الدبلوماسية الشعبية الغائبة في قضية سد النهضة

 

شعوب النيل:

يشهد العالم اهتماماً متعاظماً بالمياه نتيجة التنامي في عدد السكان واحتياجاتها للغذاء، وزيادة الرقعة الزراعية التي تستهلك المزيد من المياه، ونشوء المجتمعات الصناعية الكبرى وتأثير ملوثاتها ومخلفاتها على جودة المياه وصلاحيتها، وعوامل الاحتباس الحراري، وموجات الجفاف التي ضربت مساحات شاسعة من الأراضي الخضراء، وما بين توزيع السكان والأمطار كثرتها أو ندرتها نشأت خلافات بين الدول زادت كلها من هذا الاهتمام المتعاظم بمسألة المياه.

وفي الحضارات القديمة التي نشأت في حوض النيل كان للنيل الكثير من الأهمية في حياة الناس وثقافتهم ومعتقداتهم الدينية ومعابدهم في الكرنك والأقصر وأسوان التي ينتصب فيها الإله خنوم برأس الكبش (إله النيل – أو رب الماء) الذي يجلب الحياة على ضفاف النهر، الذي يقع معبده في مدينة إسنا الواقعة جنوب محافظة الأقصر، والإله حابي المسيطر على فيضان النيل ذو الملامح الذكورية والجسد العلوي الأنثوي الأمر الذي يعكس شخصية أب وأم النيل.

وفي جنوب السودان تنسب الكثير من القبائل إلى النيل فتسمى القبائل النيلية كقبائل الدينكا – الشلك – النوير (للنوير امتداد في دولة إثيوبيا) ولها عادات وتقاليد ذات علاقة وطيدة بالنيل، فما زال النيل في وقتنا الراهن في الدولتين السودان وجنوب السودان يؤدي دوراً مهماً في حياة الناس، في أفراحهم وأحزانهم ومختلف مناسباتهم التي تدفعهم لزيارة النيل لجلب البركة أو كف العين أو إبعاد الأرواح الشريرة.

ولوجود قواسم تاريخية مشتركة بين دول الحوض فستجد عادات وتقاليد مرتبطة بالنيل ما زالت تمارس عند الكثير من القبائل الأفريقية النيلية حتى اليوم بغض النظر عن أصلها سواء كانت من الفرعونية القديمة أو الكوشية أو الخاصة بثقافات أفريقية نشأت في المنطقة منذ القدم.

ولقد أبرزت أزمة سد النهضة في دول حوض النيل أهمية النيل بالنسبة لشعوب الوادي، ورفعت من وعي وثقافة سكان المنطقة بالدور الذي يؤديه في حياتهم، وزادت من اهتمام الدارسين والأكاديميين بالقضية، ولولا هذه الأزمة ربما ظل بعض الناس لا يدركون هذه الأهمية، ولا يعلمون على وجه الدقة من أين يأتي النيل؟ ومن أين ينبع؟ وأين يصب؟ وما علاقة النيل بالطاقة الكهرومائية؟ وما سبب هذا الضجيج الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس؟

على أنه في الاتجاه المقابل ورغماً عن هذا الاهتمام المشترك، يتوجب علينا الاعتراف أن الأزمة التي خلقها سد النهضة بين الدول الثلاث إثيوبيا والسودان ومصر لم تظهر التعاون الحقيقي الذي يعترف بالاحتياجات المتشابهة لتلك الدول، للطاقة والزراعة والتنمية، ولم تسعف فطنة المفاوضين على تقديم مطالب متزنة في طاولة التفاوض كان بإمكانها إغلاق القضية بما يرضي جميع الأطراف، بدلاً عن هذا التفاوض اللانهائي الذي استمر لمدة 9 سنين ونحن على أعتاب العام العاشر دون أن يتحقق تقدم ملموس في الملف، وذلك ما يدعو بالضرورة إلى النظر في طريق جديد داعم ومساعد للجهود الرسمية التي لم تحرز التقدم المطلوب، تمارس فيه الدبلوماسية الشعبية دوراً مهماً في المرحلة المقبلة.

