفلام التي تخالف قيم الإسلام، وأخلاق المجتمع، أو تقدّم آراء سياسية أو عنصرية، وبذلك تحافظ على هوية المجتمع(4)، مما شجع الجمهور على ارتياد السينما، وإيجاد قاعدة جماهيرية ذوّاقة لإبداعات الشاشة الفضية العربية والعالمية.

السينما الروائية

أما الإنتاج السينمائي الروائي الكويتي، فقد تميز بتعبيره عن روح المجتمع المحلي، كما جاء غير متصادم مع هويته الخليجية والعربية، ورغم قلة الأفلام المنتجة منه، فإنها بمثابة المرآة المعبرة عن أجيال عديدة من السينمائيين الكويتيين، وعن مدى تفاعلهم مع قضايا المجتمع وهمومه وهويته، وهو ما اتضح جلياً مع أول الأفلام الروائية، وهو فيلم العاصفة (1964م)، للمخرج والإعلامي محمد السنعوسي، وهو مأخوذ عن قصة قصيرة بالعنوان نفسه للفنان عبدالأمير التركي، وقد نشرها في مجلة “هذا الأسبوع”، وحوّلها السنعوسي إلى فيلم روائي قصير أبيض وأسود مدته 27 دقيقة، وقد أدى عبدالحسين عبد الرضا دور الأب الذي عاصر أيام البحر، وواجه عواصفه، وقدم خالد النفيسي دور الابن، إلى جانب الفنان جوهر سالم، وفرقة حمد بن حسين البحرية، والفيلم يعبر عن معاناة الإنسان الكويتي الذي طلب رزقه في حياة البحر؛ الصيد والغوص على اللؤلؤ والتجارة، بكل ما فيها من مشقات.

وهنا نشدد على أن ولادة السينما الكويتية لم تأت تقليداً للسينما العربية أو العالمية، بالإغراق في الرومانسية، أو تقديم مجتمع يشابه المجتمع الأوروبي، وإنما سعت إلى توثيق حقبة ما قبل النفط، وتجربة الإنسان الكويتي فيها، وهو المسار نفسه الذي سار عليه المخرج الكبير خالد الصديق في فيلمه “بس يا بحر”، (1971م)، الذي هو علامة متميزة للغاية في السينما العربية، ويكفي أنه ترشح للمنافسة ضمن فئة أفضل فيلم أجنبي في الدورة الخامسة والأربعين لجوائز “الأوسكار” الأمريكية، وكان أبلغ رد على من ادّعى أن السينما دخيلة على أبناء الخليج، ويعرض الفيلم حياة صيادي اللؤلؤ قبل النفط الذين يقضون شهوراً في عرض الخليج؛ حيث كانوا يكتمون أنوفهم قبل غوصهم بحثاً عن اللؤلؤ لمدة دقائق معدود، وهو ما يعرض حياتهم لخطر شديد.

وفي الفيلم أطبقت محارة كبيرة على يد الغواص البطل، ومات لحظتها، وعندما حاولوا في السفينة جذب الحبل المعلّق به، وجدوه ثابتاً، فغاص زميل له سريعاً، ليقطع كف يده ويبقيها للمحارة، ثم جذبه لأعلى، فصلُّوا عليه، ثم ألقوه ثانية في البحر، لقد كان الغريق وحيد أبويه، حالماً بالزواج من فتاة أحبها، وخرج للغوص على أمل أن يجمع مهرها، فكان نصيبها الزواج من تاجر السمن الذي كان في ضِعف عمرها، وذهبت إليه كزوجة ثانية.

جاء سيناريو الفيلم والتصوير والإخراج بإحكام شديد، وكانت المفارقة أن المخرج وضع ترجمة بالعربية الفصحى والإنجليزية لحوار الفيلم، فاللهجة الكويتية المستخدمة كانت شديدة المحلية في مفرداتها وتعبيراتها، الأمر الذي قد يجعلها عصية على الفهم للمشاهد العربي، بعكس ما نراه الآن، حيث أصبحت اللهجة الخليجية عامة واضحة مفهومة للجمهور العربي في مسلسلاتها وأفلامها، وهو منجز لا بد من البناء عليه، فيمكن تسويق الأفلام الكويتية عربياً، في ضوء أن اللهجة الخليجية عامة باتت مفهومة في أقطار العرب.