طريق جديد:

الطريق الجديد الذي نعنيه في هذا المقام هو الذي ابتكره الدبلوماسي الأمريكي جوزيف ناي في تسعينيات القرن الماضي تحت ما أطلق عليه مصطلح “القوة الناعمة” أو الدبلوماسية الشعبية التي تقوم على مرتكزات مهمة تمتلك فيه الشعوب وقوى المجتمع المدني الحية المدركة لأهمية التواصل الشعبي لزمام المبادرة في تقريب الشقة التي تصنعها خلافات الدول في بُعدها الرسمي، فالدبلوماسية الشعبية التي ينبغي أن تعمل بحياد بعيداً عن الدبلوماسية الرسمية حتى تتمتع بالمصداقية لأداء رسالتها تعتبر أهم أزرع الدبلوماسية الرسمية فيما تساعد به على تحقيق الأهداف بأقرب الطرق.

ذلك الطريق الذي يرتكز على الثقافة ذات التأثير الكبير حسب تعبير الدبلوماسي البريطاني أنتوني بارسونز: “إن استأنست بلغة أحد وأدبه، إن عرفت وأحببت بلاده، ومدنها، وفنونها وشعبها، ستكون مستعداً بشكل لا شعوري لاقتناء ما تريده منه أكثر من مصدر لا تعرفه بدقة، ولدعمه حين تعتبر أنه على صواب، ولتجنب معاقبته بقسوة إن أخطأ”.

والمرتكز على الرياضة وما يمكن أن تؤديه من دور في طي أزمة الخلافات السياسية بين الدول وإذابة جبال الجليد بينها، كما فعلته من قبل في التقريب بين الصين واليابان في عام 2008م حينما قرر الرئيس الصيني السابق «هو جينتاو» الخوض بنفسه مباراة تنس الطاولة في جامعة أوكوما اليابانية بطوكيو، وما بين تركيا وأرمينيا في عام 2010م، وما بين الكوريتين حينما شاركت كوريا الشمالية في أوائل يناير 2018م في دورة الألعاب الأولمبية في كوريا الجنوبية، وهو ما أدى إلى حدوث تطورات لافتة في مسار العلاقة بين البلدين بعد عقود من التوتر ظلت مخيمة على علاقاتهما.

والمرتكز على الأعمال الأدبية التي يساهم فيها كتَّاب مصر والسودان وإثيوبيا بإثراء ساحتها بالتأليف والنشر والترجمة وهو دور مطلوب ومرتجى تفعيله بشكل أكبر من اتحادات الكتَّاب في الدول الثلاث وفي عموم أفريقيا، فالخيال الإبداعي للكتَّاب والأدباء وفقاً لتعبير نائب رئيس اتحاد كتَّاب مصر الكاتب مختار عيسى: “يتيح لنا فرصة صناعة مستقبل أفضل”.

والمرتكز كذلك على التعليم بزيادة فرص المنح الدراسية المتبادلة، وعلى الإعلام الحر الصادق غير المتهافت الذي يفتقر للمهنية ويعجز عن التعبير عن أهمية العلاقات الإستراتيجية بين دول الجوار التي تشكل لبعضها بعضاً عمقاً إستراتيجياً وحيوياً مهماً عندما تضخم الخلافات العابرة وتدق طبول الحرب بدلاً عن التبشير بالسلام.

وإن هذه المرتكزات جميعها وعلى اختلاف أساليبها ووسائلها إلا أنها تعمل من أجل تحقيق هدف واحد هو رفع الجهل عن ماهية الشعوب الأخرى، عن تاريخها، حضارتها، ثقافتها، تطلعاتها نحو المستقبل والإمكانيات التي تتمتع بها، ورفع الجهل يؤدي إلى المعرفة وذلك يقود بالضرورة إلى الاحترام المتبادل.

مبادرات مطلوبة:

في العام 2011م كان بداية العمل في سد النهضة المشروع الحلم عنوان نهضة دولة إثيوبيا الشقيقة، وفي الوقت نفسه كان بداية الخلاف السياسي والفني والإعلامي بين الدول الثلاث، ولقد ذكرنا في المقال السابق على ذات الموقع أن الدول الثلاث قد استدعت “كل أدوات إثبات الحق أو نفيه قد تناسوا عمداً أو سهواً دور الشعوب التي إن بسطت لها طرق اللقاء والتحاور والتواصل لوجد أن نقاط الاتفاق والتلاقي أكبر وأوسع من نقاط الاختلاف والتخاصم”.