واستمرت مسيرة خالد الصديق، وظهرت عبقريته في فيلم “عرس الزين” (1977م)، المأخوذ عن رواية للأديب السوداني الطيب صالح، وقد فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان باريس الدولي، وتدور أحداثه عن شاب سوداني نصف أبله، تعشقه نساء القرية في السودان، ويكرهه الرجال، وقد استطاع الصّديق التعبير عن الريف السوداني بكل تفاصيله، فجاء الفيلم معبراً عن اتساع نظرة المخرج الكويتي إلى الفضاء العربي، غير مقتصر على الخليج، وإنما ترنو عيناه للبيئة المحلية العربية. 

بعد الغزو

ولا شك أن افتقاد الكويت للكوادر والدعم الممنهج والمستمر كان سبباً في قلة الأفلام الروائية الطويلة، ومع تتالي السنين، ظهرت أجيال جديدة -بعد الغزو العراقي الغاشم- من المبدعين السينمائيين، الذين بدؤوا حياتهم هواة، ثم سافروا إلى الخارج وتتلمذوا في الكليات والمعاهد، واشتركوا في إنتاج الأفلام، وقد ظهر إبداعهم واضحاً في الأفلام الروائية القصيرة، التي أبدعوا من خلالها، معبرين عن أحلامهم وتطلعاتهم، وأيضاً التغيرات التي أصابت المجتمع الكويتي على مستوى العمران والوعي والتعليم، ونوعية التحديات والقضايا التي باتت تلحّ عليه، وهي هموم تخالف حقبة ما قبل النفط، أو البدايات الأولى لنهضة الكويت منذ نصف قرن، وهو ما يظهر جلياً في الأفلام القصيرة التي أبدعها المخرجون الشباب منذ منتصف التسعينيات، واستمرت إلى يومنا، وتناولوا فيها عشرات القضايا الاجتماعية والثقافية والفكرية. 

ومن أبرز الأفلام المتميزة في العقد الأخير من القرن العشرين فيلم “السدرة” لوليد العوض، و”المهلب” لحبيب حسين، و”أهل الديرة” لإبراهيم قبازرد، و”بادية الصحراء” و”الطيور” لخالد النصر الله، و”الفجر الحزين” لعبدالرحمن المسلم، و”البقاء للصحراء” لطلال شويش، وهؤلاء واصلوا تعميق المسار عن الكويت القديمة؛ السور والبيوت والبشر، وأيضاً حياة الصحراء وأهلها وأحيائها، وكم كان رائعاً منهم مزجُ الدراما مع الوثائقي، والسرد مع البيئة الطبيعية، بحرفية فنية عالية المستوى! وقد واصل هؤلاء المخرجون تجاربهم، وبعضهم ينتمي للمسرح، وآخرون للتلفزيون.

وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تواصلت إبداعات الأفلام القصيرة، فأنجز عبدالله المخيال فيلماً عن البادية وعالمها بعنوان “في أثر أخفاف الإبل”، وظهر الجيل الجديد، الذي نهل من الإبداع القصصي الكويتي المكتوب، أو صيغت لهم سيناريوهات درامية من كتّاب السيناريو الجدد، تناولوا فيها مشكلات مجتمعية، وهموماً فردية، ومخاوف الحياة، فأبدع المخرج الصاعد وليد العوضي فيلميه “صمت البراكين”، و”أحلام بلا نوم”، ومعه المخرج جاسم يعقوب في فيلميه “زين” و”احتضار”، وأيضاً زياد الحسيني في فيلميه “النقي” و”كما تخيلتم”، ومعه عبدالله بوشهري في فيلميه البديعين “بطل كويتي”، و”مهملات”، وحبيب حسين في فيلم “الملاذ الأخير”، ومثّل فيلم “زيت على قماش” للمخرج عامر الزهير تجربة مدهشة في المزج بين الفن التشكيلي والدراما.

وحملت لنا السنوات الأخيرة أسماء مهمة في سينما الأفلام القصيرة، من أبرزهم: يوسف المجيم في فيلمه “صورة جواز”، حيث يروي بشفافية بصرية حكاية شاب يسعى للحصول على صورة جيدة لجواز سفره وخيبة أمله المتكررة في الحصول على تلك الصورة التي يريده، في دلالة على انكباب الذات على نرجسية وعزلة، ويبرز المخرج داود شعيل في فيلم “ضابط مباحث”، ليقدّم لأول مرة فيلماً بوليسياً شيقاً، أما المخرج مشعل الحليل فقد صوّر وقائع من المجتمع الكويتي، في تفاصيله اليومية كما في فيلمه “صالون رجال”، أما فيلمه “شاي حليب” فيأخذنا إلى حكاية أحمد الذي يبحث عن والده بعد اختفائه في ظروف غامضة ليكتشف ما لم يكن يتوقعه عن حياة الأب وتقلباتها، كما لمعت أسماء أخرى في عالم الإخراج من مثل أحمد الخضري، ومشعل المانع، وعبدالله الحنيان.

كويت الغد

في ضوء ما تقدم، نؤكد أن كويت الغد ستُبنَي على ما أنجزته كويت الأمس واليوم، ومن هنا تأتي أهمية ترسيخ الإنتاج السينمائي في الكويت، ليكون معبراً عن هموم الشعب وقضاياه، فلا يمكن التعبير عن مجتمع إلا بإبداع أبنائه، الذين عاشوا على ثراه، وتشرّبوا قيمه وتقاليده، وتفاعلوا مع أحداثه وتبدلاته، خاصة أن هناك كوادر كثيرة، تم إعدادها، ولها إنجازاتها الفردية في الأفلام المستقلة أو القصيرة، أو الدراما التلفزيونية الكويتية، التي هي متميزة خليجياً وعربياً.

وكما يقول المخرج داود الشعيل، فإن السينما الكويتية تحتاج إلى إيجاد بنية سينمائية تحتية، خاصة أن السينمائيين الكويتيين الشباب يصنعون أفلاماً متميزة، ترفع اسم الكويت عالياً في المهرجانات العالمية، ولكنها نخبوية الطابع؛ ولذا، فإن الكويت تفتقد إلى أفلام سينمائية، محبوكة في السيناريو، قليلة في التكلفة، لا تقلّد السينمات العالمية، ولا تمتاح من قصصها، وإنما تناقش قضايا المجتمع، وتعبر عن خصوصيته وهويته، فبعض الأفلام المنتجة حالياً أقرب إلى الحلقة التلفزيونية منها إلى السرد السينمائي في تقنياته، ولا بأس من إنشاء صناديق خاصة لدعم السينما(5)، تساهم فيها أجهزة الدولة ومؤسساتها، ولا بأس من دعم من شركات القطاع الخاص ورجال الأعمال.

ونقرر في هذا الشأن أن السينما صناعة معقدة تعتمد على روافد عديدة؛ تصوير وموسيقى وتمثيل وديكور وإخراج.. لذا فهي في حاجة دائمة إلى التمويل، خاصة أن الأفلام الجيدة تكلفتها عالية، ولا يمكن أن تغطي تمويلها السوق التجارية السينمائية، إلا في حالة تسويقها خليجياً وعربياً، وهي النقطة التي نؤكد من خلالها أن فضاء الحركة للسينما الكويتية هو الخليج العربي أولاً، بحكم تقارب اللهجة، وحب المشاهد الخليجي للفنانين الكويتيين، ثم المجتمع العربي ثانياً بكل أقطاره وشعوبه، فلا يمكن أن يظل المجتمع الخليجي معتمداً على استيراد الأفلام من الخارج، وإنما لا بد من وجود سينما خليجية، تساهم الكويت فيها بما لها من خبرات متراكمة، وتتضافر مع غيرها من بلدان الخليج ومبدعيه.

الهوامش

(1) الكويت والتنمية الثقافية العربية، د. محمد حسن عبدالله، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، أغسطس، 1991، ص214.

(2) قراءة نقدية في أزمة السينما العربية، نديم جرجورة، في كتاب قضايا السينما العربية، سلسلة كتاب مجلة العربي، يوليو 2015، ص19.

(3) السينما في الكويت، عماد النويري، مطبوعات مهرجان الشرق الأوسط، أبوظبي، 2010، ص4 وما بعدها.

(4) السينما في الوطن العربي، جان الكسان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1982، ص286.

(5) السينما الكويتية: تاريخ خجول وآمال جريئة، تحقيق صحفي، وكالة الأنباء الكويتية، 22/3/2017م.

https://www.kuna.net.kw/ArticleDetails.aspx?id=2597475&language=ar

Exit mobile version