وطيلة سنوات التفاوض التي مضت لم نشاهد في لقاءاتها الرسمية أو جلسات التفاوض برامج فنية أو ثقافية أو رياضية مصاحبة، بل على العكس من ذلك شاهدنا وقرأنا وسمعنا الإعلام الموجه غير المنضبط أحياناً، الذي فشل في توجيه المواقف الرسمية من تحقيق اختراقات ملموسة في الملف، وإن المدة الزمنية التي استغرقها العمل السياسي والفني والقانوني لو أتيحت بالتوازي معها فرص معتبرة للمبادرات الشعبية ومجهودات منظمات المجتمع المدني لأمكنها تجسير الهوة بين المواقف وتقريبها.

إن زيارة الوفود الشعبية من الدول الثلاث لسد النهضة، للقرى الإثيوبية النائية التي تنعدم فيها الكهرباء عما يقارب الـ66% من السكان هناك، للوقوف على احتياجاتهم للطاقة، للصناعة، للزراعة ومختلف الخدمات، للوقوف على تطلعات دولة حبيسة عديمة المنافذ تتطلع لخلق حياة كريمة لشعبها، أصبح أمراً ضرورياً لا بد منه.

وإن زيارة القرى في مصر التي ينحسر عنها النيل، التي ستخرج منها أراض معطاءة كانت تنبض يوماً بالحياة، الأرض التي تنتظر النيل في الوقت الذي تضن عليها السماء بالمطر الذي يهطل مدراراً في إثيوبيا والسودان، وأحال أغلب أرض مصر جرداء تعيش فقط في مساحة لا تتجاوز الـ10% من أرضها، أصبح أمراً ضرورياً لا بد منه

وإن زيارة السودان لملايين الأفدنة الصالحة للزراعة، التي تنتظر من يزرعها لتكفي جميع سكان الوادي الأعلى والأدنى وتفيض بالخير على الجار القريب وذوي القربي، للوقوف على شح الطاقة، على الساعات الطوال التي تنعدم فيها الكهرباء في قلب الخرطوم فضلاً عن القرى البعيدة، للوقوف على المصانع المتوقفة والتنمية التي تتعثر تنهض يوماً وتلازم مكانها أياماً، أصبح أمراً ضرورياً لا بد منه.

وإن الغناء للنيل، والتفكير في النيل، والمحافظة على النيل، وتثقيف الشعوب عن أهمية النيل، أصبح أمراً ضرورياً لا بد منه.

وإن من الضروريات الملحة إنشاء المنصات الإعلامية المتخصصة، الإذاعات والقنوات والصحف التي تلقي الضوء على ما يزخر به الإقليم من ثروات طبيعية ضخمة وإنسان على درجة من الوعي والإبداع بالدرجة التي تمكنه من النظر للمشتركات التي يمكن أن توحد شعوب المنطقة بالتعاون فيما بينها لإحداث التكامل السياسي والاقتصادي والثقافي وتبني جسور الثقة المفقودة.

إن يوم النيل الذي تحتفل به مبادرة وادي النيل منذ العام 2007م الذي يصادف 22 فبراير من كل عام يعتبر مناسبة مهمة لتفعيل هذا الدور وزيادة الاهتمام به، وإسناده بالدور الشعبي الغائب الذي يمكن أن ينجح فيما فشل فيه الدور الرسمي طيلة سنوات التفاوض الماضية.

 

 

______________________________________

(*) الكتَّاب:

1- ياسين أحمد بعقاي: كاتب وإعلامي إثيوبي، رئيس المعهد الإثيوبي للدبلوماسية الشعبية، السويد.

2-  روضة علي عبدالغفار: صحفية مهتمة بالشؤون الأفريقية، مصر.

3-  يوسف عبدالله ريحان: كاتب ومهتم بقضايا المياه، السودان.

Exit mobile